آراء

كريم المظفر: أولويات روسيا المطلقة

كريم المظفراثناء البحث في دهاليز مواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث، التي نجريها يوميا، كأجراء روتيني لمن مثلي من يحاول الازدياد في المعرفة، والاطلاع على الوثائق والمعلومات التي تشبع بعض الفضول لديهم عند التفكير في الكتابة عن موضوع وتناوله من كافة جوانبه، حتى جاءت الصدفة التي قادتنا الى مقالة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، تحت عنوان "العالم في مفترق طرق ونظام العلاقات الدولية في المستقبل " والمنشورة في مجلة "روسيا في السياسة العالمية"، في العشرين من سبتمبر/أيلول عام 2019، والتي تعتبر واحدة من أهم المصادر المعرفية بالشؤون السياسية الروسية، ويكتب فيها فطاحل الدبلوماسية الروسية القدامى منهم، وكذلك الموجودون في السلك حتى اليوم، حيث نعيش وقائع ماورد فيها اليوم بالحرف الواحد، وكأن المقالة كتبت اليوم .

المقالة كتبت عشية الدورة الجديدة، الرابعة والسبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي تفتتح معها وفقا للتقاليد "الموسم السياسي" الدولي، وكذلك بدأت الدورة على خلفية مرحلة تاريخية رمزية، وهو الاحتفال بعد ذلك بيوبيلية كبيرة ومترابطة، وهي الذكرى الخامسة والسبعون للانتصار في الحرب الوطنية العظمى والحرب العالمية الثانية، وتأسيس الأمم المتحدة، ومن أجل فهم الأهمية الروحية والأخلاقية لهذه المناسبات من الضروري أن نذكر المعنى السياسي التاريخي للانتصار في أشد الحروب ضراوة في تاريخ البشرية، حيث كان لهزيمة الفاشية في عام 1945 أهمية أساسية لسير التاريخ العالمي لاحق، فقد تم خلق الظروف المواتية لتشكيل النظام العالمي بعد الحرب، الذي أصبح ميثاق الأمم المتحدة عماده الرئيس، والذي لا يزال حتى يومنا هذا المصدر الرئيسي لمعايير القانون الدولي.

ولا يزال نظام الأمم المتحدة المركزي يحتفظ باستقراره، بل ويتمتع باحتياطي كبير للمتانة. وهو بمثابة "شبكة للأمان" تضمن التطور السلمي للبشرية في ظروف تضارب المصالح، الطبيعي إلى حد كبير، والتنافس بين القوى الرئيسية. ولا تزال الحاجة قائمة للاستفادة من الخبرة المكتسبة في سنوات الحرب من التعاون الخالي من الأيديولوجية بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية المختلفة.

وللأسف الشديد فأن بعض القوى المتنفذة في الغرب تلتزم الصمت بشأن هذه الحقائق الواضحة، بل وتتجاهلها، وعلاوة على ذلك، ازداد نشاط أولئك الذين يودون "الاستئثار" بالنصر، ومحو دور الاتحاد السوفيتي في هزيمة الفاشية من الذاكرة، ونسيان مأثر التضحية المتفانية للجيش الأحمر في سبيل التحرير، وعدم تذكر الملايين العديدة من المواطنين السوفييت المسالمين الذين قضوا في سنوات الحرب، ومحو ذكر عواقب السياسة المهلكة لاسترضاء المعتدي من صفحات التاريخ، ويظهر بوضوح، من وجهة النظر هذه، جوهر مبدأ "المساواة بين الأنظمة الشمولية"، وهو ما يهدف بحسب الوزير لافروف، ليس فقط لمجرد التقليل من نصيب الاتحاد السوفيتي في النصر، بل وحرمان روسيا وبأثر رجعي من الدور الذي حدده التاريخ له كمهندس وضامن للنظام العالمي ما بعد الحرب، ثم وصمه بصفة "الدولة التحريفية" التي تهدد رفاهية ما يسمى "بالعالم الحر".

لذلك فإن مثل هذا التفسير لأحداث الماضي يعني أيضا أن بعض الشركاء يفهم أن الإنجاز الرئيسي لنظام العلاقات الدولية في فترة ما بعد الحرب يجب أن يكون تشكل الرابط العابر للأطلسي وتأبيد الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، وبطبيعة الحال ليس هذا بالسيناريو الذي استرشد به الحلفاء عند تأسيسهم لمنظمة الأمم المتحدة، و إن انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين الذي كان يفصل بين المعسكرين، وزوال المواجهة الأيديولوجية الشديدة، التي كانت تحدد معالم السياسة العالمية في جميع المجالات والمناطق تقريبا – إن هذه التغييرات الجذرية لم تؤد للأسف الى انتصار الأجندة الجامعة. ولكن بدلا من ذلك أخذت تتعالى إعلانات ظافرة عن حلول "نهاية التاريخ"، وأن مركز اتخاذ القرارات العالمية بات من الآن فصاعدا واحدا فقط.

مقالة الوزير كشفت الوضوح التام من بأن محاولات إقرار النظام أحادي القطبية قد فشلت، وارتدت عملية تغير النظام العالمي طابعا لا رجعة له، وان بعض اللاعبين الكبار الجدد الذين يملكون قاعدة اقتصادية متينة يسعون إلى زيادة التأثير على العمليات الإقليمية والعالمية وكذلك يطمحون لمشاركة أوسع في اتخاذ القرارات المحورية، وتتزايد الحاجة إلى نظام أكثر عدالة وشمولا، وترفض الأغلبية المطلقة من أطراف المجتمع الدولي الآراء الاستعمارية الجديدة المتعجرفة التي تمنح بعض الدول الحق في أملاء إرادتها على الأخرين، وهذا يثير كل ذلك إنزعاجا واضحا لدى من تعوّد على صياغة قوالب التطور العالمي وفقا لامتيازاته الاحتكارية، في حين تسعى أغلبية الدول إلى إنشاء منظومة أكثر عدالة للعلاقات الدولية وإلى تأمين احترام واقعي وغير شكلي لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ولكن تواجه هذه المساعي إلى الحفاظ على النظام الذي لا تستفيد في ظله من ثمار العولمة إلا مجموعة محدودة من الدول والشركات العابرة للقارات، ويتيح رد فعل الغرب فرصة للتعرف على منطلقاته العقائدية الحقيقية، ويشير الوزير لافروف في هذا الصدد الى إن لغة الخطاب حول موضوعات "الليبرالية" و"الديموقراطية" و"حقوق الانسان" مصحوبة بالترويج للمقاربات القائمة على عدم المساواة وغياب العدالة والأنانية والثقة بالاستثنائية الخاصة والتفرد، وتضع "اللبرالية" التي يدعي الغرب بأنه يدافع عنها... تضع الشخصية الفردية وحقوقها وحريتها في المركز، وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: كيف تتناسب مع هذا الأمر سياسة العقوبات والخنق الاقتصادي والتهديدات العسكرية السافرة إزاء عدد من الدول المستقلة مثل كوبا وفينزويلا وكوريا الشمالية وسوريا؟ إذ تُلحق هذه العقوبات ضررا مباشرا بالناس البسطاء ورفاهيتهم، فضلا عن كونها تنتهك حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية. وكيف يتفق مع حتمية حماية حقوق الانسان قصف الدول ذات السيادة والسياسة المتعمدة الرامية لتقويض أنظمتها، والذي أدى إلى قتل مئات الألوف من الناس وأنزل بالملايين من العراقيين والليبيين والسوريين آلاما لا تعد ولا تُحصى؟ لقد أدت مغامرات "الربيع العربي" إلى تدمير فسيفساء التنوع العرقي والديني الفريدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ان الغرب اليوم لا يقبل بواقع أنه بعد مئات السنوات من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية بدأ يفقد صلاحياته الأحادية في صياغة الأجندة العالمية، ومن هنا نما نهج "النظام القائم على القواعد"، فهذه "القواعد" كما يوضحها وزير الخارجية الروسي، تُوضع ويُجمع فيما بينها بانتقائية انطلاقاً من حاجات مؤلفي هذا المفهوم الذي يُدخله الغرب بإصرار في حيّز الاستخدام، فهذا النهج لا يعتبر تأمليا ويجري تنفيذه بنشاط، وهدفه هو استبدال الأدوات والآليات القانونية الدولية العامة المتفق عليها بأطر ضيقة، حيث تُستخدم الطرائق البديلة غير الموافق عليها بالإجماع لتسوية المشاكل الدولية التفافا على الأطر الشرعية متعددة الجهات، وبتعبير آخر، التعويل على اغتصاب عملية صنع القرارات في القضايا الأساسي، وإن نوايا مبادري نهج "النظام القائم على القواعد" تمس حصرا صلاحيات مجلس الأمن الدولي .

