آراء

محمود محمد علي: لماذا يهدد بوتين باجتياح أوكرانيا؟ (1)

محمود محمد عليعلي مدى العقود الماضية ظل حلف شمال الأطلسي هاجسا أمنيا لروسيا خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وحل حلف وارسوا عام 1991، ومنذ ذلك الحين تعززت قوة الحلف بانضمام 14 دولة جديدة بجانب دول البلقان والبلطيق وشرق أوربا، ولا يزال الناتو يسعي لضم دول جديدة بينها دولتان كانتا جزءً من الاتحاد السوفيتي السابق وهما أوكرانيا وجورجيا، علاوة على التحركات الغربية في الإقليم؛ حيث رأت روسيا أن التدريبات الأمريكية بالقاذفات الاستراتيجية القادرة على حمل قنابل نووية والتي حلّقت فوق البحر الأسود بمثابة تهديد لها، إلى جانب أنظمة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا ورومانيا، كما برزت تهديدات باحتمال نشر الناتو صواريخ على الأراضي الأوكرانية.

والجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية قد باعت بالفعل أسلحة، مثل صواريخ جافلين المضادة للدبابات إلى أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، قدمت تركيا إلى أوكرانيا طائرات جوية قتالية بدون طيار مثل  Bayraktar TB2، والتي يتم استخدامها ضد المتمردين المدعومين من روسيا. كما عزز الناتو وجوده وأجرى تدريبات بحرية في البحر الأسود مع الجيش الأوكراني، وهو ما أثار حفيظة روسيا، حيث رأت روسيا أن خطرا مباشرا على أمنها القومي، وتهديدا صريحا لنفوذها.

والسؤال الآن: لماذا يصر الحلف على التوسع شرقا والاقتراب أكثر من تخوم روسيا ؟.. وما هي خيارات موسكو لوقف تمدده نحو مناطق تعتبرها ضمن مجال نفوذها التقليدي والتاريخي؟.. باختصار ما هي أزمة أوكرانيا؟.

والإجابة علي ذلك نقول مع الأستاذ سيد جبيل بأنه إذا كنت قد سمعت أو قرأت فقط عن الحرب الباردة، فقد آن لك أن تشاهدها حية على الهواء، ومباشرة من أوربا الشرقية، وتحديدا من الساحة الأوكرانية، وأزمة أوكرانيا تأخذنا إلى ألة الزمن وبالذات خلال حقبة الخمسينات والستينات حين كانت الحرب الباردة على أشدها بين الاتحاد السوفيتي من جانب والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من جانب آخر، وقد شهدت هذه السنوات أزمات متتالية كاد أن تأخذه إلى حرب عالمية ثالثة، وهي أزمات مثل أزمة برلين من 1958 إلى 1961، وأزمة صواريخ كوبا في أكتوبر عام 1962، وغيرهما.

الأزمة باختصار تتجسد من خلال التوتر الذي قد يؤدي إلى غزو روسي لأوكرانيا، ومن ثم تكون هناك مواجهة بين روسيا من ناحية، وبين الغرب من ناحية أخرى، وفي القلب من هذه الأزمة رغبة الحكومة الأوكرانية في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وهذا الخلف هو حلف عسكري قد تأسس عام 1949 بهدف مجابهة الاتحاد السوفيتي واحتوائه، ويضم 30 عضوا منهم 29 دولة أوربية، بالإضافة إلى دولتين هما أمريكا وكندا، وتنص مادته الخامسة على أن الاعتداء على أي دولة عضو في الحلف، هو اعتداء على كامل الحلف، ويجب التصدي له.. وهنا اتجه حلف الناتو إلى استقطاب دول الإقليم الآسيوي إليه لإعادة فرض القوة لصالحه في الإقليم، كما شملت المحاولات توسيع النطاق الجغرافى للحلف ليضم رومانيا وبلغاريا، الأمر الذى أدى إلى وجود ثلاث دول من المطلة على البحر الأسود داخل الحلف، كما تشارك أوكرانيا وجورجيا في برنامج الناتو للشراكة من أجل السلام، في حين باتت جورجيا مرشحة رسمياً للانضمام للحلف.

والسؤال : ما المشكلة في أن تنضم أوكرانيا إلى حلف الأطلسي كما انضمت دول أوربية أخرى؟.. والإجابة تتجسد في أن أوكرانيا تمثل خطاً احمر بالنسبة لموسكو، حيث إن بينهما حدودا مشتركة، تتجاوز 2000 كم وانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي، يعني أن صواريخ وجنود الحلف يمكن أن تكون على الحدود الروسية وتهددها، واقتراب الحلف الأطلسي من الحدود الروسية من خلال أي دولة مسألة تثير قلق الروس، لكن أوكرانيا على وجه التحديد تمثل كما قلنا خطا أحمر لا يجب الاقتراب منه، لأن أوكرانيا بلد بالغ الأهمية تاريخيا واستراتيجيا واقتصاديا للروس، وهذا أمرا محير، في ظل أزمة دولية خطيرة تتشكل في شرق أوربا وتحديدا على الأراضي الأوكرانية.

علاوة علي أهمية البحر الأسود لدى روسيا، حيث تمثل منطقة البحر الأسود "رئة" مهمة لروسيا تحقق بها العديد من المصالح الاقتصادية في مجالات الطاقة والتجارة والاقتصاد، ويعد البحر الأسود المياه الوحيدة الدافئة التي تستطيع السفن العبور منها شتاءاً، كما تستخدم روسيا أيضاً قواعدها في البحر الأسود، التي يقع كثير منها في شبه جزيرة القرم، لشن عمليات عسكرية في سوريا، ولا ننسي كيف دفعت السياسات الروسية حلف الناتو إلى تبنى خطوات للتدخل في الإقليم، فقد استخدمت روسيا سلاح الطاقة كورقة ضغط على أوكرانيا عام 2006 ومرة أخرى عام 2009 حين أوقفت روسيا إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا من خلال أوكرانيا، وزادت من سعر الغاز الأوروبي، وقامت بتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط وتعاونت مع دول من إقليم البحر المتوسط التي ترى دول الاتحاد الأوروبي أنها منطقة نفوذ لها، وقامت بغزو جورجيا، كما قامت بغزو القرم عام 2014.

علي أية حال فإنه مع تزايد الحشود العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا، فهناك ثلاثة أسئلة تطرح نفسها : السؤال الأول : هل يمكن للروس فعلا أن يغزو أوكرانيا ولماذا؟.. السؤال الثاني : ماذا يمكن أن  يفعل حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة إن فعلت روسيا ذلك؟.. السؤال الثالث: ما أهمية أوكرانيا التي تجعلها محل نزاع وصراع بالنسبة لروسيا والغرب بشكل ينذر بصراع ومواجهة عسكرية بين الطرفين، أي بحرب عالمية ثالثة؟

قبل محاولة الإجابة على تلك الأسئلة الثلاث نود الإشارة بأن الروس ينظرون إلى أوكرانيا على أنها جزء من روسيا، وبوتن والمسؤولين الروس أكدوا مرارا وتكرارا عن أهمية أوكرانيا بالنسبة لهم، فمثلا بوتن كتب مقالا مطولا في يوليو 2021 تحدث فيه أن قيام حكومة معادية لموسكو على أراضي أوكرانيا يعد بمثابة استخدام سلاح دمار شامل ضد الروس، وذكر بوتن أن روسيا وأوكرانيا كانتا بلد واحد وشعب واحد في إشارة إلى دولة كييف – روس التي قامت في القرن التاسع الميلادي واستمرت مئات السنوات، ومنا انبثق أو تطور تاريخيا دولة روسيا الحالية، و أوكرانيا، وبيلا روسيا، وبالتالي ركز بوتن في هذا المثال على أن الروس والأوكرانيين إخوة ولا يجب أبدا أن يكونا بينهما عداء، وهو المقال الذي سخر منه الرئيس الأوكراني الحالي زيلنسكي وقال نعم نحن إخوة ولكننا إخوة مثل قابيل الذي قتل هابيل، في إشارة إلى أن الروس، هو قابيل الذي قتل هابيل وهو أوكرانيا.

