قضايا

الطب النفسي والوجود والزمان

إنسانية الطب: رغم التطور الحاصل في الطب، في الوقاية والتشخيص والعلاج، إلا أننا حين نتعامل مع أطباء اليوم، نجد أن سؤالاً مشروعاً يفرض نفسه علينا: هل أن ذلك التطور في التقنية الطبية يصاحبه تطور في إنسانية العلاقة بين الطبيب والمريض؟

يمكننا القول بأن هذه العلاقة هي على المحك أكثر في إطار ممارسة الطب النفسي عما في سواه من بقية الإختصاصات. ففي هذا التخصص تكون عادة الأمراض مزمنة، فتتكرر اللقاءات بين المريض والطبيب، وتجري في الجلسات تلك مناقشة أمور خاصة في حياة المريض، وهو الشيء الذي يضيف عمقاً إضافياً يندر أن نجده في بقية التخصصات الطبية.

وهذه هي إحدى الأسباب التي فرضت على من كان يختار مهنة الطبيب النفسي في بدايات القرن العشرين، أن يتم تحليله نفسياً هو قبل كل شيء، وذلك لكي تزداد بصيرته بنفسه أولاً، ولكي يصير أكثر عمقاً وصدقاً، مع نفسه أولاً، وبالتالي مع الآخرين.

تغير الطب النفسي كثيراً بعد إكتشاف الأدوية النفسية في الخمسينات من القرن العشرين، وصار أقرب للطب العام، ولا يخفى أنه فقد بعض ذلك الثراء والعمق الفلسفي الذي كان يمتاز به قبل ذلك.

بالطبع فإن المريض يستفاد أكثر من الطبيب النفسي الذي يجيد وصف الدواء المناسب، أكثر من إستفادته من طبيب الذي يبقى يتفلسف له حول أسباب المرض، وقد لا يصف له حلاً عملياً، لكن ألا يمكن أن نبقي على شيئاً من العمق الإنساني في زمن الأدوية هذا؟

الطبيب النفسي (ميدارد بوس Medard Boss)

لتسليط الضوء قليلاً على تلك الفترة التي كان ربما فيها الطب النفسي أكثر غنى بالمعاني الفلسفية وأكثر عمقاً دعونا نتحدث عن أحد الأطباء النفسيين الذي قد يكون غير معروف لدينا في العالم العربي، وهو (ميدارد بوس Medard Boss). لقد تدرب على الطب النفسي في مدينة (بورغولزلي Burghölzli) على مقربة من الدكتور (بلولرBleuler) الأب، وبلولر الإبن، ثم بدأ في تحليله فرويد، وأكملت التحليل (كارين هورناي) في برلين. ثم استفاد من تعليم (فلهيلم رايش) حين كان طالباً عنده إلى جانب كل من (هانز ساخت)، و(أوتو فينيخل)، وإيرنست جونز. ثم شارك في حلقات دراسية استمرت عشر سنين إلى جانب كارل غوستاف يونج. ولا يخفى على متتبع علم النفس والطب النفسي دور كل من هذه الأسماء في التأريخ. ألا تثير سيرته الغيرة؟

حين صار (ميدارد بوس) بدوره طبيباً نفسياً أستاذاً وتسلم مسؤولية تدريب طلاباً في النفسي في سويسرا، يبدو أنه أحس أن عليه أن يحسسهم بعمق هذا التخصص، وأن « يزعزع ذلك الثقل في رؤاهم »، كما سنقرأ بعد قليل تعبيره ذلك، وسيلجأ في ذلك لأحد فلاسفة عصره الأهم، مارتن هاديجر. فلماذا هايديجر؟

لماذا هيديجر؟

رغم أنه كان معروفاً بحبه للبساطة في حياته اليومية، يعد مارتن هاديجر أكثر فلاسفة ألمانيا العصيون على الفهم، فهو يستخدم، مثلما فعل في كتابه (الوجود والزمن)، الكلمات مركب يصعب ترجمتها، مثل كلمة (دازاين Das sein) تلك، التي جرت ترجمتها للفرنسية إلى (الحقيقة الانسانية réalité humaine)، ثم ترجمها سارتر إلى كلمة (الوجود existance).

ويمكن تبسيط فلسفة هيديجر بأننا في زحمة يومنا العادي ننسى أن نتأمل وجودنا، ولا نرجع لذلك التأمل إلا ربما حين نمرض، فنأخذ اجازة من عملنا ونبقى وحيدين في السرير فنرجع للتساؤل وللتعجب من كينونة الأشياء. و بأننا نهرب من مواجهة (العدم) او اللاشيء، وننسى ان نتحرر من الآراء المسبقة والصلبة تلك التي تسود في محيطنا الإجتماعي الذي نرمى فيه في بداية حياتنا. وتحت ضغط تلك الآراء لا نصير ذاتنا، بل نصير تلك الشخصيات التي تريدها لنا هذه المدن الكبيرة، تلك التي كان يتجنبها هيديجر حيث كان يعيش في الريف كارهاً للتلفاز وللضجيج. وأخيراً إن علينا أن لا نصير ما نحن عليه لكي يرضى علينا الآخرين، بل علينا أن نرتفع فوق ذلك لنصير أصلاء.

أعجب (ميدارد بوس) في كتاب (الوجود والزمان) لهيديجر، ويبدو أنه أحس بأن عند هيديجر شيئاً يقدمه لطلاب الطب النفسي، يجعلهم أكثر عمقاً، فراسله طالباً منه إعطاء محاضرات لهم، فوافق هيديجر رغم أنه أجاب بكل صدق وتواضع بأن هذه المحاضرات لن تحوي على تفاصيل متخصصة في الطب النفسي، فربما لم يكن يريد تحميل ما يقوله اكثر من حجمه.

زعزعة الثقل في رؤاهم

أستمرت محاضرات هيديجر لطلاب الطب النفسي عشر سنين، وفي نهايتها، عام ١٩٦٩، كتب ميدارد بوس رسالة لهيديجر يشكره فيها نقرأ منها:

(إن تلك الفكرة المشتركة التي كنا يتشاركها كلّ منا، المتمثلة في إقامة المحاضرات مشتركة في زيورخ، كانت قد ولدت من رغبتك أنت في تقديم المساعدة عن طريق طرح افكارك الفلسفية للكثير من الأشخاص الذين يعانون مثلي من تلك الحاجة للدعم القوي للعلوم الطبية. لقد مرت أكثر من عشر سنين على بداية هذه الاجتماعات. ولم تحجم أنت أبداً عن ذلك الثقل المتمثل في الحلول ضيفاً عليّ، مرةَ أو مرتان أو ثلاث مرات في كل فصل دراسي، لكي تجلب لمن هم الأفضل من بين طلابي ومن بين زملائي في العمل، قرباً هو حقاً كبير، وفكراً جوهرياً، وهو الشيء الذي لم يكونوا كأطباء نفسيين متحضرين له، هم المتدربين من طرف واحد، وهو طرف العلوم الطبيعية. إن شلة من الأطباء الشبان السويسريين، بالإضافة إلى مشاركين سابقين في المحاضرات السابقة كانوا قد قدموا من الخارج، هم اليوم  جميعاً يكنون الإمتنان العميق لذلك الصبر الذي كنت دوماً تبديه لكي تزعزع ذلك الثقل في رؤاهم التي ضيق عليها الغماء. الشيء الملموس حقاً في دائرة الأطباء النفسيين والمعالجين النفسيين من زيورخ الذين شملتهم محاضراتك هي تلك الطريقة الحتمية والمستديمة التي قامت بها نشاطاتك وتعليماتك بالتأثير على طريقة وشكل ممارستهم الطبية ومنحتهم وجهاً اكثر أنسانية. »

ديمومة الدهشة

ورغم أن (بوس) كان يعتقد أن أفكار هيديجر يمكن أن تترجم إلى طريقة علاجية تستند إلى الفلسفة الوجودية إلا أنه اغلب اطباء النفس، حتى المتأثرين منهم بهيديجر وبالفلسفة الظاهراتية مثل (بنزفاجنر Binswanger)، قد كانوا حذرين من ترجمة الأفكار الفلسفية تلك إلى تطبيقات عملية في علاج الأمراض.

وغير واضح حقيقة اليوم إن كان هناك ترجمة عملية لتلك النظريات في العلاجات النفسية. نعم، إن الطبيب النفسي المطلع والمتأثر بتلك النظرية الوجودية سوف يصرح في وقت ما للمريض الذي يراجعه بذلك التبسيط لتلك النظرية، بضرورة صياغة وجودنا الأصيل، بضرورة التساؤل وعدم الهروب من الإجابات الغير مريحة. فهل ذلك يكفي لأن نسميه (طريقة علاجية)؟

ربما أكبر فرق بين الطبيب النفسي المتأثر بالفكر الوجودي عن غيره هو أصالته هو نفسه، وديمومة دهشته من العالم حوله، ومحاولته تحطيم الآراء المسبقة، وصدقه مع نفسه ومع الآخرين بأنه يجب أن لا يمنحوه حجماً أكبر مما تستحق وظيفته. تلك الوظيفة التي باتت اليوم مقتصرة في الكثير من أوجهها على وصف العلاج الدوائي المناسب، وهو الشيء الذي لم يعارضه على سبيل المثال حتى (بنزفانجر) فحين توفرت الأدوية النفسية في الخمسينات من القرن العشرين لم يعاديها بل رحب بها لما وجد فيها من فائدة للمريض ومن طريقة عملية، حتى ولو على حساب ما آمن به من النظريات الفلسفية التي تعمق فيها في فترة ما.

يبقى الطب النفسي في نهاية الأمر من أهم التخصصات الطبية لأنه في الصميم من تلك العلاقة الجدلية، علاقة النفس بالجسد، ويبقى الطبيب النفسي، في عصر الأدوية والبايولوجيا هذا، الذي يهدد بأن يختزل الإنسان إلى آلة أو حيوان، يملك مفاتيحاً ليفتح أبواباً من التساؤلات ومن المعاني، ويدعونا لعلاقات أكثر إنسانية، ولدهشة دائمة.

 

سامي عادل البدري

 

في المثقف اليوم