آراء

ماذا نقول في جمال عبد الناصر في ذكراه الخمسين؟

محمود محمد عليتمر علينا خلال هذه الأيام الذكرى الخمسين علي وفاة الزعيم الاستثنائي في تاريخ وحياة المصريين والأمة العربية بل العالم أجمع، خالد الذكر الرئيس جمال عبد الناصر، وقد وجدت نفسي في حيرة  عن ماذا أكتب؟ فقد كتب الكثيرون عن سيرة الزعيم ومشواره منذ الطفولة وحتى يوم رحيله في ليلة الإسراء والمعراج في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970، وملئت الكثير من الصفحات والمجلدات حول تجربته الرائدة ومشروعه الوطنى والقومى، وانتصاراته وانكساراته.

وقد حسمت حيرتى، وذلك بإسقاط مساوئ الحاضر في إيجابيات الماضي، فاكتشفت أن جمال عبد الناصر يمثل بالفعل ظاهرة تاريخية تستحق التأمل والدراسة، وأن فكره كان صائبًا تجاه القومية العربية ونظرته للغرب، ولكن الأخطاء كانت في التطبيق؛ حيث كثيراً ما أسأل نفسي "لماذا بقي اسم جمال عبد الناصر بعد نصف قرن من الزمان، ولماذا لا ترفع الجماهير في أي حركة شعبية بين رؤساء مصر إلا صورة عبد الناصر فقط؟"

والإجابة كانت في نظري تتمثل في أن جمال عبد الناصر كان شخصية لها معجبيها ولها حسناتها وأخطائها، أى أننا يمكن اعتبارها ظاهرة يجب أن تدرس حتى تستفيد منها الأجيال القادمة، وأهمية توثيق تاريخ هذه الحقبة الزمنية المهمة فى تاريخ مصر، ولكن دون تضخيم أو تهويل لأن التاريخ هو الحاكم الحقيقى لهؤلاء الزعماء بعيدا عن الناصريين والمتشدقين بالناصرية، وأنه كان الزعيم الأوحد، ويجب أن نعى أن له ما له وعليه ما عليه.

وبالطبع كانت هناك الكثير من المميزات والانتقادات لعصر جمال عبد الناصر، مع اتفاق على شرفه وإخلاصه، اللذين استمرا حتى لحظاته الأخيرة، وبالرغم من مرور 47 عاما على رحيله لايزال عبدالناصر يعيش لدى مؤيديه، وأغلبية شعبية فى مصر والعالم العربى، وأيضا يعيش بين خصومه.

لقد كان جمال عبدالناصر ابن عصره، تولى فى عصر شديد التعقيد حرباً عالمية كادت تنتهى، وحرب باردة وقوى عظمى تتصارع على النفوذ، وتسعى لاستقطاب الدول المستثقلة وبقايا استعمار يحاول التمسك بنفوذه، ولهذا كانت فكرة عدم الانحياز إبداعاً لزعماء العالم الثالث بعيدا عن صراعات كانت تهدد العالم. عربيا سعى لتوحيد أهداف وثروات دول توحدها اللغة والمصير، أفريقيا وطد علاقات ودعم حركات التحرر والتنمية، إسلاميا حرص على تقوية المحور الإسلامى.

وكذلك هل ينسي التاريخ أنه في عهده وبمساندته العظيمة استطاع رجال الصناعة الاكفاء المخلصون بقيادة الدكتور عزيز صدقى ان يقيموا صرحا عظيما للصناعة فى جميع ربوع مصر؛ فقد تم فى ذلك الوقت ــ من 1956 حتى 1970 وما بعدها انشاء اكثر من سبعمائة وخمسين مصنعا ملكا خالصا للدولة المصرية وكل مصنع كان يسدد ثمنه من انتاجه على عشر سنوات وكانت هذه المصانع موزعة على جميع محافظات مصر. وكان من هذه المصانع ما يزيد على 250 مصنعاً للصناعات الثقيلة مثل المراجل البخارية التى تحتاجها الصناعات الكيماوية والغذائية والغزل والنسيج وتوليد الكهرباء.. الخ، ومن هذه المصانع أيضاً مجمع الحديد والصلب بحلوان ومجمع الألومنيوم فى نجع حمادى ومصنع الفيروسيليكون فى ادفو ومجمع البترول بالسويس ومسطرد وطنطا والاسكندرية وغيرها من المصانع.

