آراء

حروب المياه والصراعات القادمة في الشرق الأوسط

محمود محمد علييحدثنا التاريخ بأن الحضارات لم تنشأ إلا علي ضفاف الأنهار، حضارة وادي النيل، وحضارة وادي الرافدين وحضارة الهند والصين وحضارة سبأ- ولم يكن انهيار هذه الحضارات إلا بسبب انهيار الزراعة ولا زراعة من غير ماء، وكل إنسان يولد يحتاج إلي 1000 متر مكعب من الماء، للوفاء بكافة احتياجاته من الغذاء والشرب واستخداماته المتعددة الأخرى، وقد وضع هذا الحد الأدنى من الاحتياج المائي، طبقا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو).

فمن تركيا إلي الخليج العربي، مروراً بقلب الشرق الأوسط المضطرب، تعد المياه عاملاً حيوياً في تشكيل سياسات المنطقة وحياة شعوبها، فندرة الموارد المائية في الأراضي الجافة وشبه الجافة، التي تشكل نسبة 80 % من أراضي الشرق الأوسط، تجبر قادته علي الدخول في تحالفات غربية، ومغامرات أجنبية بلا معني واضح، ويمكن لوفرة المياه في بعض دول المنطقة أن تصبح مفتاحاً للسيادة والنفوذ، وفي الوقت نفسه قد يثير قلق مواطنيها من أطماع جيرانهم فيحملون السلاح للزود عنها. لذلك، فإن المياه تعد علي درجة كبيرة من الأهمية في هذه المنطقة التي تعد من أكثر مناطق العالم اضطرابا، ويمكنها أن تصبح قوة تدعم السلام، بصم الأعداء القدامى لكي يتعاونوا من أجل المصلحة المشتركة، ولكننا نري من التاريخ والأحداث الجارية، أن الأرجح أن تكون عنصر تفريق لا توحيد، وعاملاً مساعداً علي الصراع، ففي الوقت الحالي، يمكن أن تقسم المياه دولاً ذات نظم وتراث من التعاون الودي مثل المملكة العربية السعودية والأردن، ويمكن أن تقود إلي تعاون بين الأعداء القدامى، كما حدث بين الأردن وإسرائيل، اللتين اتفقا علي جدول أعمال لمناقشة مشاكل المياه المشتركة .

يواجه الإسرائيليون والعرب علي حد سواء مسائل حيوية بشأن المياه، سوف تحدد مصير دولهم ومصير شعوبهم، ويعرف طرفا الصراع الذي دام نحو أربعين عاماً في المنطقة، أن ندرة مصادر المياه والزيادات السكانية الرهيبة المصاحبة لعمليات التحديث والتصنيع، من المحتم أنها ستؤدي إلي منافسة متزايدة علي المياه المتاحة، إذا لم تستطع جميع الأطراف التوصل إلي اتفاق . وقد كان للمياه بالفعل تأثير حاسم في إحدي الحروب الكبري، وهي الصراع العربي الإسرائيلي عام 1967، فمنذ عام 1948، شكلت المياه سياسات الصهاينة الأوائل، عندما حاولوا إقامة حدود دولتهم الجديدة لكي تكون لها الذراع الطولي في موارد المياه الوفيرة (نهر الليطاني علي وجه الخصوص)، حينئذ في لبنان، وبعد أكثر من ثلاثين عاماً كان لجاذبية تلك الأنهار الواقعة في الأراضي اللبنانية، دور مهم في استراتيجية إسرائيل، حيث زحف جيشها إلي محاربة الفلسطينيين هناك .

