آراء

اياد الزهيري: ما اشبه اليوم بالبارحة

يقولون ان التاريخ يُعيد نفسه، لكن بالحقيقة ان هناك احداث تتكرر، ولكن تتكرر بالياتها واهدافها، وليس بشخوصها، في حين بعضها يجري بشكل عفوي عندما تجتمع لها نفس الظروف والاسباب فتتكر مرةً اخرى، ولكن كما قلنا بشخوص اخرين وبتاريخ وارض مختلفة، لان حتى التاريخ والحركة الاجتماعية للبشر تحكمهم قوانين وان تكن ليست بصرامة قوانين الفيزياء والكيمياء، اي المادية، وهناك احداث مرسوم لها، وتجري احداثها بتخطيط من يرعاها، ومن هذه الاحداث التي مرت على العراق والتي اخذت طابع الغير عفوي، والمرسوم من قِبل المخططين لها، من ذلك الهجمات التي تعرض لها العراق من قِبل الوهابيين، وعندما نمعن النظر في هذه الهجمات نرى انها جرت على ايدي نفس الجهات، وبتوجيه نفس المخططين، فالطرف الاول كان من قِبل الجار الجنوبي للعراق، المملكة العربية السعودية، وعلى يد طائفة لها نفوذها القوي فيها، اما الطرف المخطط والداعم لها فهو الغرب الامبريالي .

في ليلة تشرين الثاني 1927م هجم الوهابيين على احد مخافر الحدود العراقية بقيادة فيصل الدويش، وقد قتل اكثر من عشرين شخص ما بين رجل وامراة وطفل وعامل وشرطي، وقد ذكر ذلك السيد عبد الرزاق الحسني في كتابه (العراق بين دوري الانتداب والاحتلال)، وينقل السيد الحسني ان ماحدث كان له علاقة مباشرة بالازمة السياسية بين الحكومة العراقية انذاك برئاسة جعفر العسكري والحكومة البريطانية، وهذه الازمه سببها اعتراض البرلمان العراقي على قبول الاتفاقية العراقية – البريطانية عام 1927م واعتبرها العراقيين بانها تكريس للانتداب البريطاني على العراق، وقد حدد مدتها البريطانيون ب25 سنه، هذا الاعتراض ازعج الحكومة البريطانية، لان بريطانيا قدمت لاحتلال العراق للبقاء فيه، وقد قامت بحملة عسكرية كبيرة لطرد الاتراك من العراق الذين احتلوا العراق لمدة 400 عام، وهي عملية ليست بالسهلة، قدمت خلالها بريطانيا كثير من الخسائر، فمن المنطقي انها تنوي البقاء فيه والسيطرة على مقدراته، ولها اهداف استراتيجية بعيدة المدى، ازاء ذلك يكون من المستبعد تسليم البلد لابنائه، وكانت تلك الفترة من التاريخ زمن استعمار الشعوب من قِبل الاوربيين الذين سعوا لاقتسام العالم، في حين ان العراقيين من الشعوب ذات المزاج الحار، وممن لايقبل ان تستعبدهم قوة اجنبية، وعدم قبولهم هذا يرجع لعدة اسباب، منها ماله علاقة بالارومة العربية ذات الانفه والعزة والكبرياء، ومنها ما له علاقة بانهم ينتمون الى دين يابى ذلك وخاصة الجنوبيون الذين ينتمون الى ثقافة وانتماء حُسيني رَبى فيهم روح المعارضة والتضحية والثورة، فما كان من الانكليز الا ان حركوا الوهابيين، وهم الضد النوعي للشيعة سكان الجنوب العراقي، لغرض اقلاق الوضع في بلد تقوده حكومة جديدة، ولا تمتلك امكانيات قوية تستطيع دفع الاذى عن شعبها في حالة حدوث هجوم خارجي عليها، وانها حكومة جديدة العهد بالحكم، ومازالت ادواتها الدفاعية ضعيفه جدا وبالتالي حصلت بريطانيا من خلال هذا الضغط على ما ارادت ووافقت الحكومة العراقية على مصادقة المعاهدة العراقية- البريطانية على مضض، وقد اكدت صحيفة (وستمنسر غازيت) هذا الاعتقاد بتحريك البريطانيين للقبائل الوهابية، حيث نشرت في 22 كانون الاول 1927م ( ان السبب الاكبر في امضاء المعاهدة العراقية الجديدة في اخر لحظة يرجع حسب اعتقاد بعض الدوائر الى ازدياد قوة الوهابيين على حدود العراق الجنوبية)، وهي بلا شك محاولة للتقليل من غلواء العراقيين في موقفهم من المعاهدة، وكسر تصلبهم في موقفهم التفاوضي، وهذا امر ليس بعجيب لان نفس السيناريو قامت به بريطانيا اتجاه الامير عبد الله حاكم الاردن انذاك، حيث تردد في توقيع المعاهدة الاردنية –البريطانية، فحركوا الوهابيون على حدود الاردن الجنوبية مما ارغم الامير عبد الله على القبول بتوقيع معاهدة بين الاردن وبريطانيا، وفق ما ارادت بريطانيا.

ان ما حدث قبل قرن من الزمان تقريبا هو ذات السيناريو الذي جرى على العراق والاردن لارغامهما على توقيع معاهدات على الضد من ارادتهما، وقد جرت على ايدي نفس المحتلين، فقد اعيد سيناريو تكريس الاحتلال الامريكي في العراق عن طريق عقد معاهدة استراتيجية بين العراق وامريكا، يكون للقوات الامريكية وجود عسكري، الغرض منها ظاهريا هو تحقيق الامن والسلام على الاراضي العراقية وحماية العملية السياسية من اعداءها، وحين بدا البلد يتجه نحو الاستقرار طلبت الحكومة العراقية والتي كانت برئاسة السيد نوري المالكي عام 2014م اجلاء القوات المسلحة الامريكية من الاراضي العراقية لانتفاء الحاجة منها، هنا ثارت ثائرة امريكا، واستشاطت غضبا من حكومة المالكي من هذا الطلب بانسحابهم من الاراضي العراقية، والتي جاءت بالتها العسكرية لتبقى فيه، ولاهداف استراتيجية بعيدة المدى، هذا الطلب الذي يُريد اخراج هذه القوات من الباب، خططت لولايات المتحدة الامريكية وبمساعدة حليفتها بريطانيا، صاحبة الخبرة الطويلة بشؤون العراق، بان تعود هذه القوات من الشباك، وان تكون عبرة لحكومة المالكي ولغيرها من الحكومات العراقية التالية، ولحكام المنطقة عامة، وهنا استخدمت امريكا وبتوصية من بريطانيا ورقة داعش، واستثمار ظرف العراق القلق، والحكام الجدد ذوي الخبرة القليلة في ادارة حكم الدولة . داعش كانت من اقوى واخطر الاوراق ضد النظام الجديد باعتبار ان نسبه كبيرة من اعضاء الطاقم الحكومي، هم من الطائفة الشيعية، كما ان البعث مستعد للتحالف مع الشيطان لاسقاط هذا النظام الجديد، بالاضافة الى فرقاء سياسيون غير منسجمون مع بعضهم، بل ومتامرون على بعضهم البعض، وخاصة السياسيون السنة والكرد، الذين يمتلكون اجندات مختلفة تماما عن سياسيوالشيعة، كما ان السياسيون الشيعة منقسمون على انفسهم، مما وفر فرصة ذهبية للامريكان من لعب ورقة داعش، وهكذا دخلت طلائع داعش عابرة للحدود العراقية من غرب الموصل، وحدث ما حدث من قتل وترويع للاهالي الابرياء، وما رافقه من قتل وتدمير لقوات الجيش العراق، واحتلال للمدن العراقية الواحدة تلو الاخرى، حتى وصلت قوات داعش الى اطراف بغداد، واصبح البلد على حافة الانهيار . هذا الضغط والموقف الخطير جعل الحكومة العراقية في موقف حرج ومضطرة الى ابقاء القوات الاجنبية على الاراضي العراقية وخاصة الامريكية، وكما اعترفت جريدة (وستمنستر غازيت) البريطانية باستخدام بريطانيا للقوة العشائرية الوهابية عام 1927م، كذلك اقرت وزيرة خارجية امريكا هنري كلنتون في تصريح تلفزيوني لها بانهم اي الامركان، هم من صنعوا داعش كاداة استخدموها في سياستهم الخارجية. حقا كانت ورقة داعش، ورقة ابتزاز وضغط بوجه الحكومة العراقية من اجل قبولها بابقاء القوات الامريكية على اراضيها، وتحقق لها هذا، وبذلك، ومن خلال هذه المعطيات الواقعية يتبين زيف الادعاءات التي ساقتها امريكا وبعض دول الجوار العراقي، وبعض الاعلام المحلي المرتبط بدول تناصب العراق العداء، بان داعش هي ردة فعل طبيعية للسياسة الطائفية للنظام الجديد في العراق . ان لداعش ما كان لها ان تكون، ولا كان للامريكان من فرصة للاستغلالها في تكريس وجوده المحتل لاراضي العراق، وتركيع الانظمة السياسية في المنطقة لولا حالة التشرذم، وحالة عدم الوعي السياسي للاحزاب السيسية، والنفس الطائفي عند بعض الاطراف العراقية، كما لعب النفس الانفصالي عند بعض الاحزاب الكردية من دور كبير في صناعة ارض رخوة غير صالحة لاقامة نظام سياسي قادر على التصدعي لكل الاخطار التي يتعرض لها البلد . ان التاريخ يكون عبرة لاولي الالباب من السياسين، ودرس للشعوب ان تجنب بلدها الفوضى، وان لا تكون مطية سهلة للمخططات الاجنبية، فيكونوا ادوات فاعلة في تدمير بلدانهم لصالح قوى خارجية لا تكن لهم الخير والسلام.

***

اياد الزهيري

في المثقف اليوم