قضايا

الحق في التفلسف

احمد شحيمطالفلسفة للجميع وفكرة المؤرخ الروماني شيشرون أن سقراط انزل الفلسفة من السماء إلى الأرض وادخلها إلى كل البيوت فكرة منبهة للفلاسفة والمشتغلين في حقل تدريسها للنزول في تعليمها وتلقينها للأجيال ممكنة في تشكيل وبناء فكر نقدي وإنساني يهتم بإثارة السؤال نحو التفكير وإزالة ترسبات المعرفة الجاهزة والقائمة على منطق الرأي الأحادي الذي لا تعترف الفلسفة بقيمته حيث لا يساهم في بناء فكر الاختلاف والتعدد. ومن يتأمل في القولة المأثورة لشيشرون سيجد من المعاني في تفلسف سقراط باليات الحوار والتهكم وفن التوليد وما يعرف بالطريقة السقراطية في الساحة العمومية والفضاء العام نموذج يحتدى في التفلسف والعودة للذات . فقد انزل سقراط الفلسفة من البرج العالي والمغلق إلى فضاء أرحب للتأمل في مرامي الإنسان وصفاته . وإمكانية تعليمه الفضائل الأخلاقية والعملية إيمانا بالفكرة القائلة "أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك ". المعرفة تذكر والجهل نسيان . والفلسفة في الساحة العمومية وفي الحلقات السقراطية وجه آخر للشمولية والفضاء العام التي تلقن فيه مبادئ التفكير والحوار السليم بين أطياف المجتمع اليوناني ومن مجالات متباينة .

لا سبيل للحق في التفلسف إلا بإنزال الفلسفة من عالم الطبيعة والتأملات الطبيعية ونقلها للطبيعة الإنسانية . والتحول من التأملات الفلكية ومشاهدة العالم الفيلسوف للسماء خصوصا مع الحكماء السبعة ومنه طاليس الملطي .أن يعود الإنسان إلى تقصي الحقيقة الذاتية والكشف ما يوجد في أغوار النفس من حقائق ويقينيات ينبغي استنباطها مباشرة باليات منهجية .حقائق تشكل نقطة البداية في تحولات الفكر وبناء قاعدة صلبة للتفكير ومنطق التفلسف . كانت الدهشة منبعا واصلا للفلسفة والتفلسف. لم يقتنع الإنسان بالأجوبة المألوفة وبالأشياء الغامضة والتأويلات الأسطورية الخيالية لكل ما يتعلق بالظواهر الطبيعية فاكتشف الإنسان المبدأ وارجع الأسباب إلى كل ما هو طبيعي مادي في عناصر مادية موجودة ومكونة للطبيعة بذاتها في القول بالماء والهواء والنار . يستمر التفكير الفلسفي واليات التفلسف في إنتاج ما هو أساسي من مذاهب فلسفية ونظريات علمية . ويكشف منطق التفلسف عن دوافع الإنسان للبحث عن الحقيقة وإثارة السؤال الفلسفي من جديد . وفي سياق علاقة الفلسفة بالتفلسف يبقى التقابل بين كانط وهيجل في ضرورة تعلم الفلسفة والإلمام بتاريخها والمثال أن الإنسان لا يمكن أن يسبح في النهر من دون ماء في وجهة نظر هيجل . وقابلية تعلم الفلسفة وتعليمها تنطلق من الفكرة القائلة أن الإلمام بتاريخها وأسسها يتمكن الإنسان من التفكير الفلسفي وسلك منطق آخر في التفلسف. أو من منطلق كانط ان التفلسف عملية بناء للمعرفة وان قراءة الفلسفة يمكن أن يمدنا بمعارف معينة دون أن تكون الفلسفة قابلة للتعلم لأنها لا تشتمل على قواعد صورية ثابتة أو مبادئ وقوانين في التعلم كتلك السائدة في علم الرياضيات . ومن خلال هذا التقابل تبدو الأفكار نوعا ما متشابهة ومتقاربة للجمع بين الفلسفة والتفلسف .

فالحق في التفلسف يبدأ من سياق القابلية في فهم الفلسفة واستيعاب مضامين الدرس الفلسفي باستدعاء العدة الديداكتيكية والحمولة الفكرية للمدرس في قلب الفصول الدراسية . وإذا كانت المقررات الدراسية مقيدة بعامل الزمن والامتحانات وتكريس نوع من الفلسفة الخاصة بالمفاهيم والتقيد بالنصوص والبرنامج المقترح من قبل الوزارية المعنية بالشأن التعليمي فان للمدرسين كامل الحرية في عملية الاجرأة والانتقال إلى عملية التفلسف وجعل المتعلم يكتسب كفايات ومهارات . تدريبه على التراكيب والأسئلة والمناقشة والتحليل والحوار وتمرين المتعلم على قيم المواطنة والتسامح والتعايش .وما يتعلق بالقيم المحلية والكونية. وهكذا يكون الحق في الفلسفة والتفلسف للجميع من قاعات الدرس إلى الفضاء العمومي في مناقشة موسعة للقضايا التي تهم الشأن العام بهدف البحث في مشاكلنا والارتقاء بالذوق وتحسين العقل وتمكين الناس من آليات التفكير الفلسفي والحق في الاختلاف وإبداء الرأي .

فالحق في التفلسف وفق رؤية المفكر المغربي طه عبد الرحمان ينبع من صميم تهيئة مفاهيم في السياق العربي في ضرورة تأسيس فلسفة عربية تفك الارتباط بالفكر الفلسفي الغربي . خصوصية الفلسفة تنطلق من البيئة الثقافية والحق في الاختلاف وتجاوز منطق الكونية الذي يفيد التفكير بالسياقات والآليات التي أطرت الفلسفة في مشهدها اليوناني والغربي على السواء . تكييف المفاهيم من قلب الثقافة العربية للرفع من آليات التفلسف في إنتاج أفكار ومذاهب .في خلق فلسفة مميزة بمفاهيم نابعة من الثقافة العربية يمنحنا فكرة أن الفلسفة يمكن استنباتها بدرجة أقوى في مجالنا عندما تكون المفاهيم المتداولة من قيمنا وليست نابعة من ثقافة الآخر .عندما أنشأ المأمون بيت الحكمة من خلال رؤية منامية كانت بالفعل الفكرة صائبة في نشر الفكر المضاد لكل نزعة منغلقة ومجابهة التهديد من قبل الفرق والنحل الأخرى . ومقارعة الأفكار باليات الفكر الفلسفي .

حاجتنا للفلسفة والتفلسف من منطلق ما في قيمنا من دعوة للحكمة والتبصر والتعقل . والنظر في الوجود والموجودات .والحق في التفلسف مبني على حجة أن التفكير الفلسفي كوني وشمولي من جهة الإلمام باليات الفلسفة بالطريقة التي وضع معالمها اليونان ولكن بالعقلية العربية في تحقيق خصوصية مميزة للفلسفة العربية الإسلامية . كتب عبد الرحمان بدوي عن الفلسفة الإسلامية في موضوع شامل عن التراث الفلسفي .وكتب محمد عابد الجابري عن التراث الفلسفي في الشرق والغرب .عن معالم فلسفة ابن سينا وعقلانية الفارابي وقمة الفكر الفلسفي لابن رشد في بناء منطق يروم الحق في الفلسفة والتفلسف . من منطق ما في فلسفة أرسطو بالذات من ميل نحو الوسطية والأخلاق المتوازنة وتوازن النسق الفلسفي . بالشرح والتعليق والإضافة . وما في الشريعة الإسلامية من مقاصد وغايات قصوى كالفلاح والصلاح والخير العميم للفرد والمجتمع .هنا يبدو أن الحق في التفلسف مشروع بناء الإنسان على التفكير المنطقي السليم وتحسين المدارك وإصلاح العقل من ترسبات التقاليد والقيم البالية وإصلاح الذات في بعدها الأخلاقي من خلال تربية النفوس وتهذيبها بالعلم والنقاش وروح التعايش على أساس الاختلاف وبناء المجتمع بدون عقد نفسية وكوابح اجتماعية . وهذا يستدعي في البيئة العربية الإيمان بقيمة التفكير الفلسفي في بناء الفرد والمجتمع إيمانا بالوحدة بين المشروع الفردي والمشروع المجتمعي. فالحق في التفلسف يقتضي تعميم الفلسفة في كل الأوطان العربية حتى لا تبقى الفلسفة حبيسة عند النخب أو عالقة في سياسة الرفض والنبذ بدعوى الإساءة للدين والتعارض مع الإيمان أو أسباب أخرى ظلت لصيقة بالفلسفة في محاربة بعض الفقهاء وتحالف الفقيه ورجل السياسة في قص أجنحة الفلسفة من زمن الغزالي ونزعة الفكر الأصولي .

فالحق في التفلسف يتجلى في الجانب الديداكتيكي عند تبسيط الفلسفة وتعليمها بطرق ميسرة . ونقل المعلومات والآراء وتحليلها في السياقات المتنوعة إلى تعلم آليات التفلسف وتجريبها في الواقع المادي أو لنقل التمكن من المهارات والمعارف وتعبئتها في سياقات معينة عندما يكتسب المتعلم مجموعة من الكفايات في الدرس الفلسفي. ويصبح هذا الدرس مدخلا لتعلم التفلسف والتدرج بالتفكير الفلسفي من مجال المواقف الفسلفية إلى إنتاج أفكار ذاتية تساهم في خلق نماذج فلاسفة في عالمنا . فتجربة الدرس الفلسفي في الجامعات العربية والثانويات خلق انطباعا ايجابيا عندما تمرست عقول وذوات في التفلسف وفسحت المجال للقول أن هذا العالم يتوفر على طاقات ونخب ساهمت في إنعاش الفلسفة والتفلسف. من نجيب بلدي وفؤاد زكريا ومحمود سامي النشار وعبد الرحمان بدوي ومحمد عزيز الحبابي ومحمد عابد الجابري والطيب تيزني وصادق جلال العظم والقائمة طويلة . هكذا يعتبر الحق في التفلسف مشروع وحق أصيل . ومن حق الشعوب العربية أن تسلك طريقا في ترسيخ الفلسفة والدرس الفلسفي واستنبات التفكير الفلسفي في قلب المدرسة والأسرة والمجتمع وما تقدمه الفلسفة من تنوير وإمكانية بناء الحداثة وفق مقياس الثقافة .في طموح النخبة ورغبة المثقف لإرساء مجتمع مدني وعقول متنورة.      

 

بقلم : أحمد شحيمط كاتب من المغرب

 

في المثقف اليوم