ومع اقتراب القرن العشرين من نهايته، تشكل الزيادات المستمرة في السكان عبئاً كبيراً علي مصادر المياه، وتجبر الساسة علي وضع مسألة المياه علي قمة جدول أعمالهم . وقدرت ورقة تقييم المخاطر التي أعدتها وكالة الاستخبارات المركزية للحكومة الأمريكية (CIA)، أنه توجد علي الأقل عشرة مواقع في العالم، يمكن أن تنفجر هذه الحرب، بسبب تناقض مصادر المياه المشاركة بين دولها، ويمكن أن تقع معظم هذه الأزمات المحتملة في منطقة الشرق الأوسط، فليس من قبيل الصدفة، عندما شرع البنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) في عام 1992، في إجراء تقييم شامل للصراعات المستقبلية المحتملة، التي قد تستدعي تدخل الجيش الأمريكي، ومن بين الاحتمالات التي درست، نشوب حرب بين سوريا وتركيا. ومما يؤكد علي أن الصراعات علي المياه في الشرق الأوسط، من المحتم أن تندلع في مناطق أخري: أن نسبة 85 % من المياه التي تصب في الأنهار التي تصل إلي الدول العربية، تأتي من دول المنبع غير العربية (دول الجوار الجغرافي) .

وذكر الكاتب الأمريكي جول كولي في كتابه عن حرب المياه، قال ان الشرق الأوسط بعد نضوب النفط سوف يشهد حروباً بسبب الصراع على المياه ذلك أن خطط التنمية في المنطقة سوف تعتمد على المياه فقط . كما تناول الكاتب الأميركي توماس ستوفر نفس الموضوع في الندوة الدولية حول «إسرائيل والمياه العربية» والتي عقدت في عمان عام 1984، حيث اعتبر أن المياه العربية التي استولت عليها إسرائيل بعد حرب عام 1967 «غنائم حرب» حيث احتلت إسرائيل منابع نهر الأردن واليرموك، وبانياس.

وأضاف قائلا: ان أطماع إسرائيل في المياه العربية هي جزء من مفهوم إسرائيلي متكامل لسياسة الموارد التي تشتمل أيضاً على النفط والمعادن والسباق التجاري والحصول على الأيدي العاملة الرخيصة والموارد الاقتصادية الأخرى، وتسلب إسرائيل «مع نهاية سنة 2009» ما مقداره 600 مليون متر مكعب من مياه الضفة الغربية سنويا و100 مليون متر مكعب سنويا من سوريا و500 مليون متر مكعب من لبنان وبذلك يصبح مجموع ما تستولي عليه إسرائيل سنويا من المياه العربية بعد عام 1967 ما يقدر بـ 1200 مليون متر مكعب، ومن المتعارف عليه ان إسرائيل تضع في أولوياتها استثمار مياهها بشكل منهجي وعلمي، وتتطلع إلى الحصول على المزيد منها من انهر البلدان العربية المجاورة: النيل في مصر، واليرموك وروافد الأردن في سوريا والأردن، والليطاني وروافد الأردن في لبنان، وتنوي إسرائيل الافادة من مياه اليرموك والمياه اللبنانية لري ما تسميه «ايهود والسامرة» وتوليد الطاقة الكهربائية على أساس تفسيرها الخاص للحقوق حسب القانون الدولي، رغم ان نهر الليطاني من الأنهار القليلة في الشرق الأوسط الذي ينبع ويجري ويصب في البحر ضمن أراضي دولة واحدة هي الدولة اللبنانية، ويعتبر من منظار القانون الدولي أنه نهر لبناني مئة بالمئة .

وفي كتاب ” حرب المياه على ضفاف النيل حلم إسرائيلي يتحقق” الذي ألفه عمر أحمد فضل الله وهو كتاب يعرض أزمة مياه النيل الحالية وما يمكن أن يترتب عليها من أخطار ومهددات لدول حوض النيل والمنطقة بأسرها في حال تفاقمها. وخاصة بعد إعلان إثيوبيا الشروع في بناء سد النهضة، حيث يتناول هذا الكتاب باختصار جوانب هذه المسألة بعرض المعلومات ومناقشتها بالحيادية والتعقل.

