آراء

علي ثويني: ماذا جنينا في العراق من الفكر والممارسة القومية؟ (2)

علي ثوينيساعد وضع العراق الثقافي والإجتماعي والإقتصادي في إنضاج الحركة القومية الكردية العراقية على خلاف مثيلاتها لأكراد تركيا وإيران وحتى سوريا، وهذا ما يلمسه الجميع. أما التركمان فقد تأخر مشروعهم لشحة دعم تركيا لهم، وعدم إمكانية إقامة كيان ذاتي لهم لأنتشارهم في جل المحافظات الوسطى والشمالية، على عكس مساعدة جهات عدة لأكراد العراق مثل إسرائيل وإيران وعبدالناصر ثم حافظ أسد. لذا فإن التركمان لقوا تعاطفا أكبر من قبل سواد العراقيين بسبب أنهم لا يحملون أحلاما إنفصالية أو إستحواذية كما ذهب إليها القوميين الأكراد. ومن المعلوم أن بؤرة التوتر بين الأكراد والتركمان هي كركوك "النفاطة"، وسياقها إدعاء الفريقين اكثرية تواجدهم على أرضها . بل وإن القوى الوطنية "العراقية" التي يطلق علها غلاة القوميين الأكراد بـ "العراقجيه"، يقفون مع التركمان ليس حبا وإعجابا بفكرهم القومي أو إعترافا به، بقدر كونهم أداة لتحقيق الفكرة العراقية التي تجد لها صدى واسع في الشارع العراقي.

حينما بدأت مرحلة إنكفاء الشيوعية إبتداءا من الستينات، بعد الضربات الموجعة التي تعرض لها في العراق عام 1963، وإستسلام القيادة المركزية (حركة عزيز الحاج) عام 1969، بما جعل عناصرها تفقد الأمل في تحقيق الحلم و منظور دولة الكادحين والمظلومين. و تمخض ذلك عن ظهور الفكر العدمي وإنتشار الوجودية لدى بعض المتنورين، وتشظي الشيوعين الى بعثيين أو أنخرطوا في الحركات القومية العربية أو الكردية والتركمانية والآشورية، التي استفادت من ملكاتهم ومواهبهم التنظيمية و التأهيلية، التي أثرت تباعا أدبياتهم وعاضدت حججهم في إقناع رهط من المثقفين ودونهم.

أما (الفيلية) أو (اللور)، فقد كانوا جزءا صميما من مجتمع بغداد ومدن دجلة الأوسط، ولم ينخرطوا في التجمعات القومية سواء عروبية أو كردية، إلا ماندر، وتوسع بعد إفلاس الحركة الشيوعية التي أحتظنت الكثير منهم. وتوجه بعض شبابها المثقف في بواكير السبعينات الى جماعة جلال طلباني التي خرجت من تحت عباءة حركة البرزاني الأم عام 1975 وتأسيسها في دمشق تحت وصاية حافظ أسد ومخابرات خارجية داعمة. ولاننسى أن ثمة فيلية لعبوا دور كبير في ترسيخ سلطة البعث ولاسيما سطوة صدام، ومنهم الباوي و جبار كردي وصباح مرزة وغيرهم. ويعلم الجميع مدى الحيف الذي اصابهم بعد أن طردهم البعثيون إلى إيران في نهاية السبعينات، وتكتم الجميع ونقصد "القوميين" الأكراد على مصابهم، كونهم عراقيين وليس قوميين أكراد.

وفي عقد الثمانينات نضجت مفاهيم دولة" المنظمة السرية" بحسب وصف حسن العلوي، وجاءت الحرب العراقية الإيرانية تحمل مسوغات قومية بالية بالعداء بين الفرس والعرب أو تشكيل العراق للبوابة الشرقية للأمة العربية التي لم تنطلي على سواد العراقيين. ثم توجت الممارسات القومية في كارثة احتلال الكويت، وعّد القوميون حينها أنهم أولى بموارد نفط البلد، ولاسيما الشاميون الذين أحسوا بالغبن من "حدود النفط المصطنعة" التي قطعت "أوصال الأمة"، وحرمتهم من نعيم النفط العراقي والخليجي. وقد سمعنا العروبيون يمجدون صدام، ونتذكر كيف أمتدح (الشيخ البوطي) السوري إرجاع حق الامة المحتكر من طرف نفر منها.

وتصاعدت الحركة القومية الكردية والتركمانية والآشورية، وحصدت الكردية منها تعاطف الشيوعيين معهم ضد ظلم البعث وتنكيله. أما التركمانية فقد لاذت الى تركيا، وأما الآشورية فلم تكن ذات تأثير كبير أو حتى نضرت لبعث الأمة من ديترويت وملبورن أكثر منه من سهل نينوى.

ظن البعض أن الحل القومي هو القادر على حل المعضلة العراقية ولاسيما بعد مكوث البعث متشبثا بالسلطة، وتماشيا مع مبدأ ( لايفك الحديد الحديد) . واعتمادا على التاريخ العراقي الطويل، لم نجد أخبار تنقل تناحر قومي أو طائفي في العراق، ولم نسمع عن "طوشة نصارى" كما حدث في الشام عام 1861 أو حرب أهلية كما حدث في لبنان (1976-1991). والظاهر أن التلاون الفسيفسائي أضفى على الروح العراقية نوع من التسامح، و تكرس الأمر إبان التراكمات الحضارية والتبدلات العقائدية، وكذلك وجود العراق في وسط هضاب جافة صدرت له المهاجرين الباحثين عن سد رمق، ثم أسبغ عليهم وجود وعافية. وربما يكون الثراء سببا في تلطيف النفوس وترويض الغرائز، وتكريس التسامح.

ويجدر القول أن صفاء الدماء ونقاء الأصول كانت (حمالة أوجه) في التوجهات القومية، فلم يسأل القوم عن ذلك بقدر سعة شوط الولاء لتوجهاتهم، وكان ذلك سبباً حقيقياً في ضم تجمعاتهم لكل الملل والنحل العراقية. وبسبب غياب الغطاء الفكري الجدلي المقنع للفكر القومي، فانه كان سببا في إستقطاب العناصر الفاقدة لمكارم القيم، من إنتهازيين ومنافقين وضعاف نفوس (ملطلطين) و وصوليين ومصفقين ووشاة، حتى ندر أن تجد سوي بين صفوفهم.

وبسبب تشضي الحركة الكردية من جراء رعونة مصطفى برزاني عام 1975 وتسليم مقاتليه للسلطة العراقية، حيث حدث إقتتال بينهم خلال عقد التسعينات، والأمر مازال يختمر بالنفوس بين جماعة طلباني وبرزاني وظهور قوى قومية أخرى تريد حصتها من السرقات التي يمارسها القطبين المتناحرين. وقد تذبذب القوميون الأكراد، وحدث أن طلبوا المعونة من إيران الملالي، أو صدام البعثي، لكي يساندوهم في تدمير بعضهم "قوميا". ولم يتصالحا إلا بزجر وإملاء أمريكي، وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية (أولبرايت) العراب الجامع للقلوب المتضاغنه. واليوم فأن تلك القوى "القومية" متربصة لبعضها تنتظر لحضة الغفلة لتنقض على بعضها، وتحرق الأخضر واليابس لتتحقق الأمنية "القومية"، لا بل أن قومية السليمانية تختلف وتناكف قومية أربيل، والإثنين إلى هلاك قادم لامحالة.

الكل مقحمون قسرا اليوم في لعبة القبول أو التهميش التي يمليها السياسيون القوميون والطائفيون، حتى أن منهم من يريد الإنفصال عن العراق رغم انه وأهله دخلاء ويبني عليها منطقا واهيا كما حدث فيما دعي (الإستفتاء) عام 2019 والذي رفضه الجميع. وهكذا طفق متفذلكيهم إلى لي أعناق الحقائق وتسخير الأساطير و حوادث التاريخ المزورة ومسوغ الحدود النهرية أو الجبلية و ترهات الدس المدون في بعض دوائر المعارف أو الموسوعات (الأنسكلوبيديا) ومراكز"علمية" كتبها اليهود لتكريس الفرقة، و وعدوها "القوميون الأكراد" مصادر رصينة.

 وطفق الإنفصاليون يقسمون البلد على أهوائهم دون أدنى اعتبار لحقيقة وجود كل العناصر والطوائف والملل في كل بقعة من العراق وكونهم طارئون على الوطن العراقي . حتى أن غلاتهم أفرزوا مدنا مثل كركوك وأسموها ـ"قدس الأقداس" و التي لم تكن يوما في التاريخ كردية، أو سكنها أكراد، بل كانت آشورية وسريانية عراقية محضة .

وغير كركوك نجد البصرة ضمت الكردي والعربي والتركماني والسني والشيعي والصابئي والأرمني والآثوري والكلداني، ولم تفرق بينهم وكذلك فعلت بغداد والموصل وخانقين ومندلي . ويقر الجميع أن كل التجمعات السكانية الهجينه في العراق يعمها نوع من التسامح والائتلاف، على عكس المناطق موحدة العنصر والطائفة، التي نلمس منها إزدراء وكراهية للآخر. وهاهم أهل كركوك والبصرة، من أكثر سكان العراق تسامحاً، وممارسة حضارية وقبول للآخر.

لقد وجد بعض الطائفيين الحل على الطريقة الهندية -الباكستانية التي سمعنا عن مأساتها وكيف وصلت الى الفشل الذريع في الفصل بين الشعوب المتعايشة والمتحابة في الوطن الواحد. . وإذ نسأل الأخوة "لقوميين" هل نبني لكل طائفة وقومية كانتون وحائط فصل عنصري في كل قرية ومدينة ليتسنى لتلك "القوميات" الشعور بالراحة والإطمئنان على مستقبلها، مثلما حدث مع مملكة (لوسوطو)، التي مازالت طفيلية تابعة وقابعة في سرة البلد الأم جنوب أفريقيا.

إن السوسة القومية التي نخرت عظام كثير من الأمم وأضاعت عليها فرص الحياة الكريمة، وحسبنا أنها قبرت مع غروب البعث والمشروع القومي العروبي، و ها نحن نعيش (حقبة ما بعد القومية أو العابرة لها) . حيث بدأت ملامحها تظهر في أوربا نفسها. ومنذئذ سمت أوربا فوق جراحاها ولم تتناطح منذ ثمانية عقود، وهو أمر لم يحدث في سابق تأريخها المشحون بالتناحر . وقد دحضت منظوماتهم التربوية والثقافية كل ما سوق في السابق من حلول قومية وعرقية أو دينية أو لغوية الذي نخرتهم بحروب متتالية لا طائل من ورائها . وقد أقروا أن الأمريكان أنتهزوها فرصة وأحتلوهم، وأن "مشروع مارشال" خدم أمريكا ونما اقتصادها الكاسد أكثر مما خدمهم .

وفي المحصلة نطمئن المدعين الخوف على مستقبل الفئات العراقية، بأن تلك التجمعات العرقية والدينية لن تهلك ولم تنقرض في العراق خلال أحلك الظروف التاريخية و الإنحسار الحضاري والفكري، فكيف يمكن تصور إندثارها اليوم في أزمنة التنوير. وهذا يدحض ما يتذرع به غلاة القوميين والطائفيين، لعدم توفر السند الملموس تاريخيا لما يتحججوا به، وهاهو صندوق الإقتراع إذا أحسن تنظيمة، وأصبح سند لدستور وطني لم يكتب من طرف الإسرائيليين كما دستور العراق التشرذمي اليوم. كل ذلك ومن جراء تشبث القوميين الأكراد ودعاة (المثلث السني والبيت الشيعي) بمشروعهم التشرذمي، بما يجعلنا نتسائل: هل ثمة حاجة لفكر قومي أو ديني أو طائفي في مجتمع عراقي فسيفسائي، وهل من جدوى لإثارتها بعد التجربة القومية البعثية الكارثية التي مازالنا نأن من وقع جرمها. وحسبنا أن أي ممارسة وإحياء للتجربة القومية أو الطائفية سيكرس دون طائل حالة من الشقاق والتفرقة والتناحر الذي دفعنا من جراءه نهران من الدماء و الدموع!. 

نلاحظ ان المشاريع القومية في الشرق المسترسلة من الفرع الطوراني التركي الوارد من الأصل الألماني تشظى من الداخل، وأعلن حالة تمييز بين صفاء دم أهل اللسان المشترك . فوجدنا الطورانيون لايحبون الأذريين والتركمان والطاجيك و شعوب تركستان الشرقية في الصين. ونجد القوميين الأكراد يحتقرون الفيلية واللورية مثلا ويعدوهم "عرب"، أو تنافسوا على من هو الأفضل بين خمس تجمعات لسانية كردية تفترق فيما بينها، مثلا تهكم السورانيون على اللغة البادنانية، حتى فسروا أن أسمها "قوميا" يعني (من لادين له)، ونجد من يعد اللغة الكردية الكرمانجية المتداولة في أطراف سوريا الشمالية والموصل وجنوب تركيا، هي محض لغة متخلفة وغير قياسية مقارنة بالسورانية "المثقفة" التي كتب قواعدها أحد الضباط الأنكليز، في عشرينيات القرن العشرين، بل دخلتها المفردات السلافية من تأثير روسي قوقاسي. وبالتوازي نجد غلوائهم وصل الى نوع من الإبتزاز القومي لفئات يقال أنها كردية كاليزيدية والشبك والكاكئية، واقر غلاتهم بان الأكراد الأقحاح ممن يستحقون الاحترام هم حصر على أكراد مدينة السليمانية ومحيطها المقرب!. وهنا حري أن نشير إلى عدم إعترافهم بأن لغة (الكيولية) تشابه اللغة الكردية، وهذا ما أخبرني به صديق كردي في رومانيا، حينما كان يتفاهم مع الغجر (السيكان) دون صعوبه.

 وعلى نفس المنوال التشرذمي يرد في التصانيف العروبية بأن شيعة العراق أعاجم وفرس، وموئلهم الروحي إيران، رغم لسانهم العربي القويم. وسمعنا ذلك من الصحفي العروبي هارون محمد في كل مناسبة دون خجل، بل وحتى من خير الدين حسيب الناصري الموصلي. ومن الملاحظ أن هذه الجموع من العراقيين المصنفين " فرس" أثروا في عمق الثقافة الفارسية، واوصلوا نسبة المفردات العربية الى حوالي 70% في لغة هي من أرقى اللغات الهندية (السنسكريتيه). كل ذلك حدث من جراء الارتباطات الثقافية والعائلية وحيثيات الدراسات "الحوزوية". ونجد اليوم التأثيرات العربية جلية في الخطاب الديني والنخبوي الإيراني . وهنا يخطر على بالنا ماسمعته في حوار أجرته الإذاعة البريطانية في أواسط السبعينات مع السفير المصري في طهران أيام حكم السادات، حينما صرح عن إستغرابه من عدم ضم إيران إلى الجامعة العربية، كونه وأي عربي سوف لم يلاقي أي صعوبة في قراءة اللافتات وإعلانات الشوارع، أو حتى قراءة الصحف، وبذلك فإيران تستوفي شروط الإنضمام. وقد تناسى الرجل أن الفضل في ذلك يعود إلى التداخل الثقافي مع شيعة العراق، وسطوة الحوزات العلمية العراقية.

وحسبي "ثقافيا"، يمكن تنظيم تجمع عالمي للعرب وهالاتهم الثقافية، لتكريس حالة من حقيقة التأثير والتأثر، ولا نقول (مركزية عربية كي لانبعث الخطاب القومي)، ويمكنها أن تشكل قلب الأمم المسلمة وتكرس التعضاد الثقافي بينها بما يرتقي بوعي أهلها. وهو يدحض المشروع الصهيوني، بما دعي تجمع (الدين الإبراهيمي) الذي يحيطه الشك من كل جانب. وهذا التجمع يشمل الفرس والأتراك وأهل أواسط آسيا وتركستان الشرقية والهنود الشماليين والباكستانيين (المتكلمين بالأردو) والبنغال والبورميين والأندنوسيين وأرخبيل جنوب الفلبين، وكذلك الدول السواحلية الخمس في أفريقيا: (رواندا-بوروندي-كينيا-تنزانيا-أوغندا)، حيث تشكل العربية مانسبته بين 60-70% من لغات القوم، وحري تجميعها ثقافيا، الأكثر جدوى من تنظيم (الجامعة العربية) التي (ماجمعتنا كما يقول الفنان عزيز علي)، و مكثت عالة وصفتها بعد ثمانية عقود منظمة إسترزاق مصري، ولا جدوى من وجودها.

 

د. علي ثويني

 

 

في المثقف اليوم