آراء

علي ثويني: ماذا جنينا في العراق من الفكر والممارسة القومية؟ (1)

علي ثوينيعادة ما أتسائل، لماذا يصر الأكراد على الحلول القومية رغم أن "الديمقراطية الأمريكية" حلت محلها، بل وباركوا هم لها وساندوها. فإذا كان عداؤهم للبعثيين "كما يدعون" وأن البعث كان سياق قومي، فلماذا يسيرون على هدى أعدائهم ويصرون على طرق نفس الباب، ولم يستجدوا حلول أخرى أكثر أخلاقية من الخطاب القومي الذي أمسى من الماضي، ولم يعد أحد يرتضيه لبلد فسيفسائي البنية كما العراق، إلا بغرض تفتيته وإستدامة وهنه وبهذلته، وهذا هو مصدر ريبتنا الدائمة سواء بالقوميين الأكراد أو حتى الآثوريين رغم وهن حالهم. لكن خطابهم لايختلف عن الأكراد رغم العداء بينهما، لكنهم ليسوا على الأرض ويبتزون الجموع وينشطون بأمريكا وأستراليا والسويد أكثر من سهل نينوى. فالكل يتحاربون بنفس السلاح، ويريدون تقاسم نفس الأرض، ولانعرف من سيغلب من، بل أيهما أسهل وطئأ لقبول المؤامرة بالعلن والسر مع الأجنبي؟.

حري بسبر أصول الفكر القومي، وهل هو من أمهات ثقافتنا أم مستورد. والحقيقة تشير إلى أن كل فروع الطرق القومية كانت قد تبعت المصدر الألماني القومي، وأنتهت جميعها إلى كوارث "قومية" كما الفاشية والنازية بل وحتى جانب مهم من الشيوعية كان قومي. أما عندنا فقد أنهى عبدالناصر وقذافي وصدام والبعث العراقي وعلى الأبواب البعث السوري إلى غير رجعه.

كان الصدر الألماني الأصلي سعى خلال قرن في تأكيد أفضال العنصر الألماني وسماته الفذة، والذي أنضج وأوصل النازية (1932-45) كمشروع تبنى دراسات جزافية لوت عنق الحقائق بحجج الآرية التي مصدرها شلوتز اليهودي الهنغاري الذي قسم الشعوب إى ساميه وحاميه ويافثيه (آرية فيما بعد)، عام 1789، إستنادا إلى أسطورة الطوفان السومري التي أستلها من التوراة، وكشفت آثار العراق بعد قرن أنها جاءت من ملحمة كلكامش. أي أنها لاتحمل رصانه علميه بما يخص الأجناس والشعوب على الأقل . وطفقت النازية تخطط للسوبرمان الألماني (كما بشر بها الفيلسوف نيتشه)، و"تنظيم النسل" الإختياري. وأنتهى الأمر بسقوط ألمانيا خائرة القوى راكعة أمام الطامعين من الروس والأمريكان والأنكليز وحتى الفرنسيين المخمليين، الذين أسسوا وزرعوا (البعث) في جسد سوريا ثم العراق. وحري الإشارة إلى ن الحركة القومية الحزبية الكردية أسسها ستالين لهم عام 1946، من خلال جهاز المخابرات الذي كان يعج باليهود الروس. وأنتهت أوربا الى إحتلال روسي أمريكي. وبعد أن استفاقوا وجدوا أنفسهم مضطرين الى أن يبدلوا الفكر القومي، بفكر ناضج وواقعي (براغماتي) مبني على أساس المصالح المشتركة، فأسسوا لمشروع (اليورو) منذ 1957، الذي تصاعد اليوم وتوسع. أما المشروع القومي التركي فقد أشاع فساداً، والمشروع القومي الفارسي تداعى الى إفلاس جماهيري، ادى الى الثورة الإسلامية التي مازال فيها عرق قومي. وأنتهى المشروع العروبي الناصري الى ضياع فلسطين وشيوع التطبيع، وإضمحلال المشروع النهضوي المصري الذي بدأه محمد علي، والذي وأده عبدالناصر. وحسبنا أن الشد (القومي) في العراق أنتج السلطة الإسلاموية الفاسدة الحالية، كما جيرانها تركيا وإيران.

وفي العلاقة بين الأقوام والتحزب، فقد شاعت الشيوعية في أوساط الفئات العراقية: كردية وآشورية وكلدانية. وحتى الأحزاب القومية لتلك الفئات تأثرت بالشيوعية، فمثلا نجد أن الإتحاد السوفيتي صنع من خلال أجهزته الإستخبارية خلال عقد الأربعينات، حزبا قوميا كرديا أطلق عليه (الحزب الديمقراطي الكردستاني) بالرغم من الطبيعة الإقطاعية لسلطة مصطفى برزاني. وقد كشف ذلك تباعا بعد فتح ملفات المخابرات بعد سقوط الحكم السوفيتي 1992. وهكذا تحول الإقطاعي إلى قومي عرقي، وآمن بالحزب الواحد والإملاءات القومية. وقد ألصقت به صفة (الديمقراطي) ويعلم الجميع أنه كان لدى أتباعه (آغا) أي إقطاعي ملاك للأرض، وكذلك رجل دين صوفي على الطريقة القادرية (ملا) يلزم طاعته. وعلى المستوى السياسي لم يتخذ خطا ثابتا في الولاءات والتحالفات بقدر ما كان لعوباً، متلوناً و براغماتياً. وقد حدث أن هرب عدة مرات تاركاً مقاتليه لمصيرهم، تحت رحمة الجيوش المهاجمة، وأنقلب من رجل روسيا الى رجل شركات النفط الغربية وعبدالناصر وإسرائيل، ثم رجل شاه إيران ثم أمريكا التي كان بها موته، بعد أن سبب بحركته الأخيرة أن تنازلت سلطة البعث عن نصف شط العرب لإيران في معاهدة الجزائر عام 1975. وكتب على المشروع العروبي في العراق الى إحتلال أمريكي مخزي، ولم يهب احد لنصرته إلا من أستفاد منه من العرب وبعض العراقيين. وما لم نكتبه ونعترف به في تواريخنا الكاذبة أن القوميين الأكراد كانوا وراء كوارث العراق حينما أعلنوا العصيان في الستينات والسبعينات و تنازل على أثرها عن نصف شط العرب لأيران، وكان ذلك سبب في حرب الثمان سنوات (صدام/خميني)، ثم أضطرت صدام لأحتلال الكويت لتسديد ديون الحرب، فضاع على أثرها العراق، ولم نتجرأ في أن ننعت المسبب الحقيقي وهم القوميين الأكراد دون طائل. وإذا رمنا بناء عراق حقيقي لابد من المصارحة في ذلك.

كتب لدعاوى القومية العربية عمر أطول، حيث أستمر نصف قرن بعد الألمان، بعدما تصاعد خلال الأربعينات وتوج بأحزاب وتجمعات في الشام بالخمسينات، لكنه سرعان ما أمتد الى مصر خلال سنوات الهيجان الناصري الذي أمتدت سطوته الإبتزازيه ليطأ سوريا والعراق و اليمن وليبيا و الجزائر والسودان. ومن المعلوم أن عبدالناصر كان من أوفى أصدقاء الأكراد مثلما الإسرائيليين. وتصاعد الحل القومي في الستينات من خلال (البعث) الذي دعمته المخابرات الغربية، ليس "لسواد عيونه"، بقدر إستغلاله وسيلة لمحاربة المد الشيوعي المتصاعد ولاسيما في العراق، وذلك إبان "الحرب الباردة"، التي أدخلتنا في السياسة العالمية دون أن يكون لنا ناقة بها أو جمل، بل كشفت هزالنا الإجتماعي . وحسبي أن لعلم الإجتماع دور فيما حصل، حيث كانت ثورة 14 تموز 1958 تستند على تحليلات علي الوردي، بينما إنقلاب شباط 1963، أعتمد على تحليلات حنا بطاطو وسخرها بعناية.