كما ان هناك حاجة لإعارة اهتمام خاص لمفهوم "مكافحة التطرف العنيف" المثير للجدل، والذي يحمّل مسؤولية نشر الإيديولوجيات المتطرفة وتوسيع قاعدة الإرهاب الاجتماعية على الأنظمة السياسية، التي يدّعي الغرب أنها غير ديمقراطية وغير ليبرالية واستبدادية، وإن تركيز هذا المفهوم على العمل المباشر مع منظمات المجتمع المدني "التفافا" على الأنظمة الشرعية لا يترك أية شكوك بشأن الهدف الحقيقي له، وهو سحب الجهود في مسار مكافحة الإرهاب من تحت "مظلة" الأمم المتحدة والحصول على آلية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول.

كما تتجلى النزعة التحريفية بشكل واضح في مجال الاستقرار الاستراتيجي، وإن نسف واشنطن بداية لمعاهدة الدفاع الصاروخي، والآن لمعاهدة التخلص من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى بتأييد بالإجماع من قبل أعضاء حلف الناتو، تشكل مخاطر تهديم بناء الاتفاقيات والمعاهدات الدولية في مجال السيطرة على الأسلحة الصاروخية النووية، أما الآن فنرى إشارات تشغل البال بخصوص الحملة الإعلامية الأمريكية الرامية إلى تمهيد التربة للتخلي النهائي عن معاهدة الحظر الشامل على الاختبارات النووية (التي لم تبرمها الولايات المتحدة) مما يبعث على الشك في مستقبل الوثيقة بالغة الأهمية بالنسبة للسلام والأمن العالميين، وقد بدأت واشطن تنفيذ خططها لنشر الأسلحة في الفضاء الكوني، رافضةً أية مقترحات للتوصل إلى اتفاق الحظر العالمي على ممارسة نشاط كهذا.

أما في المجال الاقتصادي باتت "القاعدة" هي فرض الحواجز الحمائية وسياسة العقوبات واستغلال وضع الدولار كوسيلة أساسية في المعاملات وتوفير الامتيازات التنافسية التفافاً على الأسواق وتطبيق القانون الوطني الأمريكي خارج الحدود، بما في ذلك فيما يتعلق بأقرب الحلفاء، في في نفس الوقت، "زملاؤنا" الأمريكيون بحسب تعبير الوزير لافروف يسعون كما يبدو لحشد كل ما استطاعوا من شركائهم الخارجيين من أجل ردع روسيا والصين، وهم في الوقت نفسه لا يخفون الرغبة في إيقاع الخلاف بين موسكو وبكين، وإعطاب وتقويض التحالفات متعددة الأطراف المتنامية خارج إطار السيطرة الأمريكية التجمعات الاندماجية الإقليمية في أوراسيا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي،كما يمارسون الضغوط على الأطراف التي لا تلعب وفقا "للقواعد" التي تفرضها عليها واشنطن، وتتجرأ على تبني خيار "خاطئ" لصالح التعاون مع "خصوم" امريكا.

ما تطرق اليه الوزير الروسي عام 2019 في مقالته، يعيشه العالم اليوم بأكثر حدة، وما هي أذن النتيجة؟ في السياسة، لدينا زعزعة لأركان الشرعية الدولية، وتزايد لانعدام الاستقرار والاختلال بالتوازن، وتقسيم فوضوي للفضاء العالمي، وتعميق لانعدام الثقة بين أطراف الحياة الدولية، أما من ناحية الأمن، فهناك انحسار للحدود بين الأساليب المعتمدة على القوة ونقيضتها لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وعسكرة العلاقات الدولية، وتعزيز دور السلاح النووي في الوثائق العقائدية الأمريكية، وخفض العتبة لإمكانية استخدام هذا السلاح، وظهور بؤر جديدة للنزاعات المسلحة، وتكريس التهديد الإرهابي الشامل، وعسكرة الفضاء السيبراني، أما في الاقتصاد العالمي، فهناك مستوى عال من التقلبات، وتصعيد للتنافس على الأسواق وموارد الطاقة وطرق نقلها، والحروب التجارية، وزعزعة كيان النظام التجاري متعدد الأطراف، ونضيف إلى ذلك ظهور موجات الهجرة، وتعميق التفرقة القومية والطائفية. هل هذا هو "النظام العالمي القائم على القوانين" الذي نحتاجه؟

