آراء

محمود محمد علي: الصراع الجيوسياسي بين الأوراسية والأطلسية

محمود محمد عليالأوراسية والأطلسية، مصطلحان يوجدان في العلوم السياسية والاستراتيجية، فمصطلح الأوراسية تشير إلى أوربا وآسيا، وأما مصطلح الأطلسية ويقصد بها أوربا الغربية بالأساس والولايات المتحدة الأمريكية .. والصراع بين الأوراسية والأطلسية يتجسد في  الصراع على أوربا، فلو آسيا نجحت وفي قلبها روسيا في أن تستطيع أن تستحوذ على أوربا  نجحت الأوراسية ومن ثم تحكم العالم، ولو حدث العكس نجحت  الأطلسية ومن ثم تحكم العالم وهذا هو جوهر الصراع بينهما!

والسؤال: هل يمكن أن يؤسس لتقارب أعمق بين روسيا من جانب وتركيا وإيران وبلدان آسيا الوسطى من جانب آخر؟ وهل لفكرة قيام اتحاد أخوي يجمع السولاف والتُرْك والفُرْس أن تجتذب المنطقة السوفيتية السابقة؟

وفي الإجابة عن هذه التساؤلات يمكن القول بأن المشروع الأوراسي يمثل أحد اتجاهات الفكر الاجتماعي والسياسي في روسيا. وقد ظهرت الفكرة الأوراسية Eurasia في مطلع القرن العشرين، صنعت المدرسة الجيوبوليتيكية، منطق الدولة الروسية، وألكسندر دوغين هو أبرز أقطابها؛ فهو العقل الجيوبوليتيكي الأكبر الذي حدد مسارات الإستراتيجية الكبرى لروسيا المعاصرة في العالم حتى اليوم. قول واحد "الجغرافيا" كلمة السر الدائمة في الاستراتيجيات الروسية؛ فلا يستطيع أي حاكم التغاضي عن ضرورات تأمين أراضيها الشاسعة؛ لهذا آمن "القياصرة" في كل العهود بالتفكير الإمبريالي؛ لتحييد التهديدات عن الحدود أو القضاء عليها، ونظروا إلى الديموقراطية والليبرالية والاقتصاد المفتوح بوصفها خطراً؛ وذلك انبثاقاً من دافعين أساسيين: الحمائية والاستثنائية: تأسيس نظام اجتماعي وسياسي داخلي تكون فيه روسيا علمانية قوية، يمنح الدولة قدرة الدفاع عن مصالحها وكبح العدائيات خارجياً؛ هكذا ظل "الجيوبوليتيك الدفاعي" استراتيجية مؤطّرة لموقع روسيا في النظام الدولي (1).

وجوهر الجيوبوليتيكا هو تحليل العلاقات السياسية الدولية في ضوء التركيب الجغرافي؛ لذا تختلف الآراء الجيوبوليتيكية باختلاف أوضاع الجغرافيا التي تتغير بتغير تكنولوجيا الإنسان. يقول الجغرافي البريطاني الأشهر هالفورد ماكيندر: "لكل قرن جيوبوليتيكيته". تحت حكم فلاديمير بوتين ينصب اهتمام الدب الروسي على "أوراسيا" التي وصفها ماكيندر بأنها "قلب العالم"، وهي المنطقة الممتدة من أوروبا وآسيا وحافتها الأفريقية، بما يشمل الشرق الأوسط،  56 % من مساحة اليابسة، و 85  % من سكان العالم، وتحيط بها مسطحات مائية، تتجاوز ثلاثة أضعاف اليابسة، قدرات زراعية وصناعية هائلة وممرات اتصال وتجارة برية وبحرية وجوية، فالقوة التي تتموضع في مفاصل "أوراسيا" براً وبحراً وجواً، تضمن الهيمنة عالمياً، ومن ثم يمكن فهم الصراع الرهيب بين مشاريع الهيمنة في العصر الحديث، من "مشروع مارشال" وحلف "الناتو" الأميركي - الغربي، إلى مشروع "الطريق والحزام" الصيني، إلى "الأوراسية الجديدة" المشروع الروسي الذي يربط موسكو عبر دوائر متداخلة بالدول الآسيوية والأوروبية والشرق الأوسطية والأفريقية، أولى حلقاتها دول الاتحاد السوفياتي السابق؛ بوصفها منطقة نفوذ خالصة لروسيا، أمام التمدد الغربي، من خلال عقد شراكات وتقارب اقتصادي وسياسي مع الدول التي تشاركها الحدود، أو التدخل عسكرياً عند اللزوم، كما حدث في القرم وأوكرانيا وجورجيا، أو أبعد في سوريا وليبيا وأفريقيا الوسطى...إلخ (2).

