آراء

كاظم الموسوي: الولاياتُ المتّحدةُ واحتلال العراق

بعد عشرين عامًا العنوان يتكرّر

عشرون عامًا مرّت على غزو الولايات المتّحدة الأمريكيّة وحلفائها الغربيّين والمتخادمين العرب معها، للعراق، (آذار/ مارس- نيسان/ ابريل 2003) واحتلاله وتدمير دولته تحت حجج وذرائع ثبت خداعها وتضليلها للرأي العام العالمي والمحلّي منذ بدايتها، وفضح جوهر السياسات الإمبرياليّة ومشاريع التخريب والهيمنة والاستغلال وكي الوعي، و"كسب القلوب والعقول" وخطط "الصدمة والرعب". وهذه متناقضاتٌ فضحتها الوقائع والكوارث التي مارستها إدارة الاحتلال في العراق.

كان من بين الكتب المهمّة التي تناولت الحربُ على العراق كتاب "الحرب الخفيّة" الذي كتبته الأستاذة جوي غوردن، أستاذة الأخلاق الاجتماعيّة في قسم الفلسفة وكلية القانون في جامعة لويولا - شيكاغو في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. والعنوان الفرعي له: أمريكا والعقوبات على العراق، وتضمنت محتوياته ما يكشف خطط تدمير العراق، من خلال العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية والمتخادمين معها، غربيًّا وعربيًّا، وما تولّد منها وعنها من تداعياتٍ وآثارٍ كارثيّة.

صدر الكتابُ باثني عشر فصلًا، وبثلاثمائة وواحد وخمسين صفحةً من القطع الكبير، وبحروف صغيرة. وكتب الناشر على غلافه الأخير: “هذا الكتاب، كانت العقوبات الاقتصاديّة المفروضة على العراق منذ عام 1990 إلى عام 2003 هي الأكثر شمولًا وتدميرًا من أيّة عقوباتٍ أخرى، وضعت باسم الحوكمة الدوليّة، فقد أدّت تلك العقوبات، التي ترافقتْ مع حملةٍ عسكريّةٍ ضدّ العراق عام 1991 انتهت بغزوه عام 2003 إلى انهيار البنية التحتيّة للعراق، ومختلف المقوّمات الأساسيّة اللازمة لاستدامة الحياة فيه.

بحث الكتاب في إدانةٍ واضحةٍ للسياسة الأمريكيّة في الدور الرئيسيّ الذي أدّته الولايات المتّحدة في صوغ تلك العقوبات على العراق، التي أسفرت عن وضع قيودٍ صارمةٍ على الواردات العراقيّة حتّى لأبسط السلع الحيويّة، من أنابيب المياه إلى منظفات الغسيل إلى لقاحات الاطفال، بذريعة "الاستخدام المزدوج" لهذه السلع وإمكان إفادة العراق منها لتصنيع "أسلحة الدمار الشامل". وقد شرح الكتاب بالتفصيل، استنادًا إلى الآلاف من وثائق الأمم المتحدة الداخلية، ومحاضر الاجتماعات المغلقة فيها (التي أتاحت المؤلفة النفاذ إليها عبر الرابط www.invisiblewar.net) فضلًا عن مقابلاتٍ مع دبلوماسيين أمريكيين وأجانب، كيف أن الولايات المتّحدة لم تكتفِ بمنع وصول السلع الإنسانيّة الحيويّة إلى العراق فحسب، بل قوّضت من جانبٍ واحدٍ أيّ محاولاتٍ للإصلاح، عبرَ تجاوزِ مفتّشي الأسلحة التابعين للأمم المتّحدة، والتلاعب بالأصوات في مجلس الأمن؛ بهدف الاستمرار في العدوان على العراق الذي انتهى بتدمير كلّ مقوّماته المؤسسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، العسكريّة والمدنيّة على السواء". (من مقالٍ للكاتب في قراءته للكتاب نشر في العديد من المواقع الالكترونية، يراجع عبر محرك بحث).

واجه الشعب العراقي، خلال العقدين من سنوات الاحتلال المريرة، أنواع سياسات الاحتلال القمعيّة والاستغلاليّة والإرهابيّة والتعسفيّة، وعانى من صنوف انتهاكات الحقوق والالتزامات القانونيّة والأخلاقيّة، ولم تنته الأزماتُ التي ولّدها في العراق، كما يتبيّن من الوقائع اليوميّة الجارية على الأرض. فالعراق البلد الثري بكلّ الخيرات البشريّة والماديّة يعاني من شحٍّ وانحسارٍ بكل ما لديه، بل وازدادت مشاكله وإشكاليات الإصلاح والتغيير فيه إلى درجاتٍ وضعته التقارير الدولية في مستويات لا يحسد عليها على جميع الأصعدة، ما يعكس طبيعة سياسات الاحتلال وصعوبات سنواته العجاف. وحتى الآن وبعد التنفيذ الرسمي لاتفاقية انسحاب قوات الاحتلال الأمريكي العسكرية، نهاية عام 2011، ومثلها القوات التي شاركتها الجريمة في انسحابها الكامل من أرض العراق والتقاسم مع الإدارة الأمريكيّة بالفتات التي تتكرم بها من خيرات العراق الطبيعيّة، تحوّل الهمّ الأمريكي، خاصّةً من خلال زيارات مسؤولين أمريكان، علنية أو سرية، وإجراء لقاءاتٍ بالمسؤولين العراقيين، تتلخّص بالعمل على البحث عن وسائل خداعٍ أخرى، تستر الفضائح السابقة، وتجدّد مشاريع الإدارة الأولى وخططها التي على ضوئها أقدمت بحماقات وجرائم الاحتلال العسكري المباشر وتدمير الدولة العراقية، وإعادة انتشار لوحدات عسكرية وقواعد عسكرية وتدخلات مباشرة، من خلال أكبر سفارة في المنطقة، مساحة وبناء وعديدًا من العاملين فيها، أجهزةً وأدوارًا، بكلّ الشؤون السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة في العراق والمنطقة عمومًا.

والأبرز الذي أظهرته سياسات الاحتلال في العراق خلال سنواته هو تكريس نهج المحاصصة الطائفية الدينية والإثنية، وصناعة الأزمات المحلية بين القيادات السياسية وتجمعاتها الحزبيّة، وإشاعة التقاسم الإثني والطائفي في المجتمع وتفشّي الفساد والإفساد في الإدارة والحكم وزرع ألغام مؤقتة في العملية السياسية التي أدارتها وأشرفت عليها وما زالت تواصل سيرها في إطار بنائها السياسي وصناعة قاعدتها الاجتماعية التي تدير شؤون البلاد والعباد.

بعد عشرين عامًا من الاحتلال رفعت الإدارتين، الأمريكية والبريطانية، السرية عن وثائق لهما، أكدتا اعترافات للعديد من مسؤوليهما بجرائمهما التي ارتكبتاها في قراراتهما وخداعهما ومشاريعهما وأعمالهما المباشرة.

نشر الجيش الأمريكي دراسةً من ألف صفحةٍ تناقش تاريخه العسكريّ في العراق، متضمّنةً مئات الوثائق التي رُفعت السرية عنها، محمّلة القوات التي غزت العراق ارتكاب "أخطاء فادحة"، كما أطلق عليها وليس جرائم حرب ضد الإنسانية، كما هي في الواقع والقانون والاعراف.

استخلصت الدراسة التي تم نشرها عام 2019 الدروس من العثرات العسكرية العديدة خلال غزو العراق، الذي استمر 8 سنوات؛ بين عامي 2003 و2011، كما بررت، ووسعت الاتهام إلى الحكومة العراقية والمتخادمين معها لارتكابها أخطاء (!) أدّت إلى تفاقم الانقسامات الطائفية، وتسبّبت بعودة العنف للبلاد، مؤكدة أن الحرب التي بدأت عام 2003 لم تنتهِ بعد، متهربةً من دورها وخططها في تكريس أو إنتاج هذه الظواهر والحالات والأزمات.

أشارت الدراسةُ إلى أنّ "الخطط العسكرية لم تكن تتوقع اتخاذ قرار سحب جميع القوات الأمريكيّة في خريف 2011، بل استندت إلى افتراضاتٍ خاطئةٍ مفادها أنّ وزارة الخارجية ستدعم جهود التدريب، في حين أن الجهود المبذولة لتدريب الجيش العراقي لم تكن كافية". وجاء في الدراسة أنّها لا تُلقي باللوم الكامل على الأخطاء العسكرية أو السياسية، بل كذلك على ما عدّته "قلّة وعي لدى قادة الجيش الأمريكي حول الديناميكيات الطائفية والاجتماعية والسياسية في البلاد، التي غذّت الكثير من أعمال العنف". وحمّلت الدراسة واشنطن تبنّيها تفسيراتٍ خاطئةً عن مستويات العنف وعدم الوعي في تأمين الاستقرار مع تراجع أعداد قواتها؛ الأمرُ الذي أدّى إلى فشل قادة جيشها في تحقيق الأهداف الاستراتيجيّة مع مرور الوقت؛ بسبب القرارات التي اتُّخذت بالتوافق.

فضحت هذه الدراسة خطط إدارة الاحتلال واعترفت بالجرائم التي ارتكبت وستبقى وثيقة إدانة للاحتلال وبرهانًا عليه، بالمعنى القانوني والاخلاقي، رغم محاولات التهرب من الإدانة المباشرة وإقرار الارتكاب، ومثل هذه الجرائم لا تنتهي بالتقادم، ولا بدّ من يومٍ للمحاكمة والعدالة الإنسانية.

أما الإدارة البريطانية، الحليف الشريك، فقد كشفت وثائق رفعت السرية عنها، (شباط/ فبراير (2023) تأكيد معرفتها بعدم صحة مزاعم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل أو صواريخ بعيدة المدى قبل الغزو بعامين على الأقل. إذ فضحت الوثائق كذبة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وأشارت إلى علمه بخلو العراق من أي قدرات لامتلاك أسلحة محظورة، وفقًا لقرارات الأمم المتحدة، وبطلان ذريعته بالمشاركة في الغزو والاحتلال، وفضح ادعاءاته بالأسلحة والخداع بها.

ذكرت قناة "بي بي سي" البريطانية أنه "بعد انتهاء الحرب، التي أدت إلى تدمير العراق ونزوح ملايين العراقيين وإسقاط نظام صدام حسين، تبين أن ادعاءات وجود أسلحة دمار شامل لدى النظام بلا أساس".

من جهتها أدانت لجنة تشيلكوت، في تموز/ يوليو 2016، التي شكلتها الحكومة البريطانية، الدور الذي لعبته بريطانيا في الحرب (!)، و(العدوان السافر والارتكابات الإجرامية!)، وكتبت بالتفصيل، في تقرير مطول، عن المعلومات الاستخبارية الخاطئة والأسس القانونية المشكوك فيها التي استندت بريطانيا إليها في غزو العراق، ورفعت إلى الرفوف أو أخفيت رغم كل محاولات التستر أو الدوران على الوقائع الكارثية.

بينما استمر توني بلير رئيس الوزراء البريطاني – آنذاك - في الدفاع بقوّةٍ عن المشاركة في غزو العراق، لكنّه أمام اللجنة والإعلام عبر عن "شعوره بقدر من الأسى والندم والاعتذار أكثر مما يمكن تصوره عن الأخطاء التي ارتكبت في الإعداد لحرب تسببت في حدوث شرخ عميق في المجتمع البريطاني". محاولًا التملص من مسؤولياته القانونية والأخلاقية ومهماته وتحمله نتائجها وتداعياتها، ليس عن المجتمع البريطاني وحده، وإنما عن الشعب العراقي، وما سببه له وما حصل جراء مشاركته واندفاعه في الغزو والاحتلال.

كما أظهرت الوثائق اعتراف الحكومة البريطانية عام 2001، بفعالية العقوبات العسكرية والتسليحية والتكنولوجية في سياق مراجعة أجرتها إدارة بلير للسياسة الأمريكية البريطانية بشأن العراق، وارادت بريطانيا عرض سياسة جديدة أسمتها "عقد مع الشعب العراقي" على أركان إدارة بوش، تستهدف استعادة المساندة، خاصة من دول وشعوب المنطقة العربية، للسياسة الأمريكية البريطانية في التعامل مع العراق. وحتى هذا الذي ورد في الوثائق لم تنفذه إدارة الاحتلال البريطانية وظلت ذيلا تابعا لسياسات البنتاغون وداعميه من اللوبيات المعروفة.

وكنت قد تتبعت كل ذلك في أربعة كتب صدرت لي. وورد في الغلاف الأخير للكتاب الرابع الذي كان بعنوان: العراق.. صراع الإرادات، عن دار التكوين، دمشق عام 2009، هذا هو الكتاب الرابع في تسلسله، فقد سبقته ثلاثة كتب، هي: لا للحرب، خطط الغزو من أجل النفط والإمبراطورية، صدر عن دار نينوى، دمشق 2004، ولا للاحتلال، إسقاط التمثال وسقوط المثال، عن دار التكوين، دمشق 2005، واشنطن - لندن: احتلال بغداد، عن دار التكوين، دمشق 2007، ضم كل كتاب ما نشره الكاتب من مقالات في صحف ومواقع عربية، في فترةٍ زمنيّةٍ مؤرّخة، وعبر في كل ما كتب كما سجل في مقدمة الكتاب الأول عن مواقف من خطط الغزو والاحتلال، وعن آراء فيما تعرض له الشعب العراقي الكريم والوطن الحبيب من عدوان سافر وجريمة حرب مستمرة وهذه المجموعة من المقالات استمرار لسابقاتها، زمنًّيا، مواصلًا فيها ما عدّه موقفًا واضحًا من العدوان والغزو والاحتلال ودعوة متواصلة لتأسيس مرصد مراقب ومحذر من الكوارث التي حلت في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان و السودان والصومال وتتجه بأخطبوطها لغيرها على امتداد منابع النفط والثروات الأخرى، وقراءة لما جرى وما يمكن الاستفادة منه من عبر ودروس التجارب والأحداث ومطالبة دائمًا بحقوق الشعب ومثله وثرواته البشرية والمادية.

ما زالت انشغالات الوضع العراقي الداخلي ومظاهر الأزمات فيه وتمددها على مختلف الأصعدة، راهنة أو متموجة، بعد عشرين عامًا من الاحتلال، من جهة، وتعكس كل يوم أزمة الاحتلال وسياساته وتطبيقاتها على الأرض من جهة أخرى. وهو الأمر الذي يوضح الفوضى الخلاقة التي أرادها المحافظون الجدد في العراق والمنطقة وتبناها من خلفهم وأدار بعدهم ما يحصل في العراق اليوم. التحديات التي عبرت عنها إدارة الاحتلال ولم تضع لها حلولًا تناسبها ويخفف عن الشعب العراقي ما وضعته سياساتها الدموية، تنشرها تقارير المنظمات الدولية وتكشف فيها صورًا أخرى، أكثر واقعية وأوسع أثرًا، وتفضح ما تحاول الإدارة الأمريكيّة والمتخادمين معها، التستّر عليه والتخطيط لاستثماره للعناوين الجديدة التي تطرح للعراق الجديد!

بعد عشرين عامًا من الاحتلال الأمريكي للعراق، العنوان يتكرّر، بصيغ أخرى أو أساليب تصب في خدمته، رغم كلّ التوتّرات والارتباطات الإقليميّة والدوليّة، ورغم تصاعد الأزمات وتنوّعها، ما زالت المطامع الإمبرياليّة موجودة في موقع العراق الاستراتيجي وثرواته المنوّعة وأمن المنطقة واستقرارها، والصراع عليها وحولها، وهو ما يجب إدراكه بوعي للسنوات القادمة.

***

د. كاظم الموسوي

 

في المثقف اليوم