 وبذلك دفع العراقيون في دعاوى (العروبة)، أغلى الأثمان، ولاسيما على يد" الحرس القومي" في انقلاب 8 شباط 1963 وما تلاه . ومن الجدير ذكره بأن الشيوعيين العراقيين، و بالرغم من توسع عددهم في الخمسينات، لكنهم لم يجدوا عاقل بينهم يجيد تنظيم توجهاتهم وموائمتها لتكون قوة وطنية عراقية، وليس تابع سوفيتي مسير لامخير. فقد مارس الشيوعيون إيهام وجهالة، حيرت الألباب، ومازال كتاب التاريخ يضربون أخماس بأسداس في تفسيرها . ومن الجدير بالذكر أن الغرب أستعمل سلطة عبدالناصر في سوريا ومصر مطية لتمرير خططهم ضد الجنين "العراقي" اللاقومي (حكم عبدالكريم قاسم)، حتى يتذكر الجميع كيف تسنى لرشاشات (بورسعيد) المصرية "المثقبة" التي ثقبت صدور خيرة أهل العراق، وأمتلئت بها شوارع بغداد، على يد الحرس القومي البعثي . ويذكر الجميع الزعيق الذي كان ينطلق من إذاعة (صوت العرب) من القاهرة، وبطلها المهرج أحمد سعيد، لتوئد في المهد أول تجربة عراقية "لاقومية" منسجمة مع السجية العراقية، وتعلن حالة سوية سبقت أوانها.

توج الفكر القومي العروبي في العراق بالبعث الذي تطرف بالممارسة القومية، وجعل العراق (قطرا)، وربط مصيره بمصير موريتانيا والصومال وجيبوتي وجزر القمر، وردد شعارات جوفاء بتحرير فلسطين، بالرغم من تعاونه المبطن مع إسرائيل (وفي ذلك قرائن ليس هنا محل سردها)، ومكث ذيلياً متخاصماً مع ذاته والجيران، بسبب النزق المتأتي من أثر المردود النفطي القاروني. وكانت مشكلته الكبرى بالنسبة للعراقيين؛ أنه أدعى تبني "العروبة" على حساب التجمعات العرقية المكونة لفسيفساء الأمة العراقية.

 و لم ينسجم الفكر القومي مع طبيعة العقلية العراقية . وسكت الناس خشية بسبب إرهاب الدولة وطغيانها، حتى لجأ الناس إلى التقية والمواربة والنفاق على أعلى مستوى، تبعه مسخ مفاهيمي لما يظهر ويظمر. وطفحت للسطح ظاهرة الوشايات وشراء الذمم و (التقارير الحزبية)الكيدية. بل وتحللت عرى القيم حتى شاعت الرشوة والمحسوبية والمنسوبية، و و طفحت للسطح فقاعات العناصر الهزيلة الردمية. فقد قاد حسين كامل شبه الأمي، سبعة وزارات عراقية وألغى ورارة التخطيط، و تبوأ سمير الشيخلي القادم من قاع المجتمع والأزقة الخلفية ليغداد، منصب وزير التعليم العالي والبحث العلمي، وأمسى محمد حمزة الزبيدي الجاهل بإمتياز، رئيسا للوزارة العراقية، وقس على ذلك.

أما (الأقليات العرقية والدينية)، "بالرغم من عدم إيماننا بمبدأ الأكثرية والأقلية" فقد مارست نوع من التقية "القومية"، فأنجذب التركمان للعرب تارة وللأكراد تارة أخرى، بحسب قوة الدولة المركزية وسطوة الإبتزاز القومي المجاور لهم ولاسيما على خطوط التماس في خانقين وكركوك وطوزخرماتو وبعض جهات ديالى. وقد أدى ذلك التلون إلى نأي عن سياق المواطنة السوية، والإنتماء الوطني المشترك، وكبح ممارسة التعبير وحرية المشاركة في البناء الوطني. كل ذلك جعل تلك التجمعات تلجأ بغريزتها اللاواعية في التطلع الى الوحدات القومية التشرذمية أو القابعة خارج حدود الوطن العراقي كما الأكراد بأحجية (كردستان الكبرى) الطوباوية، الأكثر غباءا من أحجية (الوحدة العربية). كون العرب مؤطرين كدول وتجمعات لسانية وثقافية بينما الأكراد مشتتين حتى باكستان وروسيا ولديهم لغات لاتتشابه وأرومات وسحن لاتتطابق . ومن الهزال أنهم أطقلوا على شمال العراق (كردستان الجنوبية). وقد أشاعت تلك الحالة أجواء نفاقية، لايمكن التأسيس عليها لمجتمع سوي، ونظام سياسي سليم، وديمقراطية تهب الإنسان قوة الذات المعبرة عن الرغبات والمصالح والأهداف الجمعية، وهذا ما أفشل (الديمقراطية الأمريكية) من العرق. 

