آراء

ثامر عباس: صلاحية الديموقراطية في المجتمعات المتشظية !!

لطالما بحّت أصواتنا وجفّت أفواهنا ونحن – أجيال الإيديولوجيات اليسارية – نلهج ب(تميمة) الديمقراطية صباح مساء، دون أن يعترينا التعب أو ينال منا السغب . ولكننا ورغم كل ما يحيط بنا من احتراب سياسي وخراب اجتماعي ويباب ثقافي، جراء السياسات الهوجاء والممارسات الاعتباطية للأنظمة الحاكمة التي وضعت تميمة الديمقراطية في صدر اهتماماتها ؛ ليس ك (هدف) لتحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان الحرية السياسية، وتوطين القيم الإنسانية، وإنما ك (شعار) للمزايدات الإيديولوجية والخطابات الديماغوجية .

نقول رغم كل ذلك، لا نزال متمسكين بخيار الديمقراطية - التي لم نعرف عنها وحولها شيئا"سوى بريق الاسم ولمعان المصطلح - ك (منقذ) لانتشال المجتمع من مستنقع الصراعات والمناكفات والكراهيات . دون أن نستوعب - لحد الآن - حقيقة انه لا يمكن تفصيل الواقع على قوام الفكر، ولا ينبغي حشر الممارسة ضمن قوالب النظرية . ولعل فشل وإخفاق مختلف التجارب السياسية التي ابتليت بها مجتمعاتنا العربية ولا تزال، والتي قامت على أساس الإيديولوجية الديمقراطية العتيدة، لم تكن وحدها البرهان القاطع والدليل الدامغ على كون إن تلك التجارب كانت في واد، وان ما كانت تدعيه وتروج له السلطات الحاكمة بخصوص تبنيها لتلك (الإيديولوجية) المزعومة في واد آخر . وذلك ليس كونها كانت تفتقر للمقومات السياسية والمتطلبات الاقتصادية والإجراءات القانونية التي تجعل من الديمقراطية حقيقة اجتماعية وثقافية قائمة، وإنما لأنها لم نكن، في من الأيام، تؤمن بها كضرورة تاريخية وحضارية وإنسانية .

ولكي لا نبدو في نقدنا كمن ينظر للواقع المتلاطم بالاتجاهات المتعارضة والمصطخب بالتيارات المتصارعة بعين واحدة، ونترك من ثم ما لا تراه العين الأخرى لقوى الغيب أو رؤى المجهول . فان من الإنصاف القول إن هجائنا (للدولة) الشمولية وتعرية سلطتها المتوحشة، لا ينبغي إن ينسينا للحظة واحدة مسؤولية الطرف الآخر في هذه الإشكالية المستعصية، ألا وهو (المجتمع) المأزوم . إذ ليس هذا الأخير مجرد كتلة هلامية مشلولة الإرادة ومغلولة القدرة، لا دور لها في خضم الجدليات السوسيولوجية والديناميات السيكولوجية التي تحرك قوى الشعوب والأمم، بحيث تتلاعب بها نوازع السياسات وتتقاذفها دوافع الإيديولوجيات ! . بل هو طرف فاعل وعنصر مؤثر – حتى وان اتسم فعله وتأثيره بالعشوائية والاعتباطية –  في تغيير موازين القوى وإعادة ترتيب الاصطفافات وتحول المسارات .

وفي هذا الإطار لا تفوتنا الإشارة إلى أن الإنسان (فردا"وجماعات) في المجتمعات المتصدعة بنيويا" والمتشظية اجتماعيا"والمتذررة ثقافيا"، لا يزال يستمرأ وضعية التخلف المزرية التي يتمرغ فيها، ويستعذب حالة الضياع التي يعاني منها . بحيث كلما عضّه الواقع بنابه وأطبق عليه البؤس بفكه، كلما هرع مسرعا"إلى أحضان جماعاته الأصولية (الاثنية والقبلية والطائفية والمناطقية) يطلب العون منها وينشد الحماية فيها، الأمر الذي يضعف انتماؤه للمجتمع ويلغي ولائه للدولة من جهة، ويقوي لدية الشعور بالانتماءات الأولية والإحساس بالولاءات الفرعية من جهة أخرى . وهنا تضيع أو تنمحي فكرة (المواطنة) - التي لا تقوم للديموقراطية الفعلية بدونها قائمة - وتتلاشى مبادئها الإنسانية وتضمحل قيمها الأخلاقية وسط ضجيج ؛ الصدامات العرقية تارة، أو المنازعات القبلية تارة ثانية، أو الصراعات الطائفية تارة ثالثة، أو الحساسيات الجهوية تارة رابعة، أو كل هذه الأنماط مجتمعة تارة خامسة، كما هو حاصل الآن في تجربة العراق المسماة (ديموقراطية) ! . تحت مزاعم وذرائع شتى، ليس أولها (حق) الجماعات المتنابذة والمتباغظة في التعبير عن مظلوميتها التاريخية جراء سياسيات الأنظمة القمعية السابقة، أو المطالبة بحقوقها السياسية والثقافية والاقتصادية المهضومة، أو امتلاك حرية التعبير عن خصائصها التاريخية والحضارية والدينية المقموعة، وبالتالي لن تكون آخرها بالتأكيد .

والمفارقة انه كلما أمعنت هذه الجماعات المتشظية في ولوج مسالك التعصب والتطرف في التعبير عن تلك (الحقوق) و(الخصائص)، كلما كان ذلك على حساب سلطة الدولة وهيبة القانون وضوابط النظام . أي بمعنى إن قوة تلك الجماعات المنفلتة تزداد طرديا"وتتضاعف، كلما ضعفت قوة الدولة وتآكلت سلطتها المادية وتقلصت سيادتها الرمزية . وهنا لا يسعني إلاّ أن أستشهد، مرة أخرى، بالتجربة العراقية المريرة التي لا تني معطياتها تعزز استنتاجاتنا النظرية بأمثلة واقعية وممارسات ملموسة لا يمكن للعين أن تخطئها أو تتجاهلها ! . وهنا يطيب لي أن استرجع معكم فحوى ما كان يشكو منه ملك العراق (فيصل الأول)، حين بثّ معاناته وقلة حيلته في أحدى مذكراته حيال إمكانية توحيد الشعب العراقي وبناء هوية وطنية (عراقية) جامعة ينضوي تحت ظلها هذا الخليط المتنافر من الجماعات المتكاره والمتصارعة، في الوقت الذي كانت الدولة العراقية لا تملك من مقومات القوة ومكونات الهيبة ما يوازي تفوق تلك الجماعات، من حيث حيازتها للسلاح نوعا"وكما"، فضلا"عن توفرها على قدرة فرض إرادتها وبسط سطوتها .

والحال إن الديموقراطية – لكي تتحول إلى وقائع معاشة بدلا"من هلاوس متخيلة – تحتاج من كلا الطرفين المعنيين بصيرورة (المواطنة) ؛ الدولة والمجتمع إلى القيام بمراجعات جذرية لمواقفهما ومساءلات قاسية لممارستها . فعلى الطرف الأول (الدولة) أن تغير من سياساتها التعسفية حيال مكوناتها الاجتماعية، لجهة اعترافها بكل ما يتمخض عنها ويترتب عليها من اختلافات في الأصول السوسيولوجية، وتباينات في الخلفيات الانثروبولوجية، وتعدديات في المرجعيات الايديولوجية، والتي قلما يخلو منها مجتمع إنساني في الوقت الحاضر . ومن ثم منحها حقوقها المشروعة سواء بالمشاركة في تقرير مصير المجتمع، فضلا"عن التمتع بثرواته الطبيعية والاقتصادية، بحيث تستحق أن تمحضها تلك المكونات ما تحتاجه وتصبو إليه من ولاء سياسي حقيقي وانتماء اجتماعي فعلي . وهو ما يسهم في بناء مدماك (الشخصية الاجتماعية) المعيارية، وتقوية معمار (الهوية الوطنية) الحضارية .

أما ما يتعلق بمسؤولية الطرف الثاني المتمثل ب (المجتمع)، فان الأمر يبدو أكثر صعوبة وأشد تعقيدا"مما قد يتصور المرء، إذ إن الأمر في هذا المجال لا يتوقف فقط على طبيعة السياسات ونمط الممارسات التي يمكن (للدولة) أن تتبناها أو تجترحها في هذا الإطار فحسب، وإنما يتوقف – بالدرجة الأساس - على ماهية الذهنيات والنفسيات والتصورات والعلاقات التي تستبطن خصائصها وتجتاف قيمها الجماعات المتشظية، ليس فقط حيال الدولة وسلطتها الحاكمة (قبولا"أو رفضا") فحسب، بل وكذلك حيال بعضها البعض الآخر بناء على اختلاف أصولها الاقوامية، وتباين مرجعياتها الطوائفية، وتغاير انتماءاتها القبائلية، وتعارض ولاءاتها الرمزية . ولهذا فمن الصعوبة بمكان الحديث عن تجربة ديمقراطية في هكذا مجتمعات مأزومة وملغومة، ناهيك عن الزعم بنجاحها وقطف ثمارها قبل أن يكون كل من الدولة والمجتمع المعنيان في تلكم التجربة، قد أديا قسطهما كاملا"على صعيد التغيير في مواقفهما، والإصلاح في ممارساتهما، والتحسين في علاقاتهما ليس فقط على صعيد الخطابات والادعاءات والشعارات، بل وكذلك على صعيد التصورات والتمثلات والإيديولوجيات .

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى إن فكرة الديموقراطية طالما بقيت بعيدة عن ميادين الواقع ونائية عن حقول التطبيق، ستبقى تداعب الأخيلة الطوبائية وتلهب الحماسة الإيديولوجية، بحيث لا يني شأنها يرتفع وصيتها يعلو وقيمتها تتسامى في المجتمعات التي لا تزال حبيسة أطوارها التقليدية . وذلك لأن المبادئ التي تحملها، والقيم التي تروج لها، والرسالة التي تبشر بها، طالما تمتعت بجاذبية لا تقاوم في وعي المحرومين اقتصاديا"، وشكلت إغراءا"لا يمكن التغلب عليه في تصور المهمشين اجتماعيا"، وحظيت بسلطة إيحائية لا تقهر في متخيل المقصيين سياسيا". ولكن ما أن تنتقل تلك الفكرة الأثيرة من مجال النظير إلى مضمار الواقع، وتشرع من ثم بالتحول من حيّز المثال إلى حقل التطبيق، حتى نجد أنها تنقلب إلى أداة شيطانية يمكن عن طريقها ليس فقط جعل الدولة بمثابة (كعكة) مغرية يتصارع عليها وحولها ضواري الطوائف والقبائل والاثنيات فحسب، وإنما تستفيق مخلوقات العالم السفلي من سباتها وتخرج من مكامنها، لتحدث الدمار وتشيع الخراب في كل من الدولة والمجتمع على حدّ سواء .

وهنا نصل إلى خلاصة محورية مفادها إن (ترف) الديمقراطية في هذا النمط من المجتمعات الهشة التكوين والضعيفة البنيان، سيكون وبالا"على الدولة ومؤسساتها ونقمة على المجتمع ومكوناته، بدلا"من أن يكون مصدرا"لقوة الأولى وعاملا"لاستقرار الثاني . فلكي تستحيل فكرة الديمقراطية إلى واقع ملموس وتجربة معاشة، تحتاج – كما قال فيلسوف العقد الاجتماعي (جان جان روسو) ذات مرة – إلى مجتمع أفراده من الملائكة !! .

 

ثامر عباس

 

في المثقف اليوم