آراء

احمد عزيز الدين: إعادة تطاير الكتب في الأرض الله المقدسة

ليس هناك قضايا مُستحكمة تواجه العالم أكثر من القضية الإسرائيلية الفلسطينية. فهذه القضية لا تبرح من بقعة ضوء وسائل الإعلام، والاشتباكات الأخيرة في غزة تذكّرنا بأنّ هذه القضية مازالت تراوح مكانها. إنّها قضية متعددة الأبعاد تحمل في طيّاتها بعدًا تاريخيًا وآخر سياسيًا. في هذه المدوّنة القصيرة، أريد أن أنظر فقط إلى البعد الكتابي (البيلي) للمسألة وستكون نظرة خاطفة[1]. آمل أن يكون طرحي كافيًا لإثارة مسائل مهمة.

إنّ البعد الكتابي أمر بالغ الأهمية للمسيحيين الإنجيليين لأنّ “الإنجيليّة” باتت تُفهم على أنّها تتبنّى موقفًا معينًا يُطلق عليه اسم “الصهيونية المسيحية”، وهو اعتقاد بأنّه لمن الواجب على المسيحيين الاعتراف بدولة إسرائيل ودعمها كتحقيق للوعود الكتابية في عصرنا الراهن.

تستمد الصهيونية المسيحية أصولها من طريقة تفسير معيّنة للكتاب المقدّس، أي طريقة قراءة معيّنة للكتاب المقدّس. سأخاطر في الإفراط في تبسيط طريقة التفسير هذه وأختصر مبادئها بالتالي: 1) تعريف إسرائيل على أنها السلالة العرقية البيولوجية لإبراهيم وإسحق ويعقوب. 2) يجب أن تتحقّق وعود الكتاب المقدّس بحدود أرض إسرائيل على نحو حرفي. 3) إن إعادة تأسيس دولة إسرائيل تحقق النبوة الكتابية وتحضّر لمجيء المسيح الثاني.

في الوقت الذي أقدّر فيه محاولة المسيحية الصهيونية أخذ الكتاب المقدس على محمل الجد، أعتقد أنّ تطبيقات الموقف وانعكاساته مضله. آمل أن أقترح تفسيرًا كتابيًا آخر – طريقة لقراءة الكتاب المقدّس التي يمكن أن يطلق عليه اسم “التحقيق” أو “إسرائيل الشاملة والموسّعة”. يأخذ هذا التفسير أيضًا الكتاب المقدس على محمل الجد، ويتضمن مبادئ كتابية واضحة وعاجلة تتجاهلها المسيحية الصهيونية أو تفهمها على نحوٍ مختلف[2].

أولاً، كان الهدف من اختيار الله لإبراهيم ونسله (سليلته البيولوجية) هو أن يُحضِر بركته إلى جميع أمم الأرض. ونجد هذا التصريح الكلاسيكي في سفر التكوين 12: 3 ” وَتتباركُ فيك جميعُ قبائلِ الأرضِ .”و في القرآن " أنّْ ابراهيم كان أمة " بدأ انتشار البركة إلى أمم عديدة على الفور، حتى قبل ولادة إسحق حين أُعطي إسماعيل علامة العهد أي الختان. إنّ حكمة يوسف أنقذت مصر والبلدان المحيطة بها من دمار المجاعة. حتّى الخروج جعل إله إسرائيل معروفًا للمصريين. على الرغم من أنّ احتلال الأرض في حكم يشوع غالباً ما يُنظر إليه كمبرر كتابي لسياسات إسرائيل التوسعية المعاصرة فهو في الواقع يكشف شخص الله الذي يعاقب الشر. (تكوين 15: 16؛ تثنية 9: 4-5). إن عطية الأرض لم تكن بسبب استحقاق إسرائيل، بل بسبب محبة الله، لكي ترى جميع الأمم نعمته لإسرائيل وتعبده. تُعتبر مباركة ملكة سبأ لإله إسرائيل واحدة من الأمثلة العديدة لكيفية تحقيق هذا الهدف (1 ملوك 10: 6-9).

ثانياً، لم يكن العرق، أو الأصل البيولوجي، أبداً العامل الوحيد في تحديد هوية إسرائيل[3]. تتحقّق بركة الله من خلال “نسل” إبراهيم – أي سليلته الجسدية. سنناقش أدناه من سيُحقق هذا الوعد. غير أنّ، الانتماء لأمة إسرائيل لم يكن على أساس العرق فقط، لأنّ نسل إبراهيم كان سيكون عددهم كنجوم السماء أو الرمال على شاطئ البحر (تك 15: 5؛ 22 :17؛ 26: 4). هذه الوعود ستكون مستحيلة لو كان ستتحقق من خلال عرق واحد فقط. نجد أوضح بيان لهذا التوسّع في تكوين 17 عندما تم تغيير اسم أبرام إلى إبراهيم لأنه سيكون أبا لعدد كبير من الأمم. حتى في العهد القديم، انضم أشخاص من غير اليهود إلى شعب إسرائيل (مثل عبيد إسرائيل المختونين، راحاب، راعوث). بالإضافة إلى ذلك، فقد بعض اليهود العرقيين امتيازات الأرض بسبب عدم أمانتهم (انظر سفر العدد 16 و25). تتوقع المزامير ونبوءات العهد القديم إدراج العديد من الشعوب في شعب إسرائيل (مز 2: 8؛ 22 :27؛ 67: 7؛ إش 49: 6). وتصل هذه التوقعات إلى ذروتها في التحقيق النبوي في العهد الجديد، حيث يدخل الناس من كل قبيلة ولسان إلى حظيرة أسرة إبراهيم.

ثالثًا، يجب قراءة العهد القديم في ضوء العهد الجديد. تسير أحداث قصة العهد القديم نحو حالة من الاكتمال وهذا الاكتمال يتجلّى في المسيح. إنّه من نسل إبراهيم وتحقيق ما ترنو إليه إسرائيل في العهد القديم. هو ابن الله الحقيقي الذي يُدعى “من مصر” (راجع خر 4: 22، متّى 2 :15). يعلن عن نفسه أنّه الشخص الذي كتب عنه موسى (يوحنا 5 :39، 46؛ لوقا 24 :44). كما يقول للقادة اليهود الذين كانوا في أيّامه (اليهود العرقيين) أنّهم ليسوا أبناء إبراهيم (يوحنا 8: 39-44) – تحول مذهل يشير إلى أنّ العلاقة مع إبراهيم لا تستند إلى رابط الدم فحسب.

ما قدّمه يسوع، طوّره الرسل ونشروه. المسيح هو نسل إبراهيم وكل من هم “في المسيح” هم من نسل إبراهيم كذلك جميع الذين “في المسيح” هم نسل إبراهيم (رو 2: 28-29؛ 4 :12؛ أف 3: 6؛ غل 3: 29). كان موسى قد عرّف إسرائيل على أنّها “كهنوتٌ ملوكيٌّ، أمّةٌ مقدَّسةٌ، شعبُ اقتناءٍ، لكي يخبرُوا بفضائلِ الَّذي دعاكم من الظّلمةِ إلى نورهِ العجيبِ “. بطرس، بسلطة رسولية، يطبّق هذا التعريف على شعب المسيح من اليهود والوثنيين على حدّ سواء (ا بط 2: 9؛ خر 19: 6).

رابعًا، تمامًا كما توسّع الكتب المقدسة هوية إسرائيل بالمسيح إلى جميع الأمم، فإنها توسّع أيضًا وعود الأرض لتشمل المعمورة كلّها. لا يبدأ محور الأرض في الكتاب المقدّس في الإصحاح 12 من سفر التكوين، لكن في الإصحاح الأوّل من هذا السفر[4]. غرض الله منذ البداية كان للأرض أن تكون هيكلًا حيث يهتم حاملو صورته بمحبة في الخليقة، عاكسين عبادة طاهرة ومقدّسة له. كانت الوصيّة الأولي لإبراهيم الذهاب إلى أرض سيظهرها الله له (تكوين 12: 1). لا حقًا قال الله لإبراهيم “قمِ امشِ في الأرضِ طولها وعرضها، لأَني لك أُعطيها” (تكوين 13: 17). ثم يعد الله بأن يعطيه الأرض الممتدة من نهر مصر إلى نهر الفرات (تك 15: 18). وسوف ينتشر نسل إبراهيم ليكون مثل غبار الأرض ويمتد من المشرق إلى المغرب (حرفياً من مشرق الشمس إلى مغربها) ومن الشمال إلى الجنوب (تكوين 28: 13-14). من الفصول الأولى من سفر التكوين، صُمّم وعد الله في الأرض لتوسيع الأرض وإصلاحها للأهداف التي أعرب عنها الله في الخليقة والتي خسرتها الأرض بسبب السقوط.

تماشيًا مع موضوع التوسع هذا، يقول يسوع أنّ الودعاء سيرثون الأرض. إنها إعادة صياغة لمزمور 37: 11 بإعطاء الأرض للذين يتبعون يسوع في وداعة وتواضع. يقول بولس أيضًا أنّ الوعد لإبراهيم بأنّه سيرث العالم (رو 4: 13). بالنسبة لبولس، امتدت حدود إسرائيل إلى كلّ العالم. يصور المشهد الأخير من سفر الرؤيا تحقيق ذلك بنزول المدينة السماوية إلى أرض جديدة (رؤ 21-22).

خامسًا، يحترم المسيحيون ويكرمون الشعب اليهودي باعتباره المستلمين الأصليين لوعد الله ومصدر البركة لجميع الأمم. كما يقول الرسول، “الذينَ هم إسرائيليّون، ولهم التبنّي والمجدُ والعهود والاشتراعُ والعبادةُ والمواعيدُ، ولهم الآباء، ومنهم المسيح حسب الجسد، الكائن على الكلّ إلهًا مباركًا إِلى الأبدِ. آمِينَ.” (رو 9: 4-5)

سيصوّر البعض هذا التفسير كـ “لاهوت الاستبدال” – سوء فهم مأساوي للكتاب المقدس الذي ساهم في معاداة السامية وكارثة النازية. لم “تُستَبدَل” إسرائيل بل توسّعت واغتنت بضم الأمم في المسيح إليها. يتمحور تحقيق إسرائيل أو شموليها في شخص المسيح. يقول الكتاب المقدس أن عدة آلاف من اليهود آمنوا في أيام الكنيسة الأولى (أعمال 21: 20). كثيرون منهم يعتنقون المسيح في يومنا هذا أيضًا. لذلك نحن كمسيحيين أمم نتمتع بمكانة التبني في عائلة الله مع إخواننا وأخواتنا المسيحيين أشقائنا الأكبر. كما أننا ننظر إلى الشعب اليهودي باحترام، منتظرين اليوم الذي سيعود فيه كثيرون منهم إلى عائلة الله (رومية 11: 17-24).

إذًا كيف يغير هذا التفسير نظرتنا إلى القضية الإسرائيلية الفلسطينية؟ إنّه يحررنا لننظر إلى القضايا من خلال المحاور الكتابية الأوسع مثل العدالة ومحبة الله للبشرية جمعاء. يجب على المسيحيين أن يحبوا الشعب اليهودي وأن يكرموه لأنّه النسل الذي جاء المسيح من خلاله. يجب على المسيحيين أن يحبوا الفلسطينيين كما هم، لأنّهم مثلنا نحن الوثنيون الآخرون، هم عرق تألّم المسيح ومات من أجله. إن تلخيص بولس المهيب لشعب الله الشمولي يضع الأمور في نصابها:

أَنّكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيحٍ، أَجنبيين عن رعويّة إسرائيلَ، وغرباءَ عن عهودِ الموعدِ، لا رجاءَ لكم، وبِلاَ إِلهٍ في العالمِ. ولكن الآنَ في المسيحِ يسوعَ، أنتم الَّذين كنتم قبلاً بعيدين، صرتم قريبين بدمِ المسيحِ. لأنّه هو سلامنا، الّذي جعلَ الاثنينِ واحدًا، ونقَضَ حائطَ السّياجِ الْمتوسّطَ أي العداوةَ. مبطلاً بجسدِه ناموسَ الوصايا في فرائضَ، لكي يخلقَ الاثنينِ في نفسهِ إِنسانًا واحدًا جديدًا، صانعًا سلامًا، ويصالحَ الاثنينِ في جسدٍ واحدٍ مع اللهِ بالصّليبِ، قاتلاً العداوةَ به. فجاءَ وبشَّركم بسلامٍ، أنتم البعيدين والقريبينَ. لأَنَّ به لنا كلينا قدومًا في روحٍ واحدٍ إِلى الآبِ. فلستم إِذًا بعد غرباءَ ونزلاً، بلْ رعيّةٌ مع القدّيسينَ وأهلِ بيتِ اللهِ، مبنيّين على أَساس الرّسلِ والأنبياءِ، ويسوعُ الْمسيح نفسه حجر الزّاويةِ. (أفسس 2: 12- 20)

تقوم الصهيونية المسيحية بإحياء العداوة التي أتى المسيح لتدميرها. يرجى النظر في أساس كتابي أعمق لمحبة الشعب اليهودي والشعب الفلسطيني على حدّ سواء.

***

بقلم / احمد عزيز الدين احمد

كاتب وروائي وشاعر

..........................

[1]  لمعالجة الموضوع على نحوٍ شامل أكثر، راجع باحث العهد الجديد غاري برج، يسوع والأرض: تحدي العهد الجديد للاهوت “الأرض المقدّسة”، (Grand Rapids, Baker Academic) 2010.

[2] هذه المقالة مختصرة للغاية للتعامل مع النظام اللاهوتي المعروف باسم “التدبيرية” والذي يحتوي على العديد من التعبيرات المختلفة. عند الحديث عن الصهيونية المسيحية، فأنا لا أساويها بالتدبيرية على الرغم من أنه قد تكون هناك مناطق من التداخل بين الاثنين. أنا أفهم أن المسيحية الصهيونية كقراءة شعبية للكتاب المقدس الذي ينتشر بين العديد من الطوائف والكنائس.

[3] لمعالجة موضوع “كل الأمم” في العهد القديم، أنظر إلى كتاب كريستوفر رايت The Mission of God (Downers Grove, IL, IVP Academic) 2006.

[4] انظر منذر إسحاق، من أرض إلى أراضٍ؛ من عدن إلى الأرض المجددة: لاهوت الكتاب المقدس المتمحور حول المسيح عن أرض الموعود (كار ليسل، لانغام مونوغرافيز) 2015.

في المثقف اليوم