قضايا

ما عاد وبال البغي إلاّ على صاحبه

مجدي ابراهيم(يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم، متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون)

مخطئون إذن غاية الخطأ، أولئك الذين دبجوا المطولات في الفكر العربي وراحوا يصدرون عليه أحكاماً عامة؛ إذ لم يلتفتوا قط مثل هذه الالتفاتة العميقة التي لاحظها فارس القلم العربي صديقي الأعز الدكتور عصمت نصار في هاتين المقالتين الأخيرتين.

نعم، مخطئون ولهم في الخطأ نسبٌ عريق لأنهم قرروا فيما يشبه الجزم خلو الفكر العربي من مباحث الأخلاق وإهمال الحرية والتبعة الفردية، واستغربوا غرابة الجاهل بعيون هذا الفكر، لا غرابة الباحث المدقق فقال قائلهم : من الغريب حقاً أننا لا نكاد نجد في الفكر العربي قديمه وحديثه بحثاً واحداً في الاخلاق، إذا استثنينا كتابي " يحي بن عدي" و "مسكويه" في تهذيب الأخلاق اللذين نسجا فيهما على منوال أرسطو والرواقيين من فلاسفة اليونان.

مكمن الخطأ هو في الجزم الذي يخلط بهذا التقرير الصادر عن حكم عام يصادر على المطلوب ويلقي الأحكام جزافاً في غير تحقيق، فإن التأمل في دراسة الدكتور عصمت نصار عن ابن المقفع تنقض هذا الحكم من أساسه بمقدار ما تكشف عن فلسفة عملية أصيلة لابن المقفع في مجالي الأخلاق والسياسة، ولا يكاد القارئ ينهي الدراسة إلا ويتبيّن له توجهات ابن المقفع المعرفية في إطار حركة المضمون الديني الذي يدين له بالولاء. ويضاف إليه إطلاع واسع على الثقافتين الفارسية واليونانية، لكن هذا الاطلاع لا يأتي منسوجاً على منوال أرسطو ولا منوال الرواقيين ولا منوال أحد من الفلاسفة الأقدمين بل يأتي ليمثّل ذاتاً معرفية لها منوالها الخاص ونسقها المتفرد في إطار ما تدين له من وعي وحكمة وثقافة وقيم ومضمون.

فالفضائل التي يطرحها متصلة بالعقل نابعة من عين المضمون الديني الذي ينتسب إليه.

والرذائل التي يحذر منها وينبّه على خطرها، لهي هى عين الرذائل الموبقة التي نبّهت الأديان على ضررها الخطير على الإنسان.

والشمائل الباطنة التي حدثنا عنها صادرة من الأصول التي تقوم عليها وحدة المعرفة الصحيحة في وحدة الأديان جميعاً. وتلك نقطة غاية في الرقي والتهذيب وتصويب الأنظار إلى تحصيل الكمالات الإنسانية وإشاعة التسامح بين أبنائها.

فلئن كان ابن المقفع وقف على "ذلك الرابط الذى يصل بين جميع الأديان، فوجد أنه البر والمعروف والإحسان وكف الأذى عن الناس، والتعفف عن كل فعل خالطه الهوى، وكل قول مسّه القبح، وكل موضع سكنه الفحش، ليقتصر على الأعمال التي تشهد النفس أنها توافق كل الأديان"، فإنه بهذا كله يجعل من هذه الوحدة المعرفية اللاحقة على وحدة الأديان وحدة الخالق الذي سنّ السلام ودان البغي والعدوان، وجعله مقرراً في الأديان بغياً على النفس قبل أن يكون بغياً على الغير، وأن المردّ إليه لا مفرّ منه في نهاية المطاف لقيم ميزان العدالة.

ولا شك أن طرح النفس عن المكروه والغضب والسرقة والخيانة والكذب والبهتان والغيبة، وكف اليد عن القتل والغصب، وعزل الشر والأشرار عن القلوب، والإيمان بالبعث والقيامة والثواب والعقاب لهي بالحقيقة مقومات "الصلاح" الذي ليس كمثله صاحب ولا قرين، وأن مكسبه إذا وافق الله يسير.

تلك كانت رؤية قائمة على تفكير علوي ومعرفة رفيعة مُحققة بوحدة الخالق ووحدة ما يصدر عنه من أوامر تكون طاعتها يسيرة إذا وافقت فطرة معتدلة لم تلوثها لوثات الأغيار . الأمر الذي يكشف أثر هذا الحكيم الإنسان فيمن جاء بعده ممّن قرأوا له، وأجبوا على الناس أن يكونوا له قارئين نافعين، وإلا ... فلا إصلاح ولا تطهير ولا خُلق ولا دين !

إنه، إذا كان ابن المقفع من أوائل الذين تحدّثوا في فلسفة الأخلاق التطبيقية فلم يبق إلا أن يكون أثره على اللاحقين من بعده مثلاً أعلى يهتدي به في هذا الميدان، وأنه لكذلك إذا كانت مسألة التأثير والتأثر سمة غالبة لقوة البحث العلمي وتميزه، فإنها بالطبع لمن أخطر المزالق في يد الباحث الذي لم يستطع توظيفها بإنصاف، فيلغي المضمون الجوّاني ليقدّم عليه التشابه الشكلي بين الأفكار، كما فعل صاحب الأحكام العامة المسبقة التي صدّرنا بها مطلع هذا المقال؛ فيجئ كل اعتماده على هذا الأخير ضارباً عرض الحوائط أجمعين بحركة المضمون في آثار الفيلسوف أو المفكر أو الأديب.

لم يكن ابن المقفع رغم اطلاعه الواسع على الثقافات التي أتاحت له قريحته أن يطلع عليها إلا واحداً من أولئك الذين نسجوا في الفكر العربي على منواله الخاص، فأبدعوا بما نسجوا  متفردين من قيم ومعارف وأخلاق في ظل مضمون ديني وفلسفي ينتسبون إليه ويدينون له بالفضل فيما يأخذون من فضائل أو فيما يدعون من رذائل، لكنه يبني هذا كله على وحدة المعرفة في العقل الإنساني الموافق لكل الأديان. وبمقدار ما تتمثل له وحدة المعرفة مظهراً عاماً يجعلها في الوقت نفسه المظهر الذاتي للمضمون الديني تأسيساً ونقطة انطلاق.

أنا لا أكتم عن القارئ سراً إذا قلت : إنني لم أحزن لشيء حزني  على إنهاء هذه المقالات عن ابن المقفع الأديب والفيلسوف والإنسان، والسابق للفكر الإسلامي تأصيلاً لأسس الأخلاق، القادح على الجملة فضلاً عن التفصيل في أقوال غير مسؤولة قيلت عن هذا الفكر جُزافاً واعتباطاً، ويرجع الفصل في تهافتها وسقوطها إلى مقالات الدكتور عصمت نصار . أجزل الله لك العطاء يا صديقي فإن تأسيسك لما تكتب وتبحث على ديدن الإخلاص، لهو هو الأبقى والأنفع حين يعز النفع ويهون البقاء.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم