قضايا

حدود الطب النفسي (2): فرانز فانون والطب النفسي الثقافي

797 Frantz Fanonرغم أن (فرانز فانون) (١٩٢٥-١٩٦١) عاش طفولة سعيدة نسبياً متمتعاً بالجنسية الفرنسية، إلا إنه كان على ما يبدو حساساً للرسائل العنصرية الضمنية، فبكونه أسود البشرة سوف يكتب في إحدى كتبه بأنه حين كان يشاهد أفلام طرزان وهو يافع، كان يجد نفسه متماهياً (أو متقمصاً) مع شخصية السيد الأبيض للغابة، وليس مع رجل الغابة الأصلي أسود البشرة (١).

كان مهتماً بالدراسات الفلسفية، والكتابات الوجودية لسارتر وكامو، ورغم أنه ليس بشيوعي إلا أنه كان قارئاً لكارل ماركس، ومهتماً للإنقاسم العنصري في ولايات أمريكا الجنوبية بين البيض والسود. وكان صديقاً للشاعر (إيميه سيزار ١٩١٣-٢٠٠٨)، الأسود البشرة والناشط السياسي مؤسس (حركة الزنوجة Négritude mouvement)، وتعزو (أليس شركي Alice Cherki) تلك المسحة الشعرية في كتابات فانون إلى تأثره بإسلوب صديقه إيميه سيزار (٢). 

ورغم أنه درس أعمال فرويد إلا إنه رفض فكرة أن السلوك الإنساني يتحدد بشكل رئيسي من خلال النمو النفسي-الجنسي الأولي، فقد كان يرى أن السود يعيشون تجربة إستبداد وإضطهاد داخل المحيط الكولونيالي وهو الشيء الأهم لتحديد السلوك، وكان يعطي أهمية للعوامل الإقتصادية والإجتماعية في تفسير نفسيات المرضى.

رغم كل ذلك فلم يضطره الأمر للإنعزال والحقد ولإزدراء البيض، ففي عام ١٩٤٨ صار لفانون إبنة من علاقة مع طالبة فرنسية بيضاء، ثم في عام ١٩٤٩صار لديه إبن من إمرأة بيضاء أخرى تزوجها بعد ذلك.

لم أجد في المصادر سبب عمل (فانون) كطبيب نفسي في الجزائر تحديداً، فهل كان مجبراً على الذهاب هناك أم كان ذلك من إختياره؟ مهما يكن من أمر فإن الجزائر كانت مناسبة فعلاً له، فهناك سيجد النقاش على أشده حول الهوية والعنصرية والإقصاء، فكل ذلك كان في اللب من الوضع الجزائري حينها. لقد رمى فانون نفسه في قلب المأزق ذاك. ألم تسيل دماء شهداء الثورة الجزائرية المجيدة من أجل هذه المواضيع تحديداً؟ وسال على نحو مواز لها مداد كتاب الجزائر أمثال مولود فرعون وكاتب ياسين؟

عمل فانون في الطب النفسي في الجزائر لمدة ثلاثة سنين (١٩٥٣-١٩٥٦) قضاها أغلبها في مستشفى البليدة (جوانفيل)، ثم عمل سنة واحدة كطبيب نفسي في تونس عام ١٩٥٧. كان الطب النفسي الإستعماري تقوده (مدرسة الجزائر للطب النفسي) تلك التي خصص لها الجزء الأول من هذه المقالة. وبكون (فانون) أحد الأوائل الذين أحسوا أن المرض النفسي والتمييز العنصري يشتركان بخصلة هي الإقصاء من المجتمع، فقد مسته شخصياً ربما تلك (العنصرية البيولوجية) في مقولات (پورو). كتب فانون مقالة ليدحض نظرية پورو وعنون مقالته (متلازمة شمال أفريقيا) اتهم فيها الطب النفسي الكولونيالي صراحة بـ(العنصرية) (٣).

إحدى ملاحظات فانون أن عمليات (اللوبوتومي lobotomy) كانت تجري أكثر على المسلمين من على مرضى المستعمِرين، والمعروف أن نتيجة هذه العمليات تجعل المريض مطيعاً خنوعاً، فهل كان يراد للطب النفسي أن يستخدم كوسيلة لتحضير الشعب المستعمَر الذي أفترض المستعمِر أنه أقل نمواً عقلياً؟ (٤)

كان يسافر بشكل واسع في الجزائر وادرك لقيمة التفسيرات التراثية لأسباب المرض النفسي، بما فيها الروحانية

وكان مع بعض زملاءه الذين شاركوه بعض أفكاره مثل الدكتورين (شارلز جيرونومي Charles Geronomi)، و(جاك أزولاي Jacques Azoulay) قد قام بتأهيل مسجد جامع في المستشفى وأزال العبارات المسيحية والرموز المسيحية التي كانت تزين الجدران فقد عرفوا أن هذه الرموز والعبارات تضيف إلى شعور المريض الأصلي بالتهميش (٥،٦).

في عمله اليومي كان يشجع المرضى على أن يختاروا علاجهم، وبدأ في عمل جريدة تصدر عن الردهة النفسية التي كان يعمل فيها، وأنشأ فريق كرة قدم، وأجرى دراما نفسية، وجلسات تحليل نفسي (٢،٦). 

وحين شارك فانون في مؤتمر للطب النفسي في بوردو-فرنسا عام ١٩٥٦، لم يكن بحثه المشترك مع (جيرونيمي) سوى عن أثر الفروق الثقافية على الفحص السريري. فقد قدما الطبيبان هذان ورقة بعنوان (فحص تفهم الموضوع TAT لدى النساء المسلمات. الآثار الإجتماعية على الإدراك والتخيل)، وفي هذا البحث أخبرنا الطبيبان أن ذلك الفرق المتمثل في أن المرأة الأوربية تسترسل بالكلام وبالخيال أمام الصور التي يحتويها ذلك الفحص عكس المرأة الجزائرية التي تختصر كلامها على وصف الصورة، سببه أولاً أن الصور أوربية، فالمناظر الطبيعية والشخصيات في الصور أوربية وهو الشيء الذي ربما لا يحيل إلى ذكريات معينة وخيالات لدى المرأة الجزائرية. وبالتالي فإن المرأة الجزائرية تجد أنها أما صور أوربية ملغزة عليها فك شفرتها في فحص تراه تلك المرأة الجزائرية هو أقرب لفحص الذكاء من فحص الشخصية، فتحاول أن تجد الجواب الصحيح بدل الوقوع في الخطأ، وهي تتحكم في خيالها هنا بل تمنعه. فيأتي جوابها المختصراً ليس دليلاً على سطحيتها، كما فسرها البعض، بل لأسباب ثقافية. كأن لسان حال الطبيبان يقول فماذا لو كانت الصور مأخوذة من طبيعة الجزائر، ولو كانت الصور تقدم شخصيات بلباس وهيئات جزائرية؟ (٧)

 يا له من إنتباه إنساني لفانون هذا وزميله في ورقتهم البحثية تلك. 

كانت ثلاث سنين كافية لفانون لينقد فيها الطب النفسي بطريقة ممارسته من هؤلاء الأطباء أمثال (أنطوان پورو) الذي لم يكونوا يقدروا أثر ثقافة المريض على سير عملية التشخيص والعلاج. ثلاث سنين ختمها فانون بأنه إستقال من الخدمة تاركاً رسالة توضح أسباب استقالته نقرأ منها:

« إذا كان الطب النفسي عبارة عن تقنية طبية تهدف للسماح للإنسان على أن يكف أن يكون مغترباً عن محيطه، فإني أؤكد من جانبي بأن العربي، الذي دوماً يجري تغريبه عن وطنه بالذات، يعيش في حالة مطلقة من تبدد الشخصية depersonalisation » (٥).

لم تكن هذه المقالة لهدف تاريخي بحث، فالوقوع في خطأ (أنطوان پورو) ليس مستبعداً من قبل أطباء ولدوا وعاشوا في بلدانهم، لكنهم يجدون أن الرفعة تتمثل في إحتقار الشعبي واعتباره سطحي وغبي. فكانت المقالة بجزئيها دعوة للإعجاب بـ(فانون) وللإنتباه للخصوصيات الثقافية للمريض وإحترامها، والإقرار بأن لكل إنسان ذكاءه وعمقه الفريد، وثقافته الجديرة بالإحترام.

 

سامي عادل البدري

...................

المصادر:

  1. Fanon F (1952) Peau Noire, Masques Blancs
  2. Cherki A (2006) Frantz Fanon: A Portrait. Cornel University Press.
  3. Fanon F (1952) Le Syndrôme NordAfricain [Reprinted 1969 in Toward the African Revolution, trans C Farrington. Grove Press].
  4. Keller RC (2007a) Colonial Madness: Psychiatry in French North Africa. University of Chicago Press.
  5. Macey D (2000) Frantz Fanon: A Biography. Picador.
  6. Gibson N (2003) Fanon: The Postcolonial Imagination. Polity Press in association with Blackwell Publishing.
  7. Le tat chez la femme musulmane. Sociologie de la perception et de l’imagination. En coll. avec C. Geronimi, Congrès des médecins aliénistes…, LIVe Session, Bordeaux, 30 août, 6 septembre 1956.

في المثقف اليوم