ومن هنا أضحت الأوراسيا كناية عن المنطقة الجغرافية التي تجمع جزءً من آسيا وجزء من أوروبا دون أن تكون آسيوية أو أوربية، وهذا هو حال روسيا، وإحياء هذا المفهوم الرائج في أدبيات الجغراسياسيين، من خلال الأعمال الفكرية الرائدة، ملأ بعض الفراغ الهائل الذي خلفه الاتحاد السوفيتي وراءه ؛ فالروس الذين عاشوا في إمبراطورية شاسعة قرابة سبعين عام، باسم العقيدة الشيوعية، وسيطروا فيها على مصائر شعوب وأمم طيلة الحرب الباردة، ووقفوا فيها موقف الخصم الموازي أمام القطب الآخر، وهو الولايات المتحدة، أصيبوا بالإحباط الشديد لدي أفول كل شئ فجأة، بل شعروا بتهديد الهوية الذاتية حين تقلصت الحدود وتداخل السكان، فأصبحوا غرباء غير مرغوب فيهم في أصقاع كثيرة من هذا المدي الأوراسي الواسع الذي هيمن عليه الاتحاد السوفيتي، وفي محاولة استكشاف أسباب هزيمة الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة، يعتبر دوغين في البداية أن المواجهة ما بين المعسكر السوفيتي وحلف الأطلسي كانت الصيغة الصافية من صيغ المواجهة بين قوي الأرض والبحر في التاريخ (3).

ولهذا يؤكد انصار الفكر الأوراسي أن الحضارة الغربية راكدة متعثرة ولا تمثل الحضارة البشرية المشتركة، بل هي تقود البشرية إلى طريق مسدود. ومن وجهة نظرهم كل محاولات التجديد والتحديث وفق السيناريوهات الأوروبية الغربية كانت وستبقى مدمرة فتاكة بالنسبة للشعوب الأوروبية الآسيوية، كما يعارض الأوراسيون النظريات الغربية اللبرالية التي تعتبر روسيا جزءاً من اوروبا ملزما بالتوجه نحو الغرب، مشددين على ان رسالة روسيا كنواة ومركز للعالم الأوراسي تتلخص أيضا في التصدي لتوسع الحضارة الغربية عالميا، وفي مواجهة هذا التوسع يطرحون مشروع إئتلاف للشعوب الأوراسية بوصفه ضمانة للأمن الجماعي لروسيا وباقي دول أوراسيا.

ومن ثم يمثل المشروع الأوراسي اليوم ايديولوجية للتكامل الجديد في المجال ما بعد السوفيتي، وخصوصا في آسيا الوسطى والمركزية، ولتطوير علاقات روسيا مع إيران وتركيا،  والاتحاد الجمركي بين روسيا وبيلاروس وكازاخستان، وكذلك أنشطة هيئات دولية مثل منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومنظمة شنغهاي للتعاون يعتبرها الأوراسيون خطوات واقعية على طريق التكامل. واللافت أن أفكار المشروع الأوراسي تلقى اليوم انتشارا بهذا القدر أو ذاك لدى الأوساط السياسية في روسيا، وكذلك في عدد من دول المجال ما بعد السوفيتي، إلا أن الأوراسيين يتعرضون في الوقت ذاته إلى انتقادات ليست قليلة.  فالمتشككون، ورغم اعترافهم ببعض مسلمات وأطروحات الأوراسيين، إنما يعتبرون فكرة تأسيس ائتلاف  أخوي من الصقالبة والترك والفرس على أراضي ما يسمى أوراسيا انما هي مجرد فكرة جميلة  غير قابلة للتنفيذ.

وهناك عقيدة راسخة لدى الغرب بأن روسيا لا يمكن أن تتخلى عن طموحاتها الإمبراطورية، وأن هذه الطموحات راسخة في وجدان الشخصية الروسية، وهناك دفاع مستمر من جانب روسيا لنفي هذه الفكرة ومحوها من عقلية الآخرين، واعتبارها أحد أساليب الدعاية المضادة لروسيا بهدف تخويف الآخرين منها وإبعادهم عنها (4).

ولكن الحقيقة أن فكرة الإمبراطورية ليست بعيدة كل البعد عن العقلية الروسية، بل إنها موجودة في الكثير من الدراسات الثقافية والاجتماعية في المجتمع الروسي على مر العصور، ولا يمكن أن ندعي أنها ليس لها وجود الآن، ولكنها بالقطع ليست بالصورة العدوانية التي يصورها البعض، بل إن هذه الفكرة يفرضها الواقع والتاريخ والجغرافيا، حيث تتمتع روسيا بموقع جغرافي غير عادي، يربط بين أكبر وأهم قارتين في العالم؛ أوروبا وآسيا، وتمتد حدودها وأراضيها الشاسعة من قلب أوروبا إلى أقصى نقطة في شرق آسيا،    وهذا الموقع ارتبط في التاريخ بعوامل مد وجذب مع القارتين بمختلف شعوبهما، فخرجت الثقافة والشخصية الروسية مزيجا من الثقافات المنتشرة في القارتين، ولهذا فإنه يمكن القول إن روسيا بحجمها الجغرافي والتاريخي والثقافي، تشكل في حد ذاتها إمبراطورية أورو ـ آسيوية، بعيدا عن مفاهيم الطموحات التوسعية والاستعمارية وتوجهات النفوذ والهيمنة التي يصورها الغرب عن روسيا (5).

إذن، يمكن القول إن روسيا تأخذ شكل إمبراطورية قارية غير معلنة، وهذا الأمر ليس بالضرورة أن يولد طموحات التوسع والامتداد إلى أراضي الغير، بل على العكس، من المفترض أن يؤسس لتقارب أعمق بين روسيا من جانب، والدول الكبيرة والصغيرة المحيطة بها والقريبة منها، هذا التقارب يحتاج إلى وجود عوامل هامة، منها وجود روابط ومصالح مشتركة بين روسيا وهذه الدول، ولو نظرنا إلى المحيط الإقليمي الروسي، سنجد أن أقرب هذه الدول التي توجد بينها وبين روسيا روابط ومصالح مشتركة، هي تركيا وإيران وبلدان آسيا الوسطى (6).

ولا شك في أن ثمة تحولات كثيرة حدثت ﻓﻲ الفترة الأخيرة في المشهد السياسي والدولي، كما أن ثمة تشكيلاً جديداً في نظام العلاقات الدولية تمثل في الانتقال من الثنائية القطبية إلى القطب الواحد، وما من شك في أن روسيا في عهد الرئيس "بوتين" كانت اللاعب الأهم في السياسة الدولية هذه، لاسيما أنها وريثة الاتحاد السوفييتي، وقد شهدت الكثير من الأزمات الكبيرة سواء الاقتصادية أم العسكرية أم السياسية في عهد الرئيس السابق يلتسين (7).

وقد استطاع الرئيس فلاديمير بوتن إعادة روسيا من جديد وبقوة إلي الساحة الدولية، من خلال إعادة بناء النظام السياسي الداخلي، وكذلك إعادة بناء سياساتها الخارجية، كما تمكن من إعادتها – وبحضور فاعل وقوي – إلى الشرق الأوسط، وإقامة العلاقات الجديدة بين دول المنطقة، وخاصة مع إيران، وسوريا، ومصر، الأمر الذي جعل لروسيا حضورا مهما في الساحة الدولية، فضلا عن جعلها دولة منافسة للولايات المتحدة الأمريكية التي أرادت التفرد بالسيطرة على العالم وفرض سياساتها عليه (8).

وفي العام 2010، اعتبر "بوتن" أنّ "العدو الأول الخارجي لروسيا هو توسّع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً، باتجاه حدودها"، ورأت في الخطة الأميركية لنشر الدرع الصاروخية في أوروبا، مصدر قلق لأمنها، بالإضافة إلى الأخطار الداخلية، كمحاولات تغيير النظام الدستوري، وتطاول الحركات الانفصالية المدعومة غربياً على وحدة البلاد والإرهاب، مثلما حدث في الشيشان. وفي العام 2015، صادق بوتين على تحديث "العقيدة الروسية" التي تقرّ بوجود عسكري بحري روسي دائم في المحيطات: الأطلسي والهادي والهندي، كذلك في القطبين الشمالي والجنوبي، والبحار: قزوين والأسود والمتوسط والأحمر واليابان.

