آراء

علي الدباغ: تداعيات افغانستان على أمريكا وايران

علي الدباغرهان أمريكا على طالبان الجديدة -التي تم إعادة إنتاجها في الدوحة- في حسابات على الورق تفتقر لفهم ما كان يجري على الأرض بالرغم من الوجود المتفرد لكل وكالات الحكومة الأمريكية الإستخبارية على مدى عشرون سنة في أقغانستان، يسبقه فشل تأريخي لكل الجهود المضنية والتكاليف الباهضة لإعادة تشكيل المجتمع الأفغاني على الطريقة الأمريكية والتي يخطط لها خبراء المكاتب في واشنطن، والمعاندة الطويلة لأخذ الدروس والعبر من الأحداث التي مرت على بلدٍ عصيّ على كل الغزاة الذين إرتدوا بالخسران كما وصفهم الشاعر الأعشى: "كناطحِ صخرةٍ يوماً ليوهِنَها، فلم يَضُرها وأوهى قَرنَهُ الوعلُ"، والثقافة الديوبندية التي تشكل الأساس الفكري لحركة طالبان كان أساس نشأتها هي مواجهة الغزاة.

لكن أمريكا كما هي دائماً يصعب ويعزعليها أن تقبل الهزيمة وتعترف بالفشل وتُصلِح ما أفسدته ولم تقبل بنصيحة شخصيات مرموقة في تأريخها مثل والتر ليپمان الذي تحدث عن خطورة التواجد العسكري في البر الآسيوي كما يستشهد به المفكر المصري محمد حسنين هيكل.

التقييم الأمريكي لقرار الانسحاب من أفغانستان بأنه سيوقف النزف المستمر لقدرات الولايات المتحدة ويخلق واقعا جديدا في أفغانستان يصب جزء منه لمصالح الولايات المتحدة في خلق بؤرة توتر جديدة في وسط آسيا تشاغل بها الصين وروسيا وايران، يعكس دائماً التفكير النظري غير الواقعي لمخططي الإستراتيجيات في الولايات المتحدة، ومرة أخرى أخطأ المخطط على الورق عما هو على الأرض، فإيران مثلا بدأت بنسج علاقات مع طالبان منذ انكسارها في 2001 حيث استقبلهم قاسم سليماني على الرغم من مشاركة ايرانية غير محسوسة في سقوط طالبان، واسست ايران علاقات متشابكة مع خطوط طالبان المختلفة (على الرغم من أثر قتل 9 دبلوماسيين ايرانيين في مزار شريف)، ولم تنقطع زيارات طالبان لطهران منذ ذلك الوقت وأنقذت ايران الكثير من قيادييها في رهان يشبه المقامرة على كل الأحصنة في المضمار، ومن المفارقات أن وفداً من طالبان حضر مؤتمر الصحوة الاسلامية عام 2011 في طهران بالتوازي مع وفد حكومي أفغاني، وكذلك زيارات متكررة في السنين اللاحقة والاتصالات كانت تتم مع فيلق القدس الذي يترأسه سليماني، حتى ان الأمريكان قتلوا أحد زعيم طالبان وهو الملا أختر منصورالذي خلف الملا محمد عمرعندما كان عائدا من زيارة سرية لطهران في مايو 2016، ونشأ تصور مبكر في إيران بأن الحكم في أفغانستان لايمكن أن يستقر بدون طالبان وتم العمل بهذه السياسة على كل المستويات الرسمية الايرانية بما فيها إيواء قيادييها واستضافتهم وفتح مكاتب للحركة شبه علنية.

الانسحاب الأمريكي المتسارع من أفغانستان تعتبره إيران نصراً مجانياً غير مباشراً لها أنهى وجود عدو لدود يحاصر خاصرتها الشرقية في جهودها لتنفيذ استراتيجيتها الجديدة في محاربة الوجود الأمريكي في المنطقة الذي يحيط بها، والذي يتمثل في الهجومات المتكررة عليها في العراق، لذلك فان ايران ستكون أكثر قلقاً لو شب نزاعاً أهلياً أو صراعاً على السلطة، لذلك ستسعى لترسيخ حكم طالبان واستقرار أفغانستان كهدف رئيسي لحكومة رئيسي ليكتمل شعورها بالنصر وبشروطٍ تُحسِنُ ايران دائما إستثمارها وفرضها بطرق مختلفة.

