قضايا

الايزيدية والوحش.. صراع الحب والموت

أو قصة امرأة من المشرق

انه صراع بين حب البقاء والحرية وبين الاسترقاق والسادية والألم...بهاته الكلمات نلخص المأساة التي عاشتها المواطنة العراقية '' نادية مراد '' في ربيعها التاسع عشر وهي في قبضة مجموعة تنظيم الدولة الإسلامية، بعد أن احتلوا قريتها وقتلوا الرجال. حدث ذلك في 2014 م والعراق على حافة الانهيار، تحاصره جحافل التنظيم الإرهابي من كل جهة بحيث لم يتبق غير العاصمة بغداد وبعض الأقاليم تحت سيطرة الحكومة...عجزت السلطة على حماية مواطنيها القاطنين في المناطق الجبلية النائية وكان الهولوكوست.

لم يكن ما حدث لنادية مراد مجرد اختطاف، بل هو استرقاق ل 6500 امرأة وفتاة ايزيدية ومسيحية وإجبارهن على تغيير دينهن أو الرضا بحياة الذل والعبودية التي اختارها لهم أمراء تنظيم الدولة الإسلامية. هو نفسه المصير الذي ينتظرهن حتى لو قبلن بتغيير العقيدة، لقد أدركن ذلك من خلال المشاهدة اليومية لتلك الوحوش البشرية المبرمجة على صناعة الموت.

كان ذلك في صيف 2014م في إقليم سنجار المعروف بطبيعته الخلابة وبأهله المسالمين...و بعد مضي بضعة أشهر من الاعتقال والضرب والحرق بالسجائر والاغتصاب المتكرر والتنقل كجارية من سنجار إلى الموصل، تمكنت نادية مراد بصعوبة من الفرار إلى ألمانيا للاستشفاء، والاتصال بالعالم المتمدن الذي تمول سلطاته التنظيمات الإرهابية. أبلغتهم حقيقة ما يعيشه الأبرياء بسبب دعم حكوماتهم '' المتمدنة '' لذلك المشروع وتزكية جرائم المرتزقة .صوت نادية مراد كان رسالة إلى كل المنظمات الحقوقية والمثقفين عبر العالم ليبصروا بوضوح طبيعة من اختارتهم العديد من الحكومات الأوروبية، صاحبة الخطابات الناعمة، حلفاء لها ضد مؤسسات شرعية تصارع من اجل البقاء وضمان الكرامة لمواطنيها.

منحت لها جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الطبيب الكنغولي دنيس موكويغي في 2018 م، هذا كل ما استطاع المجتمع الدولي تقديمه...يعطي زهرة للسجين ..و يستمر في عقد صفقات تجارية وسياسية وتقديم التغطية الإعلامية للسجّان. ليست الفتاة الأولى في المنطقة الإسلامية التي تتحصل على نوبل للسلام، بل سبقتها الباكستانية ملالا يوسف زي في 2014 م التي وقفت بصمود في وجه طالبان مطالبة بحق الفتاة في التعليم والعيش الكريم بدل حياة الرق والإقصاء التي اختارها لها مناضلو الإسلام السياسي باسم تطبيق الشريعة والخلاص.

الجميع استقبل نادية مراد، مجلس الأمن، الكنيست الإسرائيلي، مشايخ الأزهر..والكثير من الهيئات الأوروبية الرسمية. ولكن لا احد يسأل عن السبب الذي جعل العديد من الأقليات الاثنية والدينية في العراق وسوريا ...تعيش مثل هاته المعاناة ولا احد يسأل عن مصادر قوة هذا الوحش وسرعة انتشاره.

إذا كانت نادية مراد أو ملالا يوسف زي قد استطاعت أن تسمع صوت المظلوم إلى المجتمع الدولي والتعريف بقضية المرأة في مجتمعات الذكورية، فماذا تخبئ لنا حناجر الألوف من الفتيات الأخريات ممن أجبرن على الزواج وهن قاصرات، أو ممن كن ضحية الختان بالشفرة، أو الحرمان من الميراث، وممن منعن من مواصلة الدراسة وبالخصوص في المناطق الجبلية أو الصحراوية النائية؟ إنها اكبر من أن تكون قضية امرأة أو أثنية عراقية، ولكنها تفكير وأسلوب في المعاملة مشترك بين كل بلدان الجغرافية الإسلامية، إنها واقع مجتمعات تجرّم المرأة فقط لأنها أنثى.

نعم، لقد استطاع كل من العراق وسوريا القضاء على فلول الإرهاب وتدمير قواعده بمساعدة قوى صديقة، ولكن الوحش الجاثم في عقول الملايين من المسلمين لا يزال حيا وموجودا ومؤثرا بشكل فعال في السلوك والاختيارات. الوحش الذي ترعرع بواسطة المؤسسات التربوية والإعلامية والتركيبة السوسيولوجية، يتم تقديمه- يوميا- من خلال الخطاب الرسمي مدسوسا في الطعام ليأكله الجميع ويشفى من مرض اسمه الحداثة والتنوير وترك التخلف والجهل.

إذا كانت نادية مراد قد استطاعت أن توصل صوت معاناة الايزيديات إلى العالم وتكشف حجم الجرائم التي يتعرض لها بعض العراقيين بسبب انتماءاتهم الاثنية أو الدينية، فان المئات من الناشطات الحقوقيات لا تزال خلف القضبان في سجون بعض الأنظمة العربية وعندما يسأل عن شانهن يكون الجواب دائما واحدا '' إنهن جاسوسات وأعداء الوطن ''. في الماضي القريب لم نكن نسمع عن مناضلات حقوقيات، بل كان الحديث عن مقاومات ضد الاحتلال في الجزائر وفلسطين ...اخترن الشهادة إلى جنب الرجال من اجل قضايا مقدسة....لقد وصلت البيئة العربية إلى حد لا يطاق من التعفن واللامعقولة الاجتماعية والتخلف.

إن محنة نادية مراد مع الوحش هي محنة إنسان، ظل يعاني ولمدة طويلة، من رؤية تعسفية ومعاملة قاسية واحتقار مؤسس، بسبب تمسكه بقناعاته ورؤيته المختلفة للكون والحياة...إنها محنة من صار ضحية مجتمعات لا تفقه حقيقة الاختلاف والتميّز وصناعة واقع جديد يضمن العيش للجميع.إنها محنة من يطالب بحقه في الحياة الحرة بعيدا عن كل أشكال الإقصاء والتجريم والتشويه. جريمتها أنها ليست مسلمة ولا تؤمن بمشروع الإسلام السياسي، جريمتها أنها أحبت أن تعيش عراقية قبل أي انتماء إيديولوجي . يردد أنصار المذهب الحنبلي قصة الإمام احمد ابن حنبل وسجنه وتعذيبه من قبل السلطة العباسية بسبب رفضه لنظرية خلق القرآن...ولكنهم يمارسون يوميا سياسة تلك السلطة ضد كل من لا يشاطر مشاريعهم.

 

نادية مراد هي صوت جماهير واسعة تريد أن يتغيّر واقعها، كل أملها في غد جديد يضمن لها العيش في كنف الحرية والحق، الحب والحوار، الاحترام وعشق الاختلاف...تريد مؤسسات حديثة بتشريعات تعبر فعليا عن واقع عربي تعددي، وسلطات تمتلك الشرعية، تكفل لها الحماية والعيش الكريم، دون أن تسألها عن قناعاتها الدينية .

يكلمنا التاريخ، أن الايزيديين شعب يقدس الجمال والطبيعة والألوان ويعتبر الطاووس ملاكا، فهم شعب لا يؤمن بالشيطان بل إن الشر في عقيدتهم نابع من ذات الإنسان، وبسبب تعرضّهم للعشرات من حملات الإبادة عبر التاريخ صار مجتمعا منغلقا على نفسه يخاف من العالم الخارجي وديانته غير تبشيرية، بحيث لا يقبل دخول الغريب بينهم. هذا لا يعني رفض العيش في وئام مع الأجنبي...فعلا لم يخطئوا التقدير، إن الشر نابع من إنسان مريض هو صناعة مؤسسات مهترئة قديمة وغير مسئولة. لم يخطئوا لان أناس جاءوا إليهم ليقتلوهم طلبا للخلاص والفوز بالجنة..جاءهم الشيطان مسرعا في زى ملاك والمؤسف انه شقيقهم في الوطن .