ومن الجدير رصده بأن الشيعة الذين يشكلون غالبية أهل العراق (65% من السكان) عانوا من هذا الشعور، وعدوا أن بينهم وبين التطلع للسلطة والقيادة الذاتية خطوطا حمراء، بالرغم من عدم إستهوائهم للحلول والوحدات القومية (العروبية). وهم في حقيقة الأمر أكثر إنتماء للعراق من غيرهم، كون البلد يضم مقدساتهم وعتباتهم ورفات أئمتهم ومقابرهم، رغم سطوة الدعاية الإيرانية التي تحاول إجتذابهم وتجعلهم طابور مؤيد وتابع لها في العراق .

ونرصد في التواريخ المتأخرة بأن الشيعة أنخرطوا بالشيوعية ولم ينخرطوا بالفكر القومي، إلا بعد أن أجبرهم الحكم الشمولي البعثي. رغم أن الفكرين يحملان الهاجس (المهدوي) أي التبشير بمستقبل مثالي، وهو برأينا اللمسة اليهودية في جذر الفكرين سواء كارل ماركس أولينين أو النفس القومي الألماني المفعم باليهودية، والتي هي أكثر من جسد الفكر المهدوي. لكن أنتشار المد القومي العروبي أقرن عندنا بالعرب (السنة)، وقد صرح أكثر من مغالي (ومنهم الرئيس عبدالسلام عارف) بأن هدفهم من الوحدة العربية بجعل الشيعة أقلية في وسط تلك الدولة السنية المترامية الأطراف. وربما يكون ذلك "بوعي أو بدون وعي" قد حرك نزعة سلبية ورد فعل "لاعروبي" لدى الشيعة، فكانت ألسنتهم عربية وقلوبهم لاعروبيه.

ولدت لدى الاقليات العرقية في الشام والعراق ردة فعل غريزية للحفاظ على كياناتها المهلهلة. فأمسى الفكر القومي من مصادره العروبية والتركية والفارسية يلهم توجهاتهم و بلورة خطاب قومي لدى التجمعات السكانية، ومنها الكردية و الأشورية و التركمانية. وحدث تشاحن وتضاغن بين تلك التجمعات مثلما بين الأكراد والتركمان والعرب. ومن الملفت أن الشيوعيين الأمميين وقفوا مع البرزاني وحركته القومية ضد التركمان ولاسيما إبان حكم عبدالكريم قاسم على أساس الولاء المشترك وبغمز وإيعاز من الاتحاد السوفيتي، مما جعل القوميين التركمان يلجئون " للعروبة" ملاذا، و منهم من أنخرط تباعا في البعث وأخلص له، بقصد الانتقام من الكرد والشيوعيين سوياً. وهنا نرصد أن الحرب الأهلية في الموصل عام 1959، بين القوميين والشيوعيين، التي الصقت بعدالكريم قاسم البريئ منها، كانت في حقيقتها صراع بين العرب والتركمان من جهة وبين الأكراد الطامعين بالتوسع على حسابهم من جهة أخرى. ومن الغريب أن عبدالناصر شجع على تلك الحرب، ورغم تأييده المبطن للأكراد (يعزيها البعض لأصله الكردي)، لكنه وقف مع عروبيي الموصل لأسقاط سلطة جمهورية الزعيم عبدالكريم، بل يقال أنه مكث في القامشلي أيام الوحدة مع سوريا ينتظر النتائج التي تتمخض عنها حركة عبالوهاب الشواف، كي يدخل للعراق منتصرا. لا بل أوعزوا للنسوة الموصليات أن يحضرن (سفرة الأكل)، كون عبدالناصر قادم لامحالة، وسوف يختار بيت منهم ليتناول الطعام معهم!.

 

د. علي ثويني

 

 

في المثقف اليوم