والسؤال هو ما الذي تعرضه روسيا؟ قبل كل شيء، يجب مواكبة الزمن، والاعتراف بأمر بديهي، ألا وهو حتمية عملية تشكيل هيكلية عالمية متعددة الأقطاب، وذلك مهما حاولوا كبح هذه العملية بشكل مصطنع (والأكثر من ذلك عكس سيرها)، فان غالبية الدول ترفض أن تكون رهينة لحسابات جيوسياسية أجنبية، بل تحرص على ممارسة السياسة الداخلية والخارجية السيادية، وهذا يصب في المصالح المشتركة في عدم جعل تعدد الأقطاب يتمركز على مجرد توازن للقوى، كما كان الأمر في الحقب التاريخية المنصرمة (مثلا، في القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20)، بل يجب أن تتسم التعددية القطبية بطابع عادل ديمقراطي موحد، وتأخذ بعين الاعتبار نهج ومخاوف جميع أطراف المجتمع الدولي من دون استثناء، وتسهم في تأمين مستقبل مستقر وآمن.

الوزير الروسي يرى على خلفية ذلك، بإن محاولات الآيديولوجيين الليبراليين الغربيين في إظهار روسيا "كقوة تحريفية" هي ببساطة محاولات سخيفة، حيث كانت روسيا من بين الأوائل الذين لفتوا الانتباه إلى تحولات الأنظمة السياسية والاقتصادية العالمية، والتي لا تستطيع بأي حال أن تبقى ثابتة في إطار المسار الموضوعي للتاريخ، وليس عبثا التذكير بأن مبدأ تعددية الأقطاب في العلاقات الدولية الذي يعكس بشكل مناسب الواقع الاقتصادي و الجيوسياسي قد صاغه منذ عقدين من الزمن رجل الدولة البارز، الروسي يفغيني بريماكوف، والذي يحتفظ ميراثه الفكري بواقعيته إلى يومنا هذا.

كما تظهر تجربة الأعوام الأخيرة أن استخدام الأساليب أحادية الجانب لحل المشكلات الشاملة مآلها الفشل، و"النظام" الذي يروج له الغرب لا يستجيب لمتطلبات التنمية الإنسانية المتجانسة، فهذا "النظام" ليس شاملا، ويهدف لإعادة صياغة الآليات الدولية القانونية الأساسية، ويستبعد انطلاق التعاون الجماعي بين الدول، وغير قادر من حيث المبدأ على الخروج بحلول مطلوبة ثابتة وقابلة للحياة للمسائل الشاملة على المدى البعيد، لا تعتمد على المفعول الدعائي في إطار دورة انتخابية في هذا البلد أو ذاك.

لا تزال المقترحات الروسية الخاصة بالبدء في الحوار الجدي حول جميع مقومات الاستقرار الاستراتيجي في العصر الحديث قائمة، ولكن تسمع في الآونة الأخيرة أصواتا داعية الى ضرورة تغيير جدول الأعمال وتجديد المصطلحات، إذ يقترحون الحديث عن "المنافسة الاستراتيجية" تارة و"الردع متعدد الأطراف" تارة أخرى، موسكو ترضى بإمكانية مناقشة المصطلحات، ولكن جوهر الأمور أهم من المصطلحات، واليوم تزداد أهمية إطلاق الحوار الاستراتيجي لمناقشة التهديدات والمخاطر الراهنة والبحث عن التوافق حول صياغة أجندة ترضي الجميع. هذا وجاء في المقولة الحكيمة لوزير خارجية الاتحاد السوفيتي أندريه غروميكو، رجل الدولة البارز "10 سنوات من المفاوضات أفضل من يوم واحد من الحرب".

إن تحقيق النجاح في عملية تشكيل العالم المتعدد الأقطاب من وجهة نظر وزير الخارجية الروسي، يكون عبر التعاون والتوافق بين المصالح بعيدا عن المواجهة والنزاعات ويتوقف على الجهود المشتركة، أما روسيا فسوف تستمر في ترويج الأجندة الإيجابية التوحيدية التي ترمي الى إزالة خطوط الفصل القديمة والحيلولة دون ظهور خطوط الفصل الجديدة، وقد تقدمت موسكو بمبادرات في مجالات عدة بما فيها منع سباق التسلح في الفضاء الكوني وإنشاء أدوات فعالة لمكافحة الإرهاب، لا سيما الإرهاب الكيميائي والجرثومي، إضافة الى تنسيق التدابير العملية الخاصة بالحيلولة دون استخدام الفضاء السيبراني لتقويض أمن أي دولة ناهيك عن تطبيق مخططات إجرامية أخرى.

 

بقلم الدكتور كريم المظفر

 

في المثقف اليوم