قصة هاته الفتاة هي قصة العشرات ممن كن ضحية التصورات الفاسدة، إنها قصة العرب والمسلمين في هذا الزمن الأسود ...لقد أظهرت محنة هاته الفتاة أن العرب والمسلمين- اليوم - ليسوا أفضل من غيرهم، بل هم اخطر امة على الإنسان والإنسانية ...مجتمعات لا يفوتها فرصة الاستهزاء بمحاكم التفتيش في أوروبا القرون الوسطى وتقتيل الهنود الحمر باسم الخلاص، ولكنها تتعاطف يوميا وبالتكبير أحيانا والصمت أحيانا أخرى مع قتلة الأبرياء باسم امتلاك الشرعية الدينية. إنها مجتمعات لم تتخلص بعد من قناعة المتاجرة بالبشر ولكن تعطيها مسميات عديدة، مجتمعات لا ترى في المرأة مواطنا وشريكا بل سلعة يمكن الاستفادة منها عند الضرورة.

كان نداءها إلى المجتمع الدولي يهدف إلى كشف حقيقة ما يخفيه العالم القديم الذي تعيش فيه ودعوة الأحرار من أبناء وطنها إلى المشاركة في صنع غد جديد...لأجل الإنسان مهما كان اسمه ودينه، لأجل الإنسان فقط. سافرت إلى العديد من بلدان العالم تحمل رسالة العراق التاريخي، عراق هارون الرشيد وشهرزاد، عراق ألف ليلة وليلة، عراق إبراهيم الموصلي وحمو رابي..عراق بابل والكتابة الأولى ...و ليس عراق الزرقاوي والبغدادي..

هنيئا لك نوبل للسلام وهنيئا للعراق بعد أن استرد سيادته على كامل ترابه. سيقولون أن الغرب منحك نوبل لأنه ضد الإسلام والمسلمين ويعمل على تمزيق الأمة الإسلامية بتأييده للأقليات ...قولي لهم أن '' بعض الغرب المتنور'' لم يقتل أخواني الستة ووالدتي بالتوحيد وبالتكبير، لأنهم رفضوا اعتناق ديانة جديدة . قولي لهم أن '' بعض الغرب المتنور'' يرى في شخصي مواطنة حرة من حقها أن تختار أسلوب العيش الذي تحب . قولي لهم أن '' بعض الغرب المتنور'' منحني الحماية والعزّة بعدما اختار أبناء جلدتي بيعي في سوق النخاسة عشرات المرات.

الغرب الذي تشتمون كل يوم، هو من صنعكم لخدمة مصالحه وجعلكم أدواته الطيّعة لتنفيذ ما أراد على الأرض التي تسمونها مباركة، وهو سيتخلى عنكم وعن من يمولون جنونكم فور انتهاء فترة الفائدة المرجوة. أخطأتم التقدير عندما ظننتم أنكم تحملون رسالة خلاص للمسلمين، بل انتم لا تختلفون عن أسراب الجراد وسيلتكم هي الدمار أينما حللتم. إن مشروعكم كان اكبر نقمة على المسلمين والعرب وبكم انتهت كل أمنية للخروج من عصر الظلام. كذبتم والكذب وسيلتكم لاستعطاف القلوب، عندما اخترتم أبناء جلدتكم وسيلة لتحرير غرائزكم الحيوانية وانتهاك حرمات الأبرياء والضعفاء باسم التوبة وفض المعاصي.تظنون أنكم صانعوا المستقبل، تبا لكم انتم من قضى على كل أمل كانت تنتظره الجماهير من اجل الخروج من مستنقع القرون الوسطى.

لن يذكركم التاريخ إلا كنقمة أحلت بالعرب والمسلمين، لقد جعلتم من العرب والمسلمين شعوبا منبوذة يحتقرها العالم ويسخر منها...بعدما كان المشرق والمغرب أرض أحلام واستلهام لمئات الكتاب والفنانين...الدين محبة قبل أن يكون طقوسا وشرائع، وانتم جعلتموه حقدا وفتن وشتات...عميت أبصاركم لأنكم لا تحبون رؤية جرائمكم وهي حال المعتوه عقليا في كل زمان.

إن ألم نادية مراد هو ألم المرأة التي ولدتكم وسميتموها ناقصة عقل وخجلتم من وجودها بينكم، لان في وجودها مرضكم المزمن.

 

نبيل دبابش - كاتب من الجزائر

 

في المثقف اليوم