قضايا

حدود الطب النفسي (1): حين يصير الطبيب النفسي عنصرياً

المقدمة: من الطبيعي أن يشعر كل طبيب ببعض الفوقية أمام مريضه، فما ان يجد علة المرض ويفسرها للمريض ويبدأ بالعلاج فإنه سيستحق حتماً ذلك الإمتنان والإعجاب والتبجيل الذي سوف يحيطه به المريض وأهله. سيشعر حتى أكثر الأطباء تواضعاً ببعض الفوقية.

793 انطوان يورولكن الطبيب يمكن أن يخطئ في تحديد الحدود المقبولة لمسؤوليته، فيتجاوز حده مثلاً في التدخل في بعض خصوصيات المريض الثقافية فيوجه له نقداً أو ما يظنه تصحيحاً لفكرة لا تخص المرض، وهي بذلك لا تدخل ضمن السبب الذي دعى المريض للجوء له. ففي الوقت الذي تعتبر مثلاً نصيحة ترك التدخين وممارسة الرياضة مثلاً من ضمن النصائح الطبية المقبولة، فمن غير المقبول أن يوجه الطبيب تعليقاً أو نقداً للمعتقد الديني للمريض مثلاً، أو حتى لنوع ملابس المريض أو طريقة قصه لشعره. 

ومن شدة إعجاب الناس بالطبيب فهم يمكن أن يوجهوا له أسئلة تتجاوز حدود تخصصه. وفي تلك الحالة يتوجب أخلاقياً على الطبيب أن يصرح بكل وضوح بأنه يجهل فيها، أو أنه ليس الشخص المناسب للإجابة. إلا أن التصريح بأننا نجهل هذا الأمر أو ذاك يتطلب الكثير من الوعي والصدق والنزاهة، وهي أمور يصعب أحياناً حيازتها. وذلك التصريح يمثل تنازلاً عن ميزة وهبها له السائل وهي ميزة أنه الأعلم، والأكثر حكمة، وبالطبع فإن ذلك التنازل سيكون صعباً. لكننا لو رجعنا في الزمن إلى فترة قريبة سنجد أن التخصصات العلمية كانت قليلة بل مختلطة مع الأدبية حتى، فكان الطبيب النفسي مثلاً يجد أنه معني بالحديث عن المجتمع وأصل الإنسان وتطوره وتطور معتقداته، لأن هذه الأمور لم يكن لها مختصيها وحدودها الفاصلة. ألم يكتب (فرويد) مثلاً كتباً تجاوزت تخصص الطب النفسي الذي أختص به؟

نعم، لقد وفق فرويد في مسعاه حين صار في أواخر عمره يكتب صراحة عن الدين كما في كتابيه (الطوطم والحرام) و(موسى والتوحيد)، وعن الحضارة كما في كتاب (مستقبل وهم)، إلا أن فرويد مفكر شامل حقاً، وكان يصوغ الأمثلة والمقارنات كأنه فعلاً مختص بعلوم الأنثروبولوجيا وغيرها من تخصصات ربما كانت في وقته ما زالت في بداياتها، فأحس بأنه يسد نقصاً ما، وفعلاً لقد كان رائداً بصيراً في ذلك.

لكن هذه المقالة ستركز في بقيتها على طبيب نفسي فرنسي عمل في الجزائر وتجاوز حدود تخصصه فوقع في مطب العنصرية البيولوجية.

العنصرية البيولوجية لأنطوان پورو

يعتبر الطب النفسي من التخصصات الجديدة نسبياً، ولم يكن هناك كتاباً مرجعياً للطب النفسي الفرنسي قبل سنة ١٩٦٠ وهي سنة صدور كتاب (هنري إي Henri Ey) المعنون بـ(موجز في الطب النفسي Manuel de Psychiatrie)، فهو الكتاب الذي سد النقص وصار المرجع. أما قبله فلم يكن هناك مرجع واضح، وكان يرجع لمقالات متفرقة وآراء من هنا وهناك، ومن بين تلك المصادر التي سادت قبل ١٩٦٠ هو كتاب (الموجز الأبجدي للطب النفسي Manuel alphabétique de psychiatrie)، الذي هو أشبه بالقاموس للمصطلحات المستخدمة في هذا التخصص وتعريفاتها، إلا أننا سنجد شيئاً يثير الإنتباه في بعض تفاصيله، ففي تعريف كلمة (الإندفاعية impulsivité) على سبيل المثال سنقرأ: (بعض الإصناف العرقية لديها هذه الإندفاعية في تكوينها بدرجة عالية مثل أبناء البلد الأصليين للشمال الأفريقي حيث نجد عندهم نوبات التهيج الحركي والإندفاعية الإجرامية) (١).

إن تلك الإشارة التي تخص أبناء البلد الأصليين لشمال أفريقيا تثير الفضول حقاً، لكن العجب ربما يزول قليلاً لو عرفنا أن النسخ الأولى لهذا الكتاب قد كتبت من قبل طبيب نفسي فرنسي كان يمارس مهنته في الجزائر، وهو أنطوان پورو، فماذا عنه؟

إن أنطوان پورو (١٨٧٦-١٩٦٥) هو الطبيب النفسي الفرنسي الذي بدفع منه تأسست في ثلاثينات القرن العشرين أربع مصلحات للطب النفسي في الجزائر، الأولى سنة ١٩٣٣ في وهران، والثانية سنة ١٩٣٤ في الجزائر العاصمة، والثالثة سنة ١٩٣٥ في قسنطينة، والرابعة سنة ١٩٣٨ في البليدة. لم يكن إنشاء تلك المصلحات لخاطر عيون الجزائريين أبناء البلد الأصليين، بل كان من أجل المستعمرين الفرنسيين حيث كان يتوجب نقل المرضى لفرنسا من أجل علاجهم مع كل التعقيدات المترتبة على ذلك.

إلا أن نشاط (پورو) لم يبدأ في الثلاثينات من القرن العشرين، فلم يكن إنشاء تلك المصلحات ربما إلا بمثابة التتويج لجهود إستمرت حوالي عقدين من الزمن، فلو رجعنا في الزمن قليلاً سنجد أن ما يسمى بـ(مدرسة الجزائر في الطب النفسي) قد تأسست عام ١٩١٨، أي قبل ١٥ سنة من إفتتاح أول مصلحة للطب النفسي في وهران. ويحدد تأسيس تلك المدرسة بتلك السنة على إعتبار أن نشر (أنطوان پورو Antoine Porot) لمقالته (ملاحظات حول الطب النفسي الإسلامي Notes sur la psychiatrie musulmane) عام ١٩١٨، في مجلة (الحوليات الطبية-النفسية Annales médico-psychologiques)، هو العمل التأسيسي لتلك المدرسة (٢).

كانت إحدى مسلمات تلك المدرسة المزعومة أن ابناء البلد الأصلي لم يجتازوا كل مراحل النمو النفسي فهم ثابتين في مرحلة طفولية تسودها النوازع البدائية. وبأن إبن البلد الأصلي (قابل للإيحاء suggestible)، وهو خاضع لتأثير الخرافة.

نقرأ في مقالة پورو التأسيسية تلك أن: « إبن البلد الأصلي ليس لديه أي شهية علمية ولا أي أفكار عامة، وتكفيه قياسات بسيطة لصياغة استنتاجات غبية أحياناً » ونقرأ بأن أبناء البلد الأصليين: « لديهم روح بدائية ». وبأن: « معارفهم وجدانية أكثر من كونها موضوعية ». بأن: « العقل لديهم لا يصنف الأشياء، فهو لم يصل لمرحلة التجريد، يبدو راكداً في مستوى ما قبل-المنطق ». وبأن: « الشمال-أفريقيين يمتازون بإندفاعية إجرامية ».

ولدى پورو بحث مشترك مع شخص آخر بعنوان (البدائية لدى سكان شمال أفريقيا الأصليين)، نشر سنة ١٩٣٩ في مجلة طبية ونقرأ منه وصفه لدماغ السكان الأصليين:

« إن عملية التواصل بين أجزاء القشرة الدماغية هشة، وكأن هذه القشرة غير متكاملة أو غير مندمجة أو غير منسجمة مع بعضها، وهو الشيء الذي يجعل فعاليات (الدماغ البيني diencephalon) هي السائدة، وهذا ما يفسر كثرة حالات الصرع والهستيريا، والإيمياءات الفظة، وحالات التهيج النفسي-حركي » (٣).

إننا اليوم نقوم بقياس التواصل بين أجزاء الدماغ بواسطة تقنيات التصوير بـ(الرنين المغناطيسي الوظيفي Functional Magnetic Resonance Imaging (fMRI))، أو بـ(التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني Positron Emission Tomography (PET))، ورغم ذلك فإن علماء اليوم يصرحون أنه من الصعب دراسة الدماغ بسبب تعقيده وعدد خلاياه وإتصالاتها مع بعضها المتفرعة والمتغيرة دوماً، فكيف توصل (پورو) إلى ذلك الإستنتاج التشريحي الوظيفي؟

ألا يبدو (پورو) كذلك المستعمر الذي يضيق ذرعاً بإبن البلد الأصلي الذي يطالب بحقه؟ ألم تكن صفة (مندفع بشكل إجرامي) موجهة لذلك الجزائري الذي إنتفض لإسترجاع أرض زراعية سلبت منه على سبيل المثال لا الحصر؟

كانت إحدى مصادر پورو هي مقالة (غوبينو Gobineau) المعنونة بـ(مقالة حول عدم تساوي الأعراق Essai sur l’inégalité des races) الصادرة عام ١٨٨٤، والتي تدعي بأن العنصر الأوربي هو الأكثر تفوقاً وعليه أن لا يختلط بعرق أصحاب البلد الأصليين، ونقرأ في تلك المقالة أننا لو مزجنا (دماء وأوردة) الطرفين فإن (إنحطاطاً dégénérescence) سوف ينتج عن ذلك.

تلك هي مصادر (پورو)، فقد توصل لإستنتاجه ذلك وكتبه في الكتب ليس فقط بغياب أدوات التصوير الدماغي للمرضى، بل حتى بغياب عنصر التواصل الأهم مع المرضى وهو اللغة، فبأي لغة كان (پورو) يكلم المرضى الجزائريين، وما هو عمق معرفته بثقافتهم؟ ألم يكن (پورو) يغلف جهله بلغة وثقافة سكان الجزائر بذلك الغلاف من العنجهية العلمية، الذي أقرب وصف له هو (العنصرية البيولوجية)؟

إلا إن واحدة من مقالات (پورو) الأخيرة، التي نشرت في الأربعينات من القرن العشرين حين كان له من العمر ٦٧ سنة وأغلب الظن أنه كان قد تقاعد، وكان عنوانها (منجزات فرنسا في مجال الطب النفسي في مستعمراتها منذ قرن)، تحتوي أخيراً على جملة مقبولة: (على الأطباء النفسيين أن يتدربون على التقاليد والثقافة المغربية، وأن لا يترددون في أن يشملون العائلة في عملية الشفاء) (٤).

نعم، كان يستطيع أن يفعل أفضل من ذلك. كان علينا أن ننتظر أن يأتي طبيب نفسي آخر هو (فرانز فانون) لكي يشعر بأنه قبل أن يتجرأ ليكتب شيئاً عن هذا الشعب الحي، عليه على الأقل أن يقوم بجولة يزور بها مدنه وقراه العميقة، أن يختلط بهذا الشعب ويتعلم منه أولاً، ثم ليقول ما يقول ضمن حدود عمله.

 

سامي عادل البدري

................

المصادر:

1- Porot A. (impulsivité). In: Manuel alphabétique de psychiatrie (2ed). Paris: PUF, 1960

2-Saïd Chebili (2015) La théorie évolutionniste de l’école d’Alger: une idéologie scientifique exemplaire. L’information psychiatrique 2015; 91: 163-8

3- Porot A, Sutter J. Le (Primitivisme) des indigènes nord-africains. Ses incidences en pathologie mentale. Sud médical et chirurgical 1939:226-41

4- Porot A. L’œuvre psychiatrique de la France aux colonies depuis un siècle Annales-médico-psychologique 1943: 356-78

 

في المثقف اليوم