آراء

كيف نقرأ الاتفاق الإماراتي مع إسرائيل؟ (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن الاتفاق الإماراتي نع إسرائيل ، حيث نود أن نطرح هذا السؤال الآن : لماذا اتخذت الإمارات هذا القرار التاريخي الصعب؟ وما معناه؟ وإلى أين يمكن أن يؤدى بأطراف الاتفاق الثلاثة: الإماراتي، الإسرائيلي، الأمريكي؟

وللإجابة عن هذا السؤال نقول مع عماد الدين أديب بأنه فى علم التفاوض يقال بأن أفضل الأوقات للحصول على أفضل النتائج من أى مفاوضات هو حينما يكون الطرف الثاني أكثر حاجة منك للاتفاق.. "نتنياهو" يعانى من أزمته الداخلية، وهو غير قادر على تطبيق صفقة الآن أو إلغائها، و"ترامب" يعانى من مثلث الكورونا، تدهور الاقتصاد، غضب الأقليات وتظاهراتهم.. إذاً هذا هو الوقت الأفضل للحصول على اتفاق لصالح الفلسطينيين.. هذا إن دل علي شئ فإنما بدل علي مدرسة التفكير التى أرساها الشيخ زايد وأحفاده من بعده، هى نمط تفكير عملى براجماتى يسعى لتحقيق المصالح بأكبر قدر من الحكمة، مع الحفاظ على كل مبادئ مؤسس دولة الإمارات.

وأما فيما يتعلق بسؤال : ماذا أعطت الإمارات في هذا الاتفاق؟ وماذا ستأخذ؟ وماذا سيأخذ الأشقاء؟ وهل سيخسرون شيئاً؟ ومن سيكون مع الخطوة الإماراتية الاختراقية؟ ومن سيقف ضدها حتى الموت؟.. والإجابة هي أن ما حدث ببساطة تغيير جوهري فى قواعد الصراع العربي - الإسرائيلي، لأنه خطوة عملاقة نحو عالم أرحب.

إن معاهدة السلام بين دولة الإمارات وإسرائيل، تشكل قراراً استراتيجياً وشجاعاً لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وتعكس قراءة سموه الجيدة والدقيقة للأوضاع العامة التي تشهدها المنطقة، وتجسد موقع دولة الإمارات ورصيدها الدولي، وإمكانية استخدامه في الساحة الدولية.

كما الاتفاقية تمثل فرصة لمعالجة مسألة أصبحت مقلقة للكثير من الدول، وهي مسألة القرار الإسرائيلي بشأن ضم الأراضي الفلسطينية، وواقع القضية الفلسطينية الذي يبرهن عبر السنوات، أن الوقائع على الأرض تسهم في تغير طبيعة الحلول خلال المراحل اللاحقة.

وتوجد عوامل أخرى ساهمت في معاهدة السلام، فدولة الإمارات تحتل موقعاً اقتصادياً مهماً، ويعتبر اقتصادها من أهم وأحدث الأنظمة الاقتصادية الموجودة في المنطقة، وهو ما جعل الدولة مركزاً لكثير من الأنشطة والفعاليات واستضافة المنظمات والهيئات، ومنها استضافة الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (آيرينا)، حيث يُعد جزءاً من الالتزامات بالاستضافة هو وجود بعثات لدول العالم كافة، ومنها وجود بعثة إسرائيلية في أبوظبي، إضافة إلى استضافة (إكسبو)، حيث وجهت الدولة الدعوة لكل دول العالم، بما فيها إسرائيل، للمشاركة في المعرض، وبالتالي كانت مسألة قرار العلاقات الطبيعية الاعتيادية مع إسرائيل قرار قادم لا محالة، خاصة مع وجود العلاقات الرسمية وغير الرسمية لإسرائيل مع الدول الإقليمية

هنا يأتى السؤال العظيم: هل يفهم الأشقاء العرب الخطوة الإماراتية ويبنون عليها؟ هل تصدق إسرائيل فى تعهدها؟ وهل يلعب الأمريكي دور الضامن الصادق للاتفاق الثلاثي؟

وللإجابة علي السؤال دعونا نقرأ التاريخ جيداً فنقول مع عماد الدين أديب بأنه منذ عام 1948 والقضية الفلسطينية من سيئ إلى أسوأ، ويوماً بعد يوم تغرب شمس الحلول ولا يبقى سوى الاستسلام للأمر الواقع؛ فمنذ عام 1948 وكل من حاول الاقتراب بالحل السلمى أو العمل العسكرى فى الصراع العربى الإسرائيلى دفع فاتورة غالية من الحاج عبدالقادر الحسيني إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز، ومن أنور السادات إلى ياسر عرفات، ومن الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى الرئيس أبومازن، الجميع يدفعون فاتورة غالية للمحاولة، وإسرائيل هى التى تحصّل الثمن وتفوز بالجوائز!.. ذلك كله يجعلنا نسأل لماذا لم يشتر محمد بن زايد راحته، ويتجنب "الصداع الاستراتيجى" الذى سوف يصيبه جرَّاء الاشتباك بالحوار المباشر مع إسرائيل؟

كان من الممكن أن يكتفى الرجل بدفع قسط الدعم السنوي للسلطة الفلسطينية، وإرسال طائرات المساعدات فى المناسبات الدينية وعند الكوارث والأزمات للشعب الفلسطيني الصبور، وهنا يصبح كما يقول أهل مصر: "عدّاه العيب".. كان من الممكن أن يفعل مثل كثير من زعامات المنطقة أن يصدر بيانات الشجب والتنديد، ويتبع سياسات المقاطعة الشاملة والكاملة للعدو الإسرائيلي، ويتعامل معه وكأنه ليس موجوداً على الخارطة السياسية.. يدرك محمد بن زايد، كدارس للاستراتيجية، أن القائد الحكيم هو الذى يحوّل الأزمات إلى فرص ومكاسب، وأنه فى سبيل ذلك عليه أن يتحلى بشجاعة المواجهة.. ويدرك، كطيار مقاتل، أن قواعد الاشتباك الجوي الحديثة يتم حسابها بالثانية واللحظة، لأن التأخر فى جزء الجزء من الثانية يعطى السبق للعدو المقابل لك في أن يطلق صاروخاً ذكياً قاتلاً!

تشاور "محمد بن زايد" طويلاً مع إخوته ومساعديه فى مغزى وتداعيات قرار الحكومة الإسرائيلية السابق بضم غور الأردن وما بقى من الضفة الغربية، وأدرك الرجل بما لا يدع مجالاً لأى شك أن هذا القرار فيه طلقة الرحمة النهائية على المبادرة العربية للسلام، وأن أى حوار بعد ذلك لا معنى ولا قيمة له، لذلك لم يكن القرار متعجلاً، بل اتخذ تفكيراً عميقاً ووقتاً يساوى أهميته.. وأدرك الرجل بحسه الاستراتيجى أن الضم سوف يضع حليفيه (الرئيس السيسى والملك عبدالله الثانى) فى وضع يضطرهما إلى تجميد وتحطيم أى تعاقدات أو اتفاقات أو جسور حوار مع إسرائيل، وبالتالى يذهب أى جهد للسلام منذ عام 1977 إلى الجحيم بلا عودة وتذهب اتفاقيتا السلام المصرية ووادى عربة الأردنية أدراج الرياح.. ويدرك الرجل أيضاً أن المنطقة متفجرة بما فيه الكفاية، وأن الصراعات الدموية الحالية تحمل شعوبها ما لا يطاق ولا يحتمل.. ويدرك أن إيران المأزومة فى صراع وجودي مع معسكر الاعتدال، ويدرك أن "أردوغان" الأحمق الذى يعانى من خلل فى الإدراك يعيش على ضلالات إعادة الخلافة العثمانية بالقوة المسلحة حتى لو كان على جثث وأشلاء البشرية جمعاء.. ويدرك محمد بن زايد أن الأمن القومى مستباح بالوجود الروسى، الإيرانى، التركى، فى سوريا، والوجود العسكري الأمريكى، الإيرانى، التركى، فى العراق، وصراع تركيا وفرنسا واليونان وقبرص ومصر والروس فى ليبيا، وشرق المتوسط.

علاوة علي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، يتسم بقراءته المتميزة، فإنْ كان قرار العلاقات الطبيعية قادماً لا محالة خلال عام أو عامين، فإنه ينبغي النظر إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب في المنطقة، من خلال إلغاء ما يهدد حل الدولتين وهو ضم الأراضي الفلسطينية إلى إسرائيل، إضافة إلى النظر في البُعد الإماراتي، فالقرار بلا شك يعتبر تغييراً «جيو استراتيجياً» مهماً في المنطقة، وسيعزز علاقاتنا مع الولايات المتحدة من خلال الاتفاقية، وسيطور من علاقاتنا الدفاعية والاقتصادية، وموقعنا من خلال التغير الجوهري في طبيعة العلاقة مع إسرائيل.  وبيّن معاليه أن الإمارات قررت، خلال العام الماضي، التفريق بين الشق السياسي في علاقتها مع إسرائيل، فهناك مشكلة وخلاف يجب أن يحل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبين الشق غير السياسي، ففي الإمارات قررنا الفصل بين الجانبين، ومع وجود العوامل السابقة، جاء القرار بأنها الفرصة المناسبة لاتخاذ القرارات الجريئة التي تغير المنطقة للأفضل.

كما أن معاهدة السلام تعتبر التزاماً من 3 دول، وعلى رأسها الولايات المتحدة كدولة تعرف جيداً الطرفين وترتبط بعلاقة مميزة معهما، والالتزام متشعب ومتعدد الأطراف، ويشمل تجميد ضم الأراضي الفلسطينية، وبالتالي يزيل همّاً رئيساً في السياسة الدولية، خاصة مع العديد من الاجتماعات التي شاركنا فيها وجلسنا خلالها للنقاش، والقلق المتزايد من فرض الأمر الواقع على الأرض.

ولفت معاليه إلى أن الحل يبقى لدى أطراف الصراع، الفلسطينيين والإسرائيليين، حيث ندعو للتحاور والمفاوضات والاستمرار فيها، ومن المهم استغلال الفرص، خاصة أن واقع الصراع العربي - الإسرائيلي هو واقع العديد من الفرص الضائعة

وهنا طرح محمد بن زايد السؤال الكبير على نفسه: ماذا لو تدهورت كل هذه الصراعات المجنونة، وأضيف إليها الصراع الأخطر والأكثر تعقيداً وهو الصراع العربى الإسرائيلى بعدما تكون إسرائيل قد ضمت الأراضى قولاً، وتشريعاً، وفعلاً؟

والإجابة علي هذا السؤال نقول مع عماد الدين أديب : لو حدث، وتم الضم لغور الأردن والضفة ماذا سيكون شكل المنطقة؟ وكيف ستستغل قوى، مثل إيران، وتركيا، وقطر، هذا الإجراء؟ وكيف سيؤدى هذا الفعل الأحمق إلى تقوية مشروعات قوى الإرهاب التكفيرى مثل: داعش، والقاعدة، وجبهة النصرة، والحشد الشعبى، وحماس، وحزب الله، والحوثيين، وبوكو حرام؟

إذاً لا بد من فعل أى شىء وكل شىء لمنع هذا الجنون الآتى.. هذا هو الفهم العميق لدولة الإمارات لطبيعة الأزمة، وتلك هى قراءة محمد بن زايد، والدبلوماسية الإماراتية للموقف.. ويدرك محمد بن زايد، بفهمه الإنسانى، وخبرته فى الحكم والإدارة، أن «المشاركة فى جريمة ضياع حقوق الأوطان ليست مقصورة على الفاعل المباشر فقط، ولكن المشاركة قد تكون بأشكال مختلفة.. هناك من يشارك بالتآمر، وهناك من يشارك بالتمويل، وهناك من يشارك بالغطاء السياسى، ولكن أكثر المشاركات العربية شيوعاً وقسوة فى القرن الماضى، هى جريمة المشاركة بـ«الصمت والتغاضى.. الصمت مريح والتغاضى سهل، لكنه لا يشفى ولا يحل الأزمات، بل يؤججها ويجعلها تصبح أشد دماراً حينما تنفجر فى وجه من تغاضى عن حلها.. وفى إيجاد تفاصيل التفاصيل حول هذه المعضلة حرص الشيخ عبدالله بن زايد، والدكتور أنور قرقاش، على تأصيل حجم المشكلة والتفكير العلمى فى إمكانية وجود حلول عملية وبدائل ممكنة لإيقاف هذا "الكابوس الاستراتيجى" وذلك حسب كما يقول عماد الدين أديب في مقاله السابق.

وهنا نسأل: ماذا فعلت الإمارات بالضبط وبالدقة؟... وهنا يجيبنا صناع القرار الإماراتى فيقولون : "ما فعلناه ببساطة هو استغلال واستثمار الرغبة الإسرائيلية الدائمة لإقامة علاقات طبيعية معنا (وهو أمر متدرج يأخذ حيزاً زمنياً) مقابل إعلان إسرائيل وبضمانة أمريكية تجميدها لعمليات الضم (وهذا ثمن دُفع مقدماً).. معنى كلام المصدر واضح وصريح ولا يحتاج لعبقرية لفهمه: "التجميد لقرارات الضم مقابل إقامة علاقات طبيعية"، بمعنى أن الإمارات حصلت على ثمن فورى لفعل آجل.. وكان من الأسهل تماماً على دولة الإمارات أن تفعل كما يفعل غيرها، أن تقيم جسور حوار سرية، أو تكتفى بزيارات مسئولين إسرائيليين لحضور ندوات ومؤتمرات دولية فى الأعوام من 2013 حتى 2017، وفى المشاركة فى مؤتمرات ومعارض وندوات وجلسات حوار تشارك فيها إسرائيل ولكن دون علاقات دبلوماسية أو ظهور علنى للطرف الإماراتى، أو تكتفى بدعوة إسرائيل للمشاركة فى مؤتمر للطاقة أو معرض إكسبو 2020 فى دبى.. باختصار تقدم الإمارات طوعاً الجزء الخاص بها فى الاتفاق: حوار، واتفاق، وتبادل سفارات، وتعاون فى ظل علاقات طبيعية، من أجل أن تمنع كارثة على المنطقة «وتفتدى غور الأردن والضفة".

وحول الجهود التي تمت لإعلان المعاهدة خلال الفترة الماضية، أشار معاليه إلى أن استضافة "آيرينا" و"إكسبو" والاتفاق الثنائي بين الشركات الإماراتية والإسرائيلية للتعاون في إيجاد الحلول الطبية لمواجهة فيروس "كوفيد – 19"، جميعها تشكل تطورات تدريجية، أما العمل التنفيذي فبدأ من خلال فرق العمل خلال الأسابيع الماضية، حيث تم النظر في الموضوع وإمكانية تحقيقه، ورأينا أننا أمام فرصة ذهبية للاتفاق العربي الإسرائيلي، وهذا الاتفاق ليس الأول أو الأخير بين العرب وإسرائيل، إلا أن ما يميز هذه المعاهدة هو وجود النتيجة الفورية المتمثلة في وقف ضم الأراضي وحماية حل الدولتين، وهو المبدأ الأساسي الذي يجب أن يبنى عليه لحل الصراع عبر الجلوس والحوار واستثماره للتوصل لحل دائم. ولفت معاليه إلى أن إسرائيل كانت حاضرة خلال السبعين عاماً الماضية وجميع القرارات العربية الماضية تقر بوجودها، فيما يتمثل الخلاف الأساسي حول حق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ونحن نقف مع هذا الحق، ولكن لو سمحنا بضم الأراضي، وانطلاقاً من واقع الممارسة الذي رأيناه تاريخياً، فإننا كنا سنرى وقائع تختلف في الأرض، وبالتالي هذه الفرصة المتاحة اليوم ستصبح صعبة جداً لاحقاً، ولذلك نحن أمام واقع يجب التعامل معه، ومنطق المعاهدات الجيدة يستند إلى الأخذ والعطاء، وهو ما تم الإعلان عنه.

وهنا نستخدم المنطق البحت والمجرد، هل كان هناك سيف على رقبة الإمارات للتوصل إلى هذا الاتفاق؟ هل كانت التظاهرات الشعبية - مثلاً- فى أبوظبى ودبى سوف تخرج تطالب بإلحاح بمثل هذا الاتفاق؟... الإجابة: بالقطع لا، لكنه قرار جاء من وحى الضمير والمسئولية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

.....................

المراجع

1-عماد الدين أديب: سر الاتفاق الإماراتى مع إسرائيل (1) .. (مقال).

2- ــــــــــ سر الاتفاق الإماراتى مع إسرائيل (2) .. (مقال).

3- منى الرئيسي: سياسة الإمارات.. دولة السلام.. (مقال).

 

في المثقف اليوم