قضايا

بدايات التعليم الأهلي في العراق وكفاءة مخرجاته

عبد الحسين صالح الطائيبرزت في العقود الأخيرة ظاهرة التعليم الأهلي، ولغرض إستيعاب هذه الظاهرة، لابد من معرفة بداياته عبر المراحل الزمنية المختلفة، والدوافع التي وقفت وراء تزايد أعداد هذه المؤسسات التعليمية، وهل مخرجاته تسهم في حل معضلات العراق السياسية والإجتماعية والإقتصادية.

كانت الكتاتيب الاسلوب التقليدي المتداول منذُ القدم، انتشرت حلقات العلماء لدراسة الفقه والعلوم الدينية في كل مراحل العهد الإسلامي، ونشأت بعض المدارس الفقهية والمراكز العلمية الثقافية الهامة التي أخذت الطابع الرسمي. وما يهمنا هو بدايات التعليم الأهلي في العراق، في الحقيقة هناك دراسات مميزة لمجموعة من الباحثين أمثال: عبدالرزاق الهلالي، إبراهيم خليل العلاف، وستار نوري العبودي، وغانم سعيد العبيدي، كل هذه الدراسات وغيرها من المقالات تناولت بدايات التعليم الأهلي بشكل موسع، بحيث لا يمكن تغطيتها في هذا المقال الذي يركز على أبرز المعطيات.

 حظي التعليم الحكومي والأهلي بالإهتمام بعد تعيين مدحت باشا والياً على العراق للفترة 1869 - 1872، ومنذُ ذلك التاريخ حتى الحرب العالمية الأولى، أصبحت المؤسسات التعليمية إما مشروعاً أهلياً خاصاً أو مشتركاً بين المؤسسات الدينية والأهلية. ومعظم المناهج والأساليب التعليمية تقليدية، لكنها أخذت في التطور التدريجي في العهد العثماني المتأخر بعد افتتاح المدارس الأجنبية والدعم الخارجي لها مادياً وفنياً وتقنياً. افتتحت العديد من المدارس لأبناء الجماعات الدينية غير المسلمة، على غرار المدارس التعليمية الإسلامية. استفادت هذه المدارس من الإمكانيات والوسائل الحديثة المتطورة في الدول الراعية لها، سواء كانت مدارس يهودية أو مسيحية، وبهذا يمكن إعتبار تلك المؤسسات التعليمية البداية الحقيقية للتعليم الحديث في العراق خلال العهد العثماني.

أسهمت تلك المؤسسات في رفع المستوى التعليمي، وخلق روح المنافسة لدى بعض الشخصيات الوطنية، فبادر سليمان فيضي إلى إفتتاح أول مدرسة عراقية أهلية في البصرة. ورغم كون السياسة العامة لسلطة الإحتلال البريطاني للعراق 1914 – 1920، لا تشجع إفتتاح المدارس، لاسيما من قبل الأهالي ذوي التوجهات الوطنية، إلا أنه تم إفتتاح المدارس الأهلية (التفيض، الحسينية، الهاشمية، المدرسة الأهلية في بغداد، التي تطورت لتصبح جمعية التفيض التي توسعت في العديد من المدن العراقية، والحسينية في كربلاء، والإسلامية الأهلية في الموصل)، فأصبح مجموع المدارس الأهلية الإسلامية في عموم العراق خلال سنوات الإحتلال (7) مدارس، بينما بلغ عدد المدارس الأهلية المسيحية للمدة ذاتها (25) مدرسة، ومدارس البنات المسيحية (19) مدرسة.

وخلال الفترة 1920 – 1932، افتتحت بعض المدارس الأهلية (المفيد في الكاظمية سنة 1920، والنجاة في الزبير، والغري في النجف سنة 1922). وبعد تأسيس الدولة العراقية سنة 1921، تصاعدت الدعوة إلى فتح المدارس الأهلية إلى جانب المدارس الرسمية بمباركة رسمية من مجلس النواب العراقي، وهذا الأمر دفع وزارة المعارف بأن تمارس دورها الرقابي وتصدر تعليماتها بتاريخ 21 تموز 1923، بخصوص الإشراف والرقابة والدعوة إلى الإلتزام بالضوابط الرسمية ومراعاة القوانين.

وبعد تحرر العراق من الوصاية الدولية في 1932، أصبح عضواً في عصبة الأُمم المتحدة، وبدأت مرحلة جديدة من التطور بمختلف المجالات، لاسيما التعليم الأهلي، حيث جاء في التقرير السنوي لوزارة المعارف لسنة 1936، عدد المدارس الأهلية والأجنبية بلغت (72) مدرسة بواقع (55) مدرسة للذكور و(17) مدرسة للإناث. وبعد تقلص التعليم الحكومي بسبب الظروف الإقتصادية خلال فترة الحرب العالمية الثانية، شجعت وزارة المعارف التعليم الأهلي، فأصبح ملاذاً للعوائل الثرية. وبعد سنة 1950، إرتفعت عائدات النفط، وتوسعت المدارس الأهلية والأجنبية لتخفف الضغط على المدارس الحكومية، حيث افتتحت (3) مدارس في بغداد (التوجيهية المختلطة، الفتاة الإبتدائية للبنات، ثانوية المعهد العلمي الأهلية المسائية)، وفي 1954، افتتحت روضة ومدرستان في كربلاء (الصادق الإبتدائية الأهلية والصدرية العلمية الدينية). وخلال الفترة 1955 – 1958، افتتحت (4) مدارس أهلية.

ومع إطلالة الحكم الجمهوري في 1958، حصلت نقلة حضارية في التعليم نتيجة الرعاية التي أبدتها الدولة، فحصل إقبالاً كبيراً على التعليم الحكومي، ورغم أن سياسة الدولة بالضد من التعليم الأهلي، ولكن نتيجة الضغط العالي على المدارس الحكومية، فتحت الأبواب للتعليم الأهلي وفق ضوابط قانونية جوهرها الإلتزام بمناهج وزارة المعارف، وبشرط أن تتساوى رواتب المعلمين مع أقرانهم في المدارس الحكومية، وإخضاع نظام المدارس الأهلية الوطنية والأجنبية لرقابة وزارة المعارف، وحسب إحصاء للمدارس الثانوية الأهلية سنة 1961، هناك (90) مدرسة ثانوية أهلية، و(6) مدارس ثانوية أجنبية، بنسبة (23%) من مجموع المدارس الثانوية في العراق. ورغم التراجع النسبي في افتتاح المدارس الأهلية، إلا أنه هناك رعاية وعناية واضحة من الوزارة للمؤسسات التعليمية الأهلية.

وأمتازت الفترة من 1968 – 2003،  بمتغيرات كبيرة، توسعت قاعدة التعليم في العقد الأول، وبعد أن دخل العراق في نفق الحروب والصراعات الإقليمية التي سببت الحصار الذي أنهك قدرات المواطن العراقي، وأدت إلى تدني المستوى التعليمي لأكثر من عقدين من الزمن. استبشر الناس خيراً بعد 2003، إلا أن الآمال سرعان ما تبخرت نتيجة الصراعات الطائفية وفقدان الخدمات والأمن، فشهد التعليم، العام والخاص، إخفاقاً كبيراً.

وبخصوص التعليم الأهلي العالي، يمكن إعتبار كلية دار المعلمين العالي أول مؤسسة للتعليم العالي سنة 1963، شبه أهلية أو قطاع مختلط  في العراق، تأسست (الكلية الجامعة) بمبادرة من نقابة المعلمين، وأُلغي اسم الكلية الجامعة سنة 1968، ليحل محله (الجامعة المستنصرية)، وفي سنة 1974، صدر القرار (102) بجعل الجامعة المستنصرية مؤسسة من مؤسسات التعليم العالي الرسمية. ولكن التعليم الأهلي العالي، لم يشهد إهتماماً كافياً  إلا في سنة 1988، حيث تأسست بعض الكليات الأهلية، وصدر قانون الجامعات والكليات الأهلية المرقم (13)، للتعاطي مع الكليات الأهلية التسعة: المنصور، التراث، الرافدين، بغداد للعلوم الإقتصادية، المأمون، المعارف في الأنبار، والحدباء في الموصل، وشط العرب في البصرة، واليرموك في ديالى.

واستمر الإنفتاح والتطور الجامعي الأهلي بشكل مميز في مطلع 2006، حيث أجازت وزارة التعليم العالي المؤسسات التعليمية الأهلية، إلا أن أداء هذه المؤسسات لم يرتقِ إلى المستوى المطلوب، أدائها مشابه لأداء الجامعات الحكومية المتعثر. وواقع الحال يؤكد بأن المعوقات وأسباب التدني كثيرة، وتحتاج إلى إجراءات علمية وعملية من أصحاب القرار، بضرورة إبعاد وزارتي التربية والتعليم العالي عن المحاصصة، وإبعاد المؤسسات التعليمية من الصراعات السياسية الطائفية، والمبادرة في وضع مناهج تربوية تعليمية تخدم التوجه الديمقراطي، وتربي الأجيال على إحترام القانون والمبادىء الأخلاقية، وقبول الآخر المختلف، وإصدار تشريعات تسهم في الحد من الفساد، ووضع الخطط اللازمة للقضاء على المظاهر السلبية، والإهتمام بجودة التعليم والبحث العلمي، وتحسين البنية التحتية ضمن المواصفات العالمية.

وأخيراً، يمكن القول بأن مخرجات بعض هذه المؤسسات ذات جودة عالية، وبكفاءة تضاهي أو تفوق مخرجات التعليم العام، والبعض الآخر تعمل على مبدأ الربح، وتهتم بالإستثمار أكثر من إهتمامها بالمنهاج العلمي الصحيح، وتفتقر إلى الرصانة العلمية، فأصبحت ملجأ للطلبة الذين يحصلوا على معدلات متدنية. وعلى الرغم من الإخفاقات الكثيرة، إلا إنها قامت بوظيفة الرديف المساعد للمدارس الحكومية الرسمية، واسهمت في تخريج العديد من الذين مارسوا دورهم التعليمي والوطني، وذلك لإرتباط عملية التعليم بالتطور الإجتماعي والسياسي والإقتصادي للمجتمع.

 

د. عبدالحسين صالح الطائي / أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا 

 

في المثقف اليوم