ولا شك في أن أى إنسان يريد أن يعيش عيشة كريمة، يطلب أن يتعلم،وأن يعمل، وأن يحصل على مرتب يعيش منه عيشة كريمة، وأن يجد المسكن الملائم له ولأسرته، وأن يحصل على العلاج الجيد له ولأسرته، وكان المصريون يجدون كل هذه المتطلبات فى المشاريع التى انشئت فى عهد جمال عبد الناصر، وعلى سبيل المثال فقد كان فى مجمع الحديد والصلب بحلوان يحصل العامل على التدريب فى الداخل والخارج، وعلى المرتب الكافى، وعلى المسكن له ولأسرته، وعلى العلاج له ولأسرته، كل هذه الأمور كانت تطبق فى اغلب المشاريع الصناعية؛ كمجمع الألومنيوم فى نجع حمادى، ومصانع الغزل والنسيج فى المحلة الكبرى، وكفر الدوار، وكذلك مصانع الأسمدة (كيما) فى اسوان، ومصانع اخرى فى شبرا الخيمة ومصانع الأسمنت فى حلوان، ومصنع الفيرو مانجانيز فى جنوب سيناء.

وهل ننسي مواقف عبد الناصر تجاه الفقراء والمحرومين والمهمشين وقد كان واحداً منهم، حيث عرف كم يعاني الشعب الحقيقي، ولذلك رأيناه حين وصل للحكم يعطي جهده لتحسين حال الفقراء ؛ واقتصاديا واجتماعيا اجتهد جمال عبد الناصر للبحث عن طريق يضمن العدالة، ويضاعف من فرص الأغلبية فى الصعود الاجتماعي والاقتصادي كانت مصر منقسمة إلى طبقة شديدة الثراء وأغلبية شديدة الفقر، وطبقة وسطى تحاول البقاء. وقال عبدالناصر إن تحرير لقمة الخبز هو أول وأهم شرط لتحرير إرادة الناخب، وبدأ عبدالناصر في إعطاء المواطن نصيبا عادلا من ثروة بلاده، وقضي علي الاستغلال أو كاد، فأسقط أعتي موانع الحرية : الفقر، وبذل جهودا جبارة من أجل التنمية وتحديث المجتمع، ثم وسع قاعدة الحقوق والخدمات في المجتمع وعلي رأسها حق التعليم المجاني والعلاج المجاني وقفزت إلي السطح طبقات وقوي ما كان لها في ظل الأوضاع القديمة إلا أن تظل مقهورة علي هامش الحياة في المجتمع .

ولقد كانت الستينيات أكثر ميلاً لتوسيع عائدات التنمية، اتسعت الطبقة الوسطى بانضمام الفلاحين والعمال الذين تغيرت حياتهم، وأصبح لدى أبناء الفقراء فرصة الصعود الاجتماعي بالتعليم والتقدم، ومن تفوق منهم حصل على مكانة اجتماعية نقلته اجتماعيا. الإصلاح الزراعي وتوسيع التعليم العام المجاني والعلاج ضاعفت من تأييد فئات واسعة من المصريين لجمال عبد الناصر.

لذلك إذا أردنا أن نتعرف علي جذور توجهات عبد الناصر نحو إنصاف الفقراء فيجب ألا نغفل هذه الفترة التي قضاها في غيط العنب. إن انتماء عبد الناصر الطبقي هو الذي دفعه للتفكير في الاشتراكية، وفي وضع هدفين من الأهداف الستة التي أعلنتها الثورة، وهما : القضاء علي الإقطاع، والقضاء علي الرأسمالية المستغلة. مما ترتب عليه إعادة توزيع الثروة، كما كان هو سبب تبني فكرة مجانية التعليم، وغير ذلك من إنجازات غيرت وجه مصر.

فضلاً عن الاهتمام بالتعليم والثقافة، والاهتمام بتوفير السلاح المناسب للدفاع عن مصر وبما يحمي استقلالها، وكان الاستقلال السياسي متمثلا في اتفاق الجلاء للبريطانيين عن مصر 1955م، ذلك الاتفاق الذي عارضه الإخوان الإرهابيين بل وطالبوا سرا الإنجليز بعدم الجلاء على أن يوصلونهم لحكم مصر فيحكمونها لتظل تابعة للإنجليز، وعمل عبد الناصر على كسر احتكار السلاح من خلال الاتفاقية المبرمة مع الإنجليز في 1955م لتستطيع مصر تنويع سلاحها من خلال المعسكر الشرقي، وقام في سبيل الاستقلال السياسي والاقتصادي بتأميم قناة السويس وما استتبعه من مواجهة العدوان الإسرائيلي، الفرنسي، البريطاني على مصر في نهاية أكتوبر 1956م.. وكان الانتصار على ذلك العدوان بفضل المقاومة المصرية والمساندة العربية، والإنذار السوفيتي الحاسم للعدوان، ودعم أنصار الحرية السلام العالمي، وكان ذلك الانتصار دون مبالغة بداية الانتقال من عصر الاستعمار والهيمنة الأجنبية إلى عصر الاستقلال والإرادة العربية الحرة.

فالمشروع الذى أسس له جمال عبدالناصر قدم نموذجاً سياسياً بين مشاريع تجارب التحرر الوطني في العالم، حيث لم يسع إلى تحرير مصر فقط من الاستعمار البريطاني، إنما سعي، فى ذات الوقت إلى تحرير الوطن العربي كله، بل وكل شعوب العالم الثالث أجمع، وهنا تجلى مبكراً التداخل الوثيق بين هدفي التحرير والوحدة في هذا المشروع. فالقيمة العليا لهذا المشروع تتجلى فى أنه انطلق من نسق عربي للفعل السياسي، منطلقة هو التحرر السياسي من الاستعمار ومن كل أشكال التبعية للخارج لبناء نظام عربي موحد يملك مشروعاً مستقلاً للنهضة والتقدم؛ فقد انطلق مشروع جمال عبد الناصر لهذه النهضة وهذا التقدم من مفهوم للوحدة العربية قائم على عملية تواصل خلاق بين الجوهر الثقافي والحضاري للأمة العربية وبين احترام الخصوصيات الوطنية لكل شعب عربى على حدة، لكنه ظل شديد الارتباط بهدف التحرير والاستقلال الوطني والقومى الذى لم ينفصل عن هدف تحقيق الحرية الشاملة على البعدين الوطني والقومي وعلى المستويين السياسى والاجتماعى (الحرية السياسية والعدل الاجتماعي)، فى ظل وعى قوى بأن هدف تحرير فلسطين من الاستعمار الصهيونى هو الشرط الحاكم لتحقيق الأهداف الثلاثة الكبرى للمشروع الناصري: الاستقلال والتحرر الوطنى والقومى وتحقيق الوحدة العربية المرتكزة على دولة العدالة الاجتماعية والحريات السياسية فى نظام ديمقراطى حقيقى يجعل الشعب هو صاحب الإرادة العليا فى الحكم.

وفي كتاب "فلسفة الثورة" الذي صدر عام 1954، يقول عبد الناصر عن تطوعه في صفوف الفدائيين في فلسطين قبل دخول مصر حرب 1948: "لما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعاً في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالاً في أرض غريبة، وهو ليس انسياقاً وراء عاطفة، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس".

لقد عاش ومات عبدالناصر وهو يحارب من أجل أن تسترد الأغلبية من شعب مصر وأمته العربية، ويمكن بلا مبالغة نقول دول العالم الثالث أيضا، حريتها وإنسانيتها وقدراتها علي أن تصوغ حياتها بنفسها. وتمتع عبدالناصر بما لم يتمتع به زعيم أو قائد من نفوذ وحب شعبي جارف، وكانت جماهير الأمة العربية من البحر إلي البحر هي الدرع لجمال عبدالناصر، هذه الجماهير لم تكن عمياء ولا عرجاء، فالقول بأن عبدالناصر كان ديكتاتورا فيه إهانة للشعب واستخفاف بوعيه .. لقد كان عبدالناصر ديكتاتورا بل طاغية بالنسبة للإقطاع والاستعمار والاستغلال، لكنه كان بطلا وزعيما ومحررا عظيما بالنسبة للغالبية الساحقة من الشعب بعماله وفلاحيه ومنتجيه. الجماهير كانت مصدر قوته، وعلاقته بها كانت مباشرة وعابرة للوسائط .. هل ننظر للديموقراطية بالمفهوم الليبرالي الغربي ؟ هل هي فقط مجرد حرية للتعبير دون النظر إلي المفهوم الاجتماعي للحرية . ما ينقص جماهير الأمة العربية ليست حرية التعبير فقط، بل ينقصها حقوق أكبر وأخطر.

وكذلك هل ينسي التاريخ أنه في عهد جمال عبد الناصر فضل الأوئل الذي برزوا في سماء الفن والأدب والصحافة وأضحوا يمثلون أقطاب ورواد ومصابيح الفن والعلم والأدب والفكر والصحافة؛ من أمثال الاساتذة والرواد محمد حسنين هيكل ومصطفى أمين ومحمد التابعى وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس وأنيس منصور ومصطفى محمود ومحمود السعدنى وفتحى غانم وأحمد بهجت فى الصحافة والكتابة وصلاح جاهين فى الكاريكاتير والشعر العامي.. وجمال السجينى فى النحت.. ومحمد محمود وصلاح طاهر وفاروق حسنى فى الرسم.. وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الاطرش وعبدالحليم حافظ فى الغناء ومعهم اسمهان وفيروز وشادية وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وعبد الوهاب وزكريا احمد والقصبجى والسنباطى وبليغ حمدى والموجى والطويل ومنير مراد فى التلحين.. وأحمد رامى وحسين السيد ومحمد حمزة فى كتابة الأغاني، ونجيب الريحانى وإسماعيل ياسين واستيفان روستى ومحمد صبحى وسمير غانم فى الكوميديا.. وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين وعاطف الطيب فى الإخراج.. وأحمد زكى وزكى رستم وشكرى سرحان ومحمود عبد العزيز وفريد شوقى ومحمود المليجى فى التمثيل..

إن الفريضة الغائبة تاريخيًا بين غالبية القادة العرب هي الكرامة في مواجهة أعداء الأمة، فالمواقف التي تتخذ دائمًا تتصف بالميوعة وعدم الحسم والتراخى والخضوع والخنوع والركوع في أحيان كثيرة، على العكس من ذلك تمامًا كانت هي مواقف الزعيم جمال عبد الناصر حاسمة قاطعة لا تقبل التأويل أو التشكيك، ولم يكن يقبل الإهانة لنفسه أو شعبه أو وطنه أو أمته أمام الأعداء مهما كانت قوتهم وسطوتهم ونفوذهم، وكان يتخذ المواقف البطلة والشجاعة المحافظة على كرامة أمته مهما كلفه ذلك من خسائر. لذلك لا عجب أن يكون الآن حاضرا في كل المواقف التي تمثل تحديا للأمة وقادتها أمام الأعداء كقدوة ونموذج، فتجد رجل الشارع العربي يقول لو كان جمال موجودا في هذا الموقف لكان رده سيكون أكثر قوة وحسمًا، وما كانت القوى الاستعمارية المهيمنة قد استطاعت أن تتلاعب بمصير شعوبنا وأمتنا العربية كما يحدث الآن، فقد كانت مواقفه حاسمة من الاستعمار الغربي، وكانوا يعملون له ألف حساب، وكانت الرجعية العربية الخائنة والعميلة تاريخيا تفكر ألف مرة قبل اتخاذ أي موقف في ظل وجوده.

ولم يكتف عبد الناصر بدوره داخل مصر وقيادتها للتحرر السياسي والاقتصادي لكنه كذلك أراد أن ينمو دور مصر في مساندة حركات التحرر، بدئًا من مساندة الثورة في الجزائر، والمغرب وتونس (55م-1960م)، والاهتمام المركزي بقوى الثورة الفلسطينية، ومساندة الثورة ونشوء منظمة التحرير الفلسطينية، ومساندة الثورة في العراق واليمن، بمساندة ثورتي 26 سبتمبر 62م،وثورة 14 اكتوبر1963م، إضافة إلى محاولات الدفاع عن سوريا والاستجابة لطلبها للوحدة وإقامة الجمهورية العربية المتحدة مع مصر في الثاني والعشرين من شهر فبراير لعام 1958م، وحتى الانفصال لظروف ليس هنا مكان سردها

إن ذكرى ميلاد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر هي إحدى المناسبات السعيدة التي كانت تحتفل بها أسرته كل عام في فترات الطفولة وما بعدها، متمنيًا لشعب مصر تحقيق كل ما حلم به الزعيم. وأوضح شقيق جمال عبد الناصر خلال تصريحات صحفية أن مصر نجحت في استرداد الحلم الناصري مرة أخرى بعد قيام ثورة شعبية عظيمة هي الأكبر في التاريخ الإنساني بعد محاولات سرقة ثورة 25 يناير، مشيرًا إلى أن الشعب المصري دائمًا وأبدًا خارج كل التوقعات، مستشهدًا بهزيمة 67 وخروج الملايين إلى الشوارع لهزم الهزيمة على حد قوله.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

......................

المراجع:

1- سامية أبو النصر: كلمتين وبس مئوية جمال عبد الناصر (مقال).

2- سامى شرف: جمال عبد الناصر والصناعة (مقال).

3- عزت السعدنى: وعندما قابلنا جمال عبد الناصر ونحن تلاميذ صغار.. مرتين! (مقال)

4- محمد سيد أحمد: جمال عبد الناصر مؤسس الكرامة العربية!! (مقال)

5- أكرم القصاص: عاش جمال عبد الناصر(مقال).

6- عبد الناصر محمد: مصر بين جمال عبد الناصر والسيسي(مقال).

7- محمد السعيد ادريس: متحف جمال عبد الناصر .. المعنى والمغزى (مقال).

8- سامى شرف: الديموقراطية كما كان يراها جمال عبد الناصر (مقال).

 

 

 

 

في المثقف اليوم