آراء

متي تتمكن السودان الهروب من مصيدة المرحلة الانتقالية؟

محمود محمد عليلقد تكشفت لنا أن كل تجارب الثورات أو الانتفاضات العربية متشابهة، وتكاد تكون لنفس الدوافع والأسباب في أمم لا تتعلم من تجاربها ولا تتعظ من قوانين التاريخ، فبعد ما سمي بالموجة الأولى من الربيع العربي .

كانت الموجة الثانية تتخلق في رحم السودان، وظل "حسن البشير" يعاند الزمن والتاريخ، فكان أن أسقطه الشعب بذات الطريقة التي جرت في مصر وتونس واليمن، وكما أخطأت الأنظمة في حسن تقدير الموقف لم تعد الدولة العميقة السيناريو المناسب للهروب من شبح الفوضى التي تقضي على أي إنجازات.

وكان المشهد كما نراه الآن ونسأل الله أن يحفظ الشعبين السوداني من مصير التفكك والتشرذم. ومن المعروف أن الدولة تكون في أضعف حالاتها أثناء الفترات الانتقالية؛ سواء بحكم الثورات أو الحروب الأهلية. لهذا اهتمت النظم السياسية المقارنة بالتعرف على أنماط التحول الديمقراطي وأسباب نجاحه وعوامل فشله بما يجعلنا أقدر على تجنب أخطائه. ومن أسف، ارتكبت النخبة السياسية، من الأغلبية والأقلية ومن الإدارة المؤقتة ما يكفي من الأخطاء لرفع تكلفة الفترة الانتقالية لتدخل الدول بعدها مراحل جديدة كان يفترض أن تشهد الترتيبات الخاصة بإقامة النظم الجديدة، على أسس مختلفة، تحقق أهداف تلك الثورات في "جمهوريات أفضل".

ولكن ما حدث هو أن المخاوف النظرية، التي تشير- من واقع خبرات سابقة- إلى أن الانتقال إلى نظم ديمقراطية حقيقية ليس سهلا، وأن أشباح عودة الاستبداد، أو انتشار الفوضى، تمثل احتمالات قائمة، بشأن المستقبل؛ الذي دفعت الشعوب ثمنا باهظا له، لكن يبدو أن المسيرة تتعثر بدرجات تتفاوت من دولة إلى أخرى.

لقد تحولت المراحل الانتقالية في عدة حالات إلى ما يشبه "مصيدة"، "، يبدو الخروج منها، بدون آلام إضافية، وفي وقت ملائم، في اتجاه الانتقال من الثورة إلى "الدولة" التي تشهد بناء نظم سياسية ديمقراطية "مدنية"، متعذراً، إلى حد كبير، في ظل تداخل غير منضبط بين مستويات مختلفة من الصراعات، بين عناصر النظم القديمة والجديدة، وعناصر الثوار المدنية والدينية، وارتباك أداء السلطات الانتقالية، مدنية أو عسكرية، في ظل مصاعب سياسية واقتصادية وأمنية، تضغط على الجميع، وتؤثر في هياكل الدول، بحيث ظهر سؤال حول "مستقبل الدولة" ذاتها، كما هو مطروح في حالة السودان  .

يضاف إلى كل ذلك مشكلات لا تنتهي، تأتي من كل اتجاه، على نحو يمكن مشاهدته بالعين المجردة، بدرجات متفاوتة، في الدول العربية، على غرار ما يلي:

1- تثار في المرحلة الانتقالية احتياجات ومطالب فئوية وعامة لا نهائية، وفي الوقت نفسه تواجه الدول حالة من تقلص الموارد، الأمر الذي يجعلها عاجزة عن تلبيتها. فقد نتج عن الثورات ثورة هائلة من التطلعات، لكن حقائق الواقع قد تحولها لثورة من الإحباطات، نتيجة عجز الموارد عن الوفاء بهذه المتطلبات.

2- تؤدي التعارضات الخاصة ببناء النظام الجديد، بكل مؤسساته التشريعية، والتنفيذية، والقضائية والأمنية، في الحالات التي تنهار فيها تلك المؤسسات بشكل شبه كامل، إلى الحاجة لوقت طويل، في ظل توقيت حرج، فيحدث نوع من الاستقطاب الشديد في المجتمع، والارتباك من جانب الإدارة الانتقالية، التي قد تفتقد الإمكانات والرؤية في اختيار السياسات المناسبة، والقادة المؤهلين لقيادة المرحلة الانتقالية، وهذا ما يضاعف من حجم الأعباء الملقاة على عاتقهم.

3- كثيراً ما تجابه المراحل الانتقالية بتحد خطير؛ حيث يوجد قطاع كبير من الثوار يرفض بالأساس فكرة الخضوع لأي سلطة، مثلما حدث في ليبيا، حيث تم الامتناع عن الاستجابة لنداءات السلطة بتسليم أسلحتهم، فضلاً عن تكرار حدوث مصادمات بين بعض الميليشيات، وهو الأمر الذي قد يؤدي لانزلاق البلاد إلى حرب أهلية.

4- هناك تحديات أخرى تكمن في طبيعة العلاقة بين الثورة والتحول الديمقراطي، أي العلاقة بين الشرعية الثورية، والشرعية الديمقراطية. فهناك من ينظر إلى الثورة باعتبارها غاية، ومن ثم يعتقد أن الثورة دائمة، بمعني ألا يكون للثورة حدود، فتسقط النظام ثم تسقط الدولة، ثم تؤسس على أنقاضها دولة الثورة، التي تدعي تطهير نفسها من النظام القديم والبشر القدامى، بحيث لا يعرف أحد أين يتم التوقف.

5- تحديات أخرى تتمثل في السلبيات المزمنة التي تخلفها النظم السابقة في كل مؤسسات الدولة الحيوية، سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وإدارياً، على نحو تتحول معه إلى عقبات هيكلية أمام الثورة، الأمر الذي يثير فكرة العجز الانتقالي عن مواجهتها، خاصة في الجهاز البيروقراطي، الذي يناهض التغيير من ناحية، ويفتقد روح الإنجاز والفاعلية من ناحية أخرى، وقد يفرز نفس نوعية المحسوبيات والفساد، وقد يدفع في اتجاه ما يسمي "الثورة المضادة".

6- وكذلك، فإن العلاقات الدولية والإقليمية تمثل مشكلة حادة تثير أزمات طوال الوقت، من زاوية عدم وجود اتفاق على الطريقة التي تتم إدارتها بها، والتخبط أحياناً، عندما تتم مواجهة مشكلة. بالإضافة إلى أن التدخلات الدولية والإقليمية داخل دول الثورات تتصاعد إلى مستويات شرسة في فترات ما بعد الثورات، بحيث قد تربك المعادلات الداخلية.

وهكذا، فإن المشكلة واضحة، فمراحل ما بعد الثورات، تأتي بمطالب شعبية ملحة، تستدعي إجراء تغييرات جذرية، في توزيع القوة والثروة داخل المجتمع. ولكن تحقيق مثل هذا التغيير الشامل يواجه بعقبات متعددة، فالمؤسسات بطبيعتها مقاومة للتغيير، والطبيعة المعقدة للمشاكل التي تواجهها النظم في مراحل التحول تفتح الباب دائماً أمام الدعوات للتمهل والتدرج في تنفيذ التغييرات المطلوبة   .

كما أنه كثيراً ما يكون هناك تضارب بين المطالب العاجلة للفئات المجتمعية المختلفة، واختلاف بين القوى السياسية حول شكل النظام الجديد، بل والإجراءات التي يتطلبها، كما "أن القوى السياسية والاجتماعية التي كانت الأكثر تنظيما على الأرض، عند اندلاع الثورات، غالبا ما يكون لها دور كبير في توجيه مسارات في فترات ما بعد الثورات لتحقق أكبر قدر من المكاسب"  .

وتلعب طريقة إدارة المرحلة الانتقالية والقوى المتحكمة فيها دوراً محورياً في تحديد نجاح أو فشل الثورات في تحقيق أهدافها. فقد يؤدي غياب الرؤية الواضحة والمتفق عليها إلى التخبط والفشل، كما قد تنجح قوة سياسية أو مجتمعية، أو تحالف بين عدد منها، في تحويل مسار المرحلة الانتقالية إلى ما يخدم مصالحها، معيقة بذلك حدوث تغييرات جذرية أو ثورية .

إن كل ما سبق يمثل إشكالاً لما يعرف بمصيدة المرحلة الانتقالية، والتي "تتسبب في امتداد مرحلة التحول بشكل يقوض فعلياً من فرص تحقيق التغيير الثوري المنشود، بل  من الزخم الثوري نفسه، ولو إلى حين. فالمجتمعات تفقد الثقة في فعالية الثورة كأداة للتغيير، كلما طالت المدة بين الفعل الثوري، وتحقيق مكاسب ملموسة على الأرض" .

أسأل الله تبارك وتعالي أن تتحرر السودان الشقيقة من براثن المصيدة الانتقالية مثلما تحررت من كونها إحدي دول الشر المصنفة من ذي قبل علي أنها دولة إرهابية .. اللهم استجب.. أمين.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

...........

1- محمود محمد علي : حروب الجيل الرابع وجدل الأنا والآخر ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ، الاسكندرية ، 2017.

2- سيد علي في مقاله عن المدرسة المصرية في إدارة الفترة الانتقالية.. مقال..

 

 

في المثقف اليوم