التفاف ايران على الوضع في أفغانستان يساعدها الآن تشابك في الإقتصاد، حيث تعتبر ايران الشريك الأول لأفغانستان وشريان وممر حيوي لوارداتها حسث تفتقد لأي منفذ بحري، وكذلك سعي ايران للتعاون الواسع مع الصين سيوفر لها ممر أفغانستان طريقاً محتملا لتوسيع مشروع الحزام والطريق لإيران والتي وقعت مذكرة تفاهم بالمليارات مع الصين في تحالف اقتصادي محتمل تسعى له الصين بكل قوة، وكذلك علاقات مع مكونات الأفغان بدءا من حامد كرزاي والطاجيك والأوزبك والهزارة ولواء فاطميون (الذين هم احتياط استراتيجي لإيران للمجموعات العابرة للحدود واستخدامهم في سوريا تحديدا كان أهم دور لهم) واحزاب جديدة ومجموعات مسلحة ممولة من ايران تعمل في السر والعلن، ستستثمرهم في توازن بالعلاقة مع طالبان بإلإتجاهين وتستخدمهم في حال نشأت مفاجئات في العلاقة مع طالبان، وهكذا هي ايران تحصد ثمار الفشل الأمريكي كما حصدته في العراق، يساعدها أيضا بأن كل جوار أفغانستان يمكن أن ينسجم مع توجهات وخطط ايران سواءا الصين او باكستان أو روسيا وكلها قلقة ومتفقة لحد كبيرعلى أولوياتها الرئيسية، ولتأثيرها ودورها المتوقع فأن منظمة شنغهاي للتعاون منحت ايران عضوية كاملة فيها، وسيكون الوضع عليها أسهل بكثير من العراق الذي لم تكن دول جواره منسجمة مع مخططات ايران وغير مرحبة ومعارضة وممانعة للنظام الجديد فيه.

قرار الانسحاب يعطي رسالة مُقلقة للكثيرين الذين يراهنون على الوجود الأمريكي في المنطقة الذي لم يعد كما كان سابقا، فقد تغيرت الأولويات والحسابات والتحديات والمصالح ولم تعد حتى داعش وما يرافقها من مجموعات عنف وتطرف تشكل الاهتمامات الكبرى للولايات المتحدة، فمثلا أصبحت مواجهة الصين تتصدر أولوياتها والتنافس مع روسيا تتقدم على علاقتها بالمنطقة ونفطها، وبالتالي بدأ الجميع يتكيف مع بدائل لم تتبلور نهائيا لحد الآن، سيكون أسهلها وأفضلها وأسرعها أثراً هو تفاهم اقليمي لغلق ملفات التوتر والصراع والحروب بالوكالة والتي لم تخلق وتُنشأ وضعاً مغايراً لما كانت عليه ولم يستفد اي طرف في فرض نموذجاً كان هدفا للحرب والتوتر.

عدم الإستقرار في أفغانستان سيجذب الكثير من المجموعات الراديكالية التي ستشكل خطرا أعظم على أمن المنطقة وخصوصا العربية التي تكتنز مجموعات متطرفة وغاضبة ومغضوب عليها ومُطارَدَة لذلك فإن هدف استقرار أفغانستان سيكون مشتركاً يتوزع على أغلب دول المنطقة حيث تنعدم في أفغانستان مشتركات أخرى فليس موقع أفغانستان بذات الأهمية وتفتقر للموارد التي تشكل تنافساً دوليا عليها مثلما الحال عليه في العراق وليبيا مثلا.

تبقى قدرة طالبان على لجم وتحجيم والقضاء على الجماعات المنافسة المتطرفة في أفغانستان مثل داعش وبقايا القاعدة والنسخ المتطورة منها هاجساً وإمتحاناً لقدرات طالبان في إحتكار السلاح والعنف وهو إختبار ليس سهلاً وسيأخذ وقتاً حيث ستسعى تلك الجماعات لزعزعة حكم طالبان وتفجيرات كلما أمكنها ذلك.

ويبقى الصراع بين أمريكا وايران وما ستسفر عنه محادثات البرنامج النووي أمراً يحدد الكثير من التحركات وسلوك كل طرف في أفغانستان.

 

د. علي الدباغ

 

 

في المثقف اليوم