قضايا

أمراض المثقف الديني العراقي

جعفر نجم نصررؤية في ضوء الحداثة وجدلية التنميط الساخر

لقد تعرض المجتمع العراقي وعلى مدى عقود من الزمن لصدمة الحداثة ومتغيراتها المتسارعة والتي طالت جوانب حياتيه هائلة ومتنوعة، الا انها ورغم هذه المتغيرات ظلت فئة واسعة من قطاع المثقفين في العراق ولاسيما هؤلاء الذين يضعون قدما في الحداثة تارة وفي النزعة الماضوية/ الدينية تارة اخرى، ظلوا يسلكون المفاهيم والمصطلحات والمناهج والتوجهات المعرفية الجديدة، ويستمتعون بنتاجات الحداثة في شتى جوانبها الاقتصادية- والاجتماعية وآخرها (السياسة) دخول الديمقراطية الى العراق الا انهم ظلوا في سباتهم القديم ومنازعهم الفكرية القديمة التي ترى في الدين الحصن المنيع الذي لاينبغي الولوج له الا لتأدية فروض التقديس والولاء التام، اما جانب النقد الديني وتفكيك منظومة الخطاب الديني والبناء الحوزوي يجب ان تظل بعيدة عن كل مايشوش عالم المؤمنين/ المثالي،لانه عالم متكامل لا تنطبق عليه مقولات الحداثة ولامناهج المعرفة المعاصرة.

بوجه عام فان الكثير من مقولات او نتاجات الحداثة قد تحدت هذا العالم المثالي الذي يحيا به هكذا مثقفين، ولاجل تقريب الصورة بمنظار مكثف ينبغي لنا بيان انماط او اشكال المثقف الديني [الذي يستهلك الثقافة ويعيد انتاجها بمنطق الثبوتية او السكونية المطلقة] اذ ان هذه الانماط التي نعتقد وجودها هي على النحو الاتي:

اولا: النمط الحوزوي الذي تخرج من النجف الاشرف: ثم انتقل الى المدن الاخرى، وظل اسير المقولات الحوزوية الرئيسية والتي تمثل حرفية النصوص الفقهية المغرقة بالقدم، ولكنه رغم ذلك ظل دؤوبا في الاطلاع على نتاجات المعرفة (الحداثوية)، ولكنه يقرؤها لكي يقارعها بالرد والافحام الفقهي ويثبت بطلانها بحسب زعمه لانها تجنح الى العقلانية والعلمانية بطبيعة الحال.

وهذا النمط نستطيع ان نقول عنه انه يعاني من تقمصه الدور الماضوي/ الديني بكل حييثاته من جهة، ومن ضرورات معرفة ما يجري من تحولات معرفية وفلسفية/ هي نقدية بالضرورة فهنا يحدث لديه حاله [الهذيان الفكري] او يصاب بهذا الداء المرضي بسرعة هائلة مما يجعله بالتالي يتقمص دور الحامي/ الامين والمدافع الرصين عن حمى الدين واسواره المنيعة، فيأخذ بالهذيان عبر مقولات معاصرة: التغريب، الغزو الثقافي، المؤامرة الدولية، الخ. ويظل في خانة هذا المرض طويلا لاسيما اذا كان واقعه الاقتصادي مرهون الى الرواتب التي يستحصلها من الحوزة او مؤسساتها المتحذلقة معرفيا؟.

ثانيا: النمط الايديولوجي/ التائب: والذي نقصد به ذلك النمط الذي يحيا طويلا في مقولات الادلجة التي صاغها له حزبه او صاغها هو لنفسه او للحزبه بعد ان تماهى معه طويلا، ولكن لنتيجة تضارب المصالح لعدم اعطائه منصبا ما، او جراء صدمته بقيادة الحزب التي تدعي المثالية امام الجماهير المؤدلجة وتنغمس حتى اذانها في متع الحياة، او جراء قراءته او اطلاعه المعرفي الذي جعله يعبر نحو افق معرفي غير مؤدلج ولكنه افق ديني رغم ذلك، نتيجة هذه الامور وماسواها دعت المنتمي لهذا النمط لكي يكون تائبا خارجا على حزبه طاعنا له وناقدا له فيما بعد.

وهذا النمط يمكن ان نقول عنه انه يعاني من ازمة نفسية اكبر من النمط السابق، وذلك لانعدام موارده المالية من جهة، فضلا عن العداء المستمر له من قبل اعضاء الحزب السابقين، واستمراره في التذوق المعرفي لغة العصر/ النقدية، يجعله يشعر بانه لايستطيع الا ان يجعل من معارفه/العصرية اداة لحماية دينه ومذهبه على حد سواء، مما يجعل منه مصابا بأزدواجية فكرية/ نفسية عميقة، فهو من جهة لايستطيع ان يتنازل عن انتمائه الديني او لنقل بعبارة تخفيفية لايستطيع ان ينتقد معالم دينه ومذهبه من جهة، ومن جهة اخرى فهو اصبح تواقا وبأستمرارية لمعارف العصر ومنهجيته ولكونه لايستطيع ان يحدث القطيعة المعرفية مع بعض مركبات او مكونات عقيدته ومذهبه، فيصاب جراء ذلك بعته فكري اسميه (التوفيقية) بين الدين والعلم والذي هو بالحقيقة عبارة عن (تلفيقية) فكرية ليس الا، مما يجعله يقدم نفسه بوصفه [مفكرا اسلاميا] وهو ليس اكثر من (مغفلا اسلاميا) يروج لعقيدته بطريقة عصرية (حداثوية)!؟ كما يعتقد ، عبر التركيز على اهمية الدين في حياة الناس؟.

ثالثا: النمط الاكاديمي/ المتدين: اذ يسعى هذا النمط لكي يكون اقرب الى شاكلة النمط السابق اي النمط الثاني، الا انه جراء ضغوطات التحولات السياسية، وسباق المناصب الذي غدا عرسا عراقيا يرقص به الكثير من اصحاب الشهادات العليا، يجعله هذا الوضع الجديد اي بعد عام [2003] يقع ضحية الادلجة، فأذا كان النمط الثاني انسحب من حزبه الفلاني، نجد ان الكثير من اصحاب الشهادات العليا يصطفون زرافات ووحدانا على ابواب مكاتب الاحزاب او من لف لفهم.

كيما يقدمون انفسهم على انهم الشخصيات الامينة على المؤسسات الاكاديمية او البحثية او نحوها من مؤسسات اخرى، فيدوس على معارفه سريعا كيما ينال الحظوة لدى الحزب او الحركة الفلانية.

وهذا النمط مصاب بمرض نفسي خطير اخطر من [مرض النفاق الاجتماعي] كما انه تجاوز حالة المرائي، اذ هو يبرر لنفسه تلك الفعلة عبر محاكاة ذاته المريضة بأنه يقدم خدمة للدين وللمذهب، وان معارفه يجب ان تكون تحت طوع تلك الاجزاب لانها احزابا دينية تحامي عن الدين والمذهب، وهو بذلك يكون مصاب [بهلاوس فكرية] تكون مرئية ومسموعة لديه، مما يجعله يحاكي هذه الهلاوس عبر تغيير مظهره الجسدي بأن يكون صاحب جبهة عليها اثار السجود ووجها عليه اثار الخشوع، وعيون عليه اثار التضحية وبذل الغالي والنفيس في خدمة دينه ومذهبه.

ان روح الحداثة وتدفقاتها الحيوية المستمرة لاتدخر وسعا في كشف البناءات التقليدية واطرها الاجتماعية المعرفية الحاضنة لها، بعبارة اخرى ان الحداثة تسهم هي بحد ذاتها في كشف هؤلاء الذي يدعون انهم مثقفون عبر مشروعها العقلاني/ العلماني المتماسك الذي يسعى دائما لتحرير عالم الدين من سطوة المتسولين بأسمه، وذلك عبر اذرعة العلمنة التي تصنع الترابطات المنطقية بين الاشياء والافكار ضمن اطرها السليمة، وتكشف منطق المتشبثين بالنطاقات اللازمنية [الاخروية بحسب أدعائهم ] الساعين نحو فضاءات معرفية محكومة بالتسيس المتعمد لكل شيء، لصالح مشروعهم السلطوي، ولذلك وجدنا بأن عمليات العلمنة تقدم للدين خدمة كبرى عبر عزله عن مناخات الواقع البشري/ المصلحي/الفئوي، ذلك كيما يظل يعبر عن معالم تجربة روحية/ فردية غير ملوثة بأيدي الفاسدين الذين يدعون الوصال الدائم مع المقدس، وهو بريء منهم دائما وابدا.

 

أ. د. جعفر نجم نصر

أستاذ انثروبولوجيا الدين وعلم أجتماع الدين في الجامعة المستنصرية

 

في المثقف اليوم