وهنا رأينا أن بوتن يشدد على أن روسيا مضطرّة لاتخاذ خطوات مناسبة؛ من أجل موازنة القوى الاستراتيجية". توازن القوى، في رأي القيصر، ضمانة لأمن بلاده بل لأمن سائر الأمم؛ صمّام أمان يحول دون وقوع نزاعات مسلحة كبيرة في أوروبا والعالم، وبحثاً عن التوازن، رفع بوتين النفقات العسكرية إلى 21 % من الميزانية الروسية، في 2018، أي ضعف ما كانت عليه في 2010، وعزز الردع النووي بنشر40 صاروخاً جديداً عابراً للقارات، وفي 2018، فاجأ القيصر العالم بكشفه عن صواريخ بعيدة المدى يصعب إسقاطها، في ترسانة بلاده، تكسر التوازن الاستراتيجي التقليدي وغير التقليدي مع الولايات المتحدة، وتهدد بتحويل سفنها المسيطرة على محيطات العالم إلى خردة عائمة، في محاولة لموازنة التفوق الجوي الأمريكي (9).

صحيح أن طموح الرئيس فلاديمير بوتين أكبر من إمكانات روسيا الاقتصادية. لكنه كلاعب "تايكواندو" يستغل نقاط ضعف الغرب، لا سيما أيام الرئيس دونالد ترمب الذي كان طموحه أصغر من إمكانات أميركا الاقتصادية وقدرتها العسكرية. وهو يتصور، كما قال للسفير الأميركي وليم بيرنز، أن "اللعب بيديه الضعيفتين بشكل قوي يتقدم على لعب الذين أيديهم قوية بشكل ضعيف". لعب عسكرياً في جورجيا وأوكرانيا فاستعاد لروسيا موقع القوة الأوروبية، ولعب عسكرياً في سوريا فاستعاد موقع القوة العالمية، ولعب بذكاء سياسي في حرب قره باغ، فترك أميركا وفرنسا خارج مجموعة "مينسك" ونجح في دور القائد الأوراسي. فما يعتقده هو أن "نهاية الحرب الباردة أنهت النقاش الأيديولوجي، لا الجدل الجيوسياسي". وما يؤمن به ويعمل له بإلهام من المفكر ألكسندر دوغين هو: "نحن ضد الحلم الأوروبي لمصلحة الحلم الأوراسي". وما "خدم برنامجنا" وقوّى "الاتجاهات الراديكالية" في روسيا والصين هي سياسة ترمب، كما قال دوغين. أيّ سياسة؟ التشجيع على الخروج من الاتحاد الأوروبي والعملة الموحدة وإهانة حلفاء أميركا الأوروبيين في "الناتو" قبل أن يتراجع عن القول إن الحلف "تقادم في الزمن". (10).

بيد أن لكن الأوراسية لا تزال من دون هيكل كامل، في حين أن الأطلسية مبنية على تحالف متين وثابت. واللعبة بينهما ليست معادلة صفرية لا بالنسبة إلى بوتين وشي ولا بالنسبة إلى بايدن. والبقية كومبارس.

 

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .

.....................

الهوامش

1-محمد حسين أبو الحسن: بوتين و"ظل الامبراطورية"... الأوراسية الجديدة وعسكرة السياسة الخارجية.. النهار .. 01-12-2020 | 17:53

2- نفس المرجع.

3- بلهول نسيم:  فراءة في الانبعاث الجديد قراءة في العقيدة الجغراسياسية الجديدة، 74.

4-  د. إينا ميخائيلوفنا: روسيا ومشروع الإمبراطورية الأوراسية.. البيان.. 05 أغسطس 2010.

5- نفس المرجع.

6- نفس المرجع.

7- محمد  الحوراني: روسيا الأوراسية..زمن الرئيس فلاديمير بوتين، مجلة الفكر السياسي، اتحاد الكتاب العرب، س 17، ع 59، 2016، ص 11.

8- نفس المرجع، والصفحة نفسها.

9-. محمد حسين أبو الحسن: نفس المرجع.

10- رفيق خوري: مواجهة وحدود متداخلة بين الأوراسية والأطلسية.. الاندبندنت عربية.. الأربعاء 24 فبراير 2021 1:00

 

في المثقف اليوم