على العموم هل هذا الصراع أو هذا التوتر جديد؟.. على الإطلاق لا رغبة أوكرانيا إلى الانضمام إلى حلف الناتو جديدة، ولا معارضة الروس لذلك جديدة، فهذه أزمة عمرها على الأقل 14 سنة.. إذن.. ما الجديد؟.. الجديد فقط أن الروس أصبحوا الآن في وضع أقوي من السنوات الماضية، وأصبحوا أكثر قدرة على رفض المخططات الغربية لمحاصرتهم من كل جانب على الأقل من وجهة نظر الروس، وللتذكرة فإن هذه الأزمة لها تاريخ طويل ؛ حيث يخبرنا هذا التاريخ بأنه في عام 1989 سقط حائط برلين الذي كان يفصل ألمانيا الشرقية عن ألمانيا الغربية، وهو الحائط الذي بني عام 1961، وكان انهيار هذا الحائط بمثابة ارهاصات انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي.

وبعد سقوط حائط برلين بدأت المفاوضات بين الاتحاد السوفيتي بقيادة " جورباتشوف"، والغرب بقيادة " جورج بوش " ووزير خارجيته " جيمس بيكر" آنذاك عام 1990، وهذه المفاوضات كانت على إعادة توحيد ألمانيا (الشرقية والعربية معا)، وفي هذه المحادثات كان الروس يؤكدون تكرارا ومرارا أنهم خُدعوا !!.. وذلك لأن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها قد وعدوا الروس أو السوفييت أنهم إذا وافقوا على توحيد ألمانيا الشرقية والغربية معا تحت مظلة حلف شمال الأطلسي، فعلي حلف شمال الأطلسي أن يعد السوفييت أنه لن يتقد شبرا واحدا إلى الشرق، أي أن حلف شمال الأطلسي لن يضم أي دول باتجاه الشرق، باختصار لن يضم أي دول الواقعة ما بين روسيا وألمانيا.. وقد صدق قادة السوفييت الوعود الغربية، لكن الغرب سرعان ما حنث بوعوده، وبدأ يتمدد ليس شبرا واحدا، ولكنه تمدد على كامل المسافة ما بين ألمانيا والحدود الروسية، وضم الكثير من الدول التي كانت واقعة.. إما تحت منطقته أو نفوذه، والآن مع توسع حلف الأطلسي شرقا أصبحت الصواريخ والأسلحة الغربية الموجودة في إستونيا (مثلا) على بعد 90 ميلا من روسيا.

والآن كل هذا لا يكف للغرب فقرر أن يعيد طرح انضمام أوكرانيا  وهنا رفضت روسيا  بشراسة واعتبرت أن اقتراب حلف الأطلسي من أوكرانيا يعد خط أحمر.. لماذا ؟ والإجابة أن أوكرانيا ببساطة كانت احدي الجمهوريات التي كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي السابق منذ عام 1921 وحتى انهيار الاتحاد السوفيتي، وبالتالي استقلالها مع جمهوريات أخرى سنة 1991، وقبل أن تكون أوكرانيا جزء من الاتحاد السوفيتي، فقد كانت أوكرانيا جزءا من الإمبراطورية الروسية القيصرية.

فبعد استقلال أوكرانيا سنة 1991 كان هناك تيارين أساسيين داخل أوكرانيا : تيار يري أن المستقبل سوف يكون أفضل في حالة الإبقاء عل علاقات قوية مع روسيا، وتيار آخر عكس ذلك يري أن المستقبل سوف يكون إن تم القيام بعلاقات متميزة مع الغرب، ومن ثم الانضمام إلى الاتحاد الأوربي  وربما حلف شمال الأطلسي. وخلال عام 2014 حدثت حرب أهلية بين التيارين، وقد أسفرت هذه الحرب عن ظهور جماعات انفصالية تتبع الروس في شرق أوكرانيا، جماعات انفصالية تتبع الغرب في غرب أوكرانيا.

وهذا الصراع بين التيارين قد وصل ذروته في آواخر 2013 وذلك حين كانت أوكرانيا تعاني من أزمة اقتصادية، وهناك فريق يري أن حل هذه الأزمة بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وفريق آخر يري أن حل هذه الأزمة يكون من خلال الحصول على حزمة مساعدات من روسيا، وقد كان الرئيس الروماني آنذاك وهو  فيكتور ينكوفيتش كان من أنصار الفريق الذي يري أن المستقبل مع روسيا، وبالتالي رفض التوقيع على اتفاقية شراكة تمهد الانضمام أوكرانيا في المستقبل للاتحاد الأوربي وفضل الحصول على حزمة مساعدات روسية.

وهذه الخطوة وجدت احتجاجات واسعة من الفريق المؤيد للتقارب بين أوكرانيا والغرب، وهذه الاحتجاجات اندلعت بداية من 21  نوفمبر في 2013 واستمرت حتي العام التالي 2014، والتي قد انتهت بالإطاحة بفيكتور ينكوفيتش وقتها وفراره إلى موسكو.

وهنا اعتبرت موسكو أن هذه المظاهرات ليست إلا انقلابا دبره ودعمه الغرب، وذلك ليس بهدف الاستحواذ والاستيلاء فقط ولكن تهديد أمنها بشكل مباشر، لأن هدف الغرب من وجهة نظر روسيا هو أنه يريد استقطاب أوكرانيا كي يضمها للاتحاد الأوربي ومن ثم يضمها بعد ذلك إلى حلف شمال الأطلسي، وبالتالي يجد الروسي حلف شمال الأطلسي في مواجهتهم مباشرة على أراضيهم.

وهنا رد الروس بشكل سريع جدا على التغيرات التي حدثت في أوكرانيا بخطوتين صدمت الغرب : الخطوة الأولي وهو غزوهم لشبه جزيرة القرم خلال أيام معدودات قبل نهاية فبراير من عام 2014، وخلال أيام من الشهر التالي أعلنوا ضم شبه جزيرة القرم رسميا وإلى الأبد إلى روسيا الاتحادية ومن ثم اقتطاعها نهائيا من أوكرانيا، وقد تم ذلك من خلال استفتاء على الانضمام إلى روسيا، وهذا الاستفتاء لم تعترف به حكومة أوكرانيا المولية للغرب، ولم تعترف به الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، ولكن هذا الأمر لم يغير من الوضع شئ، وحتى هذه اللحظة أضحت شبه جزيرة القرم جزء من روسيا الاتحادية. والأمر الثاني وهو أن الروس دعموا جماعات انفصالية موالية لروسيا داخل أوكرانيا في كل من Donetsk، وأيضا Luhansk.

وهذا الأمر نتج عنه صراع كبير بين الجيش الأوكراني والانفصاليون المدعومون من روسيا، وقد أسفر هذا الصراع اندلاع مظاهرات واحتجاجات واسعة بين القوات الانفصالية المدعومة من روسيا في دونيتسك ولوجانسك الشعبية والجيش الأوكراني، وظهرت الكثير من المعلومات التي تشير إلى أن القادة الرئيسيين لحركة التمرد خلال بداية النزاع، بمن فيهم إيغور ستريلكوف وإيغور بيزلر، كانوا عملاء روسيين، بالإضافة إلى ذلك كان رئيس وزراء جمهورية دونيتسك الشعبية ألكسندر بوروداي يحمل الجنسية الروسية، وأصبح المتطوعون الروس يشكلون الجزء الكبير من المقاتلين. وعلى الجانب الآخر، استخدم الجيش الأوكراني طائرات تركية من دون طيار ضد القوات المدعومة من روسيا في شرقي أوكرانيا، كما حلقت قاذفتان أمريكيتان قادرتان على حمل قنابل نووية قرب شبه جزيرة القرم.. وللحديث بقية.

 

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

......................

المراجع

1- مروة أحمد سالم: أوكرانيا: أزمة متجددة بين روسيا والغرب، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

2- أليونا غيتمانشوك: الأكرانيون أولى بتقرير مصيرهم.. الخميس - 17 جمادى الآخرة 1443 هـ - 20 يناير 2022 مـ رقم العدد [15759]

3- هال براندز: عقيدة بوتين» في أوكرانيا وكازاخستان واضحة.. الأحد - 20 جمادى الآخرة 1443 هـ - 23 يناير 2022 مـ رقم العدد [15762]

4- د. حسن أبو طالب: الناتو» بين توريط روسيا والتضحية بأوكرانيا.. الثلاثاء - 22 جمادى الآخرة 1443 هـ - 25 يناير 2022 مـ رقم العدد [15764].

5- روس دوثات: كيفية الانسحاب من أوكرانيا.. الاثنين - 21 جمادى الآخرة 1443 هـ - 24 يناير 2022 مـ رقم العدد [15763.

 

في المثقف اليوم