يطرح المؤلف في الكتاب عدداً من الأسئلة التي تسلط الأضواء على أبعاد المشكلة وجوانبها مثال: هل نحن على شفا حرب ستستعر بين دول حوض النيل حول اقتسام مياه النيل؟ وإلى أي مدى تمثل إسرائيل تهديداً للأمن القومي المصري فيما يتعلق بمنابع النيل؟ وهل تعتبر الخطوة التي قامت بها إثيوبيا مؤخراً بعد إعلانها الشروع في بناء سد النهضة مجرد مساومات سياسية وورقة للضغط على مصر لتحصل على نصيب لها من مياه النهر وفق اتفاقية قانونية أم أن ما تقوم به هو عمل يهدد الأمن القومي للمنطقة ويصب في استراتيجيات ومصالح جهات أخرى؟.

وهل سد النهضة عمل تنموي محكم يخدم الشعب الإثيوبي ودول المنطقة بالفعل أم أنه حلقة أخرى في سلسلة حرب المياه للسيطرة على أهم روافد الحياة لمصر والسودان؟ وهل سد النهضة هو مشروع إثيوبي وطني حقاً؟، أم أن وراءه مصالح لجهات ودول أخرى؟ وهل تتفق خطط المياه في كل دولة من دول المنبع والمصب مع الاتفاقيات التاريخية لاستغلال مياه نهر النيل؟ هل تكفي مناسيب مياه النيل الحالية لجميع الدول المشاركة فيه أم أنها تهدد بكارثة قادمة؟ هل الاتفاقيات التاريخية الموقعة قانون يحكم التصرف في مياه النيل أم أن النيل (مشاع) لمن سبق؟ من الذي يتحكم في مياه النيل وهل يحق لأي دولة القيام بعمل انفرادي في أي رافد من روافد نهر النيل دون الرجوع للدول الأخرى؟ وهل حرب المياه مجرد دعاية إعلامية تهويلية ومبالغ فيها أم أنها حرب حقيقية بدأت بالفعل منذ زمان والناس عنها غافلون؟ وماذا يقول الخبراء والمحللون السياسيون؟، وأين هو موقع إسرائيل من كل ما يدور في منطقة حوض النيل وما حولها؟ وهل تقف إسرائيل ببراءة أم أن لها وجود فعلي مؤثر وراء ما يحدث من نزاعات خفية أو معلنة؟ نهر النيل إلى أين؟ دول حوض النيل إلى أين؟ ومصر إلى أين؟ كما يتناول الكتاب حقيقة الوجود الإسرائيلي في دول منابع النيل في سعيها للسيطرة على المنابع وضرب طوق من الحصار على مصر والسودان، ويقدم مقترحات حل أزمة المياه الحالية وتجنيب المنطقة كارثة حرب مدمرة بالإضافة إلى العديد من الموضوعات الأخرى المتعلقة باتفاقيات ومشاريع مياه النيل .

من كل ما سبق يمكن القول بأن الإسرائيلي، حيث يشكل الماء محور الجغرافيا السياسية في كل مرحلة من مراحل التاريخ في المنطقة. كما أن الأطماع الإسرائيلية في المياه العربية بشكل عام والمياه الفلسطينية بشكل خاص، هي جزء من مفهوم إسرائيلي متكامل لسياسة السيطرة على الموارد، وانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة في الجولان وما تبقى من جنوب لبنان وأراضي الضفة الغربية، إنما يعني لها التخلي عن “غنائم الحرب”. فالمياه تشكل أحد أهم عناصر الإستراتيجية الإسرائيلية (السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية) التي تنطلق من مسلمات أبرزها التمسك ببقاء السيادة الإسرائيلية على مصادر الموارد المائية. ومن هنا لا يستطيع أحد إنكار أن المستقبل يخبئ في طياته مفاجآت، فالأمن الغذائي العربي مهدد برمته، لأن المياه وحدها تؤمن الغذاء، والدول العربية الآن تستورد ما يقارب 40% من مجمل ما يستورده العالم الثالث من المنتجات الغذائية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم