قضايا

الانحطاط الديني والسياسي في العراق

ميثم الجنابيإن "الانحطاط الديني" شأن كل انحطاط له خصوصيته. بمعنى أننا نستطيع الكلام عن انحطاط ديني بذاته، وآخر مقرون وملازم للانحطاط الاجتماعي العام. والأول جزء من تاريخ الدين والأديان، أما الثاني فجزء من زمن التحلل والفساد أو الأزمة البنيوية الشاملة للدولة والمجتمع والثقافة. لكنها أوجه مترابطة. بمعنى أن الانحطاط الديني هو الوجه الآخر للانحطاط الاجتماعي، كما أن الانحطاط الاجتماعي يستتبع مختلف أشكال الانحطاط بما في ذلك الديني. وهو حكم اقرب إلى البديهية، مع انه يشكل في ظروف العراق الحالية أحد أكثر مفارقات وجوده التاريخي المعاصر.

إننا نقف الآن أمام ظاهرة الانتشار الواسع للدين والتدين والحركات الدينية الاجتماعية والسياسية. ويعبر هذا الانتشار أولا وقبل كل شيء عن طبيعة ومستوى الخلل المادي والمعنوي في العراق المعاصر. وذلك لأن هذا الانتشار لم يكن جزء مكونا من أجزاء الصيرورة الروحية المعاصرة للعراق،  كما لم يكن عنصرا من عناصر التركيبة الروحية للمجتمع المدني. على العكس! لقد كان من حيث مقدماته ونوعه وأساليب فعله ردا على الانحطاط الشامل الذي أحدثته "دنيوية" التوتاليتارية العراقية. إذ جسّدت هذه "الدنيوية" في ذروة انحطاطها الصيغة الأكثر غلوا للتدين المفتعل، كما هو جلي في بناء المساجد الفارعة الفارغة و"الصحوة الإيمانية" وكتابة القرآن بدم صدام وما شابه ذلك. وتعّبر هذه المكونات عن عمق الخلل في الفكرة الدنيوية البعثية في العراق. من هنا خصوصية الانتشار الديني الجديد فيه. وبغضّ النظر عن تاريخه العريق، بما في ذلك بالنسبة لتشكيل الحركات الإسلامية السياسية (الشيعية خصوصا) ، إلا انه أصبح جزء من تقاليد التوتاليتارية نفسها بسبب تراكم مكوناته الاجتماعية والنفسية ضمن معايير ومقاييس ونفسية الدكتاتورية الصدامية. بحيث جعلت من الإسلام والتدين وجهين لمعالم الانحطاط الشامل في العراق. من هنا لم يكن هذا التدين في الواقع أكثر من شعائر زائفة لنفوس خربة. وحالما جرى تأطيرها بمعايير ومقاييس السياسة، فانه لم يكن قادرا، بعد سقوط التوتاليتارية،على إنتاج شيء غير الطائفية السياسية. وهو إنتاج يعيد بعث الصدامية بغلاف إسلامي، كما نراه بوضوح في جعل الطائفية السياسية أساسا للسلوك السياسي، وفي تحويل الطائفية السياسية إلى أحد العناصر الجوهرية في "بناء" الدولة والمجتمع والثقافة.

وهو الخلل الأكبر الذي ورثه التدين العراقي الجديد في مواقفه من كل مكونات وإشكاليات العراق المعاصر. ومصدر الخلل الأكبر هنا يقوم في ضعف البنية الاجتماعية وتخلفها المريع. فالحالة العراقية المعاصرة تتصف بنوع من التخلف المادي والمعنوي الذي يصعب أحيانا وصفه بمعايير العلم وذلك بسبب تداخل مكونات يصعب فرزها وتصنيفها. إلا أنها تشكل بمجموعها حالة الانحطاط الشامل. فالانحطاط لا يعرف التمييز والتصنيف، لأنه يجر الأشياء جميعا إلى مستوى واحد من الهمجية. وهي حالة نعثر عليها في نوعية وكمية الإرهاصات الهائلة التي يعاني منها المجتمع والدولة في مجرى محاولاته تذليل عوائق الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية. فهي حالة مزدوجة ومركبة ومعقدة. وذلك لأنها تفترض في آن واحد تذليل الماضي وتأسيس الحاضر واستشراف المستقبل. بينما تمثل القوى السياسية والاجتماعية السائدة حاليا وتتمثل رحيق الانحطاط التوتاليتاري البعثي والدكتاتورية الصدامية. وهو انحطاط لا يمكن فصله عن طبيعة الخلل الهائل الذي حصل في كل من بنية الدولة والشرعية والديمقراطية والدنيوية (العلمانية). وهو خلل وجد انعكاسه المباشر وغير المباشر في تدمير خلايا المجتمع المدني. أما نتائجه الأولى فقد برزت بصورة جلية في فوز الحركة الدينية السياسية والقومية العرقية في الانتخابات الديمقراطية الأولى في تاريخ العراق المعاصر. فقد كانت من الناحية التاريخية خطوة هائلة إلى الأمام في ميدان الحرية (السياسية والاجتماعية) ولكنها كانت خطوة هائلة أيضا إلى الخلف في ميدان العقلانية. ويعكس هذا التناقض أولا وقبل كل شيء "مآثر" التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، التي جعلت من العراق رمادا لا يؤدي نشره إلا إلى إعماء العيون وتشويه التنفس. وميّزت هذه الحالة نوعية وكيفية "الانتخاب" السياسي. أما النتائج الأولية له فإنها تشير إلى هزيمة القوى الديمقراطية والدنيوية والعقلانية. وتعّبر هذه الهزيمة من وجهة نظر معاصرة المستقبل على عمق الانحطاط الشامل في العراق. كما تشير من الناحية الفعلية إلى انغلاق الأفق الديمقراطي الاجتماعي والدنيوي في ظل سيادة القوى الدينية السياسية والعرقية القومية. فكلاهما يصبان من حيث الجوهر في إعادة إنتاج الانحطاط التوتاليتاري.

إن سيادة الحركات الدينية السياسية هو بحد ذاته مؤشر على التخلف الاجتماعي والسياسي والثقافي للمجتمع. إذ نعثر فيه على ست مؤشرات عامة وهي:

1- انتشار النزعة التقليدية،

2- وسيطرة الذهنية الأسطورية،

3- والجمود العقائدي،

4- وانحطاط الحرية الفردية والاجتماعية،

5- سيادة نفسية العوام،

6- الاستعداد الدائم للتجزئة المذهبية والفرق المنغلقة مع ما يترتب عليه من إمكانية الغلو والتطرف المذهبي في بداية الأمر ثم الطائفي لاحقا.

وهي صفات عامة، إلا أن ما يميزها في ظروف العراق الحالية هو ارتباطها بطبيعة النظام التوتاليتاري البعثي والدكتاتورية الصدامية، وكيفية سقوطه، وحالة الانتقال إلى الديمقراطية.

بعبارة أخرى إن بقايا التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية تقوم في تجفيف المجتمع من مصادر نموه الحية، وجعل التاريخ زمنا ضائعا مع ما يترتب عليه من اضمحلال وضمور وعي الذات التاريخي، وانتشار وسيادة الرخويات، وفقدان الحدود العقلانية في العلم والعمل، وفقدان الاعتدال العقلي – الأخلاقي، وخلل التوازن الداخلي. باختصار أنها شكلت بحد ذاتها صرحا خاصا لثقافة التخريب الشامل والانحطاط التام. وهي حالة ومقدمة تاريخية خربة لا يمكنها أن تصنع قوى عقلانية. من هنا تعقيد الحالة المادية والمعنوية لمرحلة الانتقال إلى الديمقراطية في العراق.

ويتمثل هذا التعقيد في مجال وميدان صعود الحركات الدينية السياسية أيضا في خصوصية ما أسميته بالمؤشرات الست التي تشير إلى طبيعة ومستوى التخلف الاجتماعي والسياسي والثقافي للمجتمع. إذ أننا نقف أمام انتشار واسع وعريض للنزعة التقليدية التي تمد الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة في العراق برصيد اجتماعي ومعنوي. والقضية هنا ليست فقط في تحجر العلاقات الاجتماعية وضمور ديناميكيتها الفعلية، بل وبهيمنة الرؤية التقليدية في كل شيء. وتمّيز هذه الحالة رؤية وطبيعة الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة في العراق من حيث غياب الإبداع في الفكر، واستفحال الجمود في الرؤية ومحاربة التجديد ومناهضة المعاصرة. وتجد هذه المواقف "تنظيرها" الفكري في سيطرة الذهنية الأسطورية، وبالأخص عند الحركات الشيعية، التي لا يتعدى "اجتهادها" نصوص القدماء و"اختلافاتهم" التي لا تتعدى في الواقع أمورا غاية في التفاهة الجسدية والخذلان المعنوي. من هنا سيادة النص المقدس في الفكر والعبودية المذهبية للكلمة والاستنطاق المتبجح والفارغ للعبارة الميتة. ولا يمكن لهذه الحالة أن تصنع غير الجمود العقائدي، بمعنى اضمحلال الرؤية العقلانية والنقدية تجاه النفس والتاريخ والحاضر والمستقبل. أما النتيجة فهي "العمل المنظم" لاستكمال تلاشي الحرية الفردية والاجتماعية، كما جرت وتجري في أحداث عديدة تفعل على تعميق الإرهاب المنظم ضد الحرية الفردية باسم الدين والأخلاق مع انتشار ظاهرة الفساد المرعب في مؤسسات الدولة و"الرؤساء" الجدد. وتعّبر هذه النتائج وتتمثل في الوقت نفسه سيادة نفسية العوام المميزة للحركات الإسلامية السياسية المعاصرة في العراق. فهي حركات لم ترتق فيها حتى النخبة إلى مصاف الحد الوسط المقبول والمميز لهذه الكلمة.

بعبارة أخرى، أننا نقف أمام ظاهرة الانتشار الفاقع للحثالة الاجتماعية وتجييشها المستعر في خطاب لا عقلاني مهمته إعادة إنتاج العبودية المغلفة بقدسية الماضي، أي إعادة استعباد الفئات المهمشة (والعراق في اغلبه مهمش) بالشكل الذي يستعيض عن دكتاتورية البعث الصدامية بتسلط ديني مذهبي طائفي. أما الحصيلة النهائية لذلك فهي الاستعداد الدائم للتجزئة المذهبية والفرق المنغلقة مع ما يترتب عليه من إمكانية الغلو والتطرف المذهبي في بداية الأمر ثم الطائفي لاحقا.

وبهذا بصبح الانحطاط الديني والتدين المفتعل حلقات إضافية مكملة لحالة الانحطاط الشامل في العراق بوصفه الإرث المرئي والمستتر لبقايا التوتاليتارية والدكتاتورية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار تاريخ الانحطاط العريق للإسلام في العراق، فان "تكاملهما" في ظروف الانتقال إلى الديمقراطية يقوم فيما أسميته بالاستعداد الذاتي للنزوع صوب الطائفية. ولا يؤدي هذا النزوع في النتيجة إلا إلى التطرف والغلو. ويتخذ هذا التطرف والغلو في ظروف العراق الحالي منحى التصلب الطائفي السياسي ومنحى الإرهاب الدموي. والأول مميز للتيار الشيعي والثاني للتيار السنّي. لكنهما يلتقيان في نهاية المطاف في تيار واحد ألا وهو تيار الانحطاط المادي والمعنوي للعراق.

وتمّيز هذه الحالة مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية في العراق. فالحركات الدينية السياسية عموما، شأن اغلب الحركات السياسية الأخرى، تعاني من ضعف هائل في إدراك وتحقيق المضمون الاجتماعي للسياسة، مع غياب شبه كامل للرؤية العقلانية وافتقاد فاضح للأبعاد الوطنية في الموقف من الإشكاليات والمشاكل الكبرى التي يعاني منها العراق حاليا. مما يدفع بها بالضرورة إلى التوجه صوب الانعزال المذهبي والطائفي. وهو توجه أصبح التدين المفتعل ذروته العملية. ولا يعني ذلك في الواقع سوى العمل بمعايير الرؤية التقليدية ومحاربة كل ما يمكنه أن يكون رصيدا للإسلام الثقافي. بمعنى انتشار وتوسع وتعمق الإسلام المذهبي، أي الإسلام غير الثقافي. ولا تؤدي هذه العملية في النهاية إلا إلى إعادة إنتاج الراديكالية السياسية، التي مثلت التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية نموذجها الدنيوي (العلماني). بمعنى تأديتها بالضرورة إلى تصنيع نفسية التطرف والغلو. ولا تفعل هذه النفسية إلا على شحن الراديكالية الدينية العراقية بعناصر متزايدة من اللاعقلانية. مما يدفع بها بالضرورة إلى أن تتمثل أيديولوجيا الانغلاق والطريق المسدود. والنتيجة هي الخراب والتخريب الذاتي والدمار والاندثار، أي الموت والزوال باعتبارها اشياء طارئة.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم