قضايا

التشريح النفسي لمعلقة إمرؤ القيس!!(2)

صادق السامرائيالآليات السلوكية وأبجديات ما فينا:

 أولا: تذكر المتصوَّر من الذكرى

هذه الذكرى تتميز بالوضوح الصارخ في ذهنيتنا "...لم يعف رسمها"، إضافة إلى ما نمليه من وحي خيالنا وتصورنا على الذكرى المُستنهضة من أعماق الزمن الفائت.

وبهذا تتحول الأشياء إلى غير طبيعتها مدججة بقوة الخيال والتصور والخداعية

 "ترى بَعر الأرام في عرصاتها   وقيعانها كأنه حب فلفل"

 فيتحول بعر الأرام إلى حب فلفل.

وهذا تطرف في التصوير والتخيل والإنطلاق إلى رحاب بعيدة تماما عن الواقع المعاش.

"كأني غداة البين"

 يقول معبرا عن قدرة عيش لحظة الذكرى ووعي الحدث الذي يتذكره وفقا لما يراه ويتصوره. وبسبب هذا التذكر الحي الناشط الفعّال يوشك من الحزن أن يهلك ولا يتلطف على نفسه، بل يقسو عليها بأشد ما يمكنه من القسوة والجلد.

إن الشفاء من هذه الذكرى المتفجرة المشحونة بالعواطف والتصورات والخيالات والفنتازيا، يكاد يكون مستحيلا برغم وعي العقل والمنطق لعدم مصداقية الفعل والتفاعل معه.

 "وإن شفائي عبرة مهراقة .."

ومع ذلك فهو يعاتب نفسه ويناقض عقله الذي يقول:

" فهل عند رسم دارس من معول"

 أي أنه يقر بوجود العقل ورأيه وسببيته وتعليله، لكنه لا يتبع إقرار العقل وإنما مراد العاطفة والتوهم والتصور، المبني على ما يجيش في نفسه من رغبات مكبوتة.

ثانيا: الهروب من الواقع

وهذا نتاج الواقع الغير ممكن تغيره،  الواقع "التابو".

فلم يفكر الشخص بتغيير واقعه وكان يهرب منه إلى الخيال البعيد.

إن روح التغيير تكاد تكون مرفوضة ومن بنات المستحيلات.

فالواقع الأرضي لا يمكن تغييره بالجد والإجتهاد، وإنما السماء هي التي تغيره إن أمطرت أو أنكرت على الواقع شيئا من الماء.

فما كان الواقع مرهون بإرادة الشخص ولكنه مرهون بقوة المطر.

ولهذا لجأ الشخص إلى الأصنام وإلى الآلهة لكي يتوهم من خلالها بأنه سيفعل شيئا في واقعه. وتحوّلت قوة الآلهة إلى تعبيرات خيالية بعيدة عن الواقع المعاش،  أي أنها إكتسبت القدرة على إخراج الشخص من أزمة واقعه إلى حرية الخيال، والتحليق الرومانتيكي في فضاءات اليقظة الحالمة.

ثالثا: الركض وراء السراب والخوف من تحقيق الهدف

"كدأبك أم الحويرث قبلها  وجارتها أم الرباب بمأسل"

هنا تنكشف آلية في التفكير تشير إلى اللجوء إلى ما لا يمكن تحقيقه والحصول عليه والإبتعاد عن الذي يمكن تحقيقه.

ومن هنا فانه لا يريد فعل شيئ، بل يوهم الآخرين بأنه قادر على أن يفعل، لكنه لا يحقق ما يريد بسبب هذه وهذا من العثرات والموانع والمؤامرات وغيرها من المعوقات.

فيخرج من مفردات الممكن إلى مفردات المستحيل، فيبدأ بوصف الحالة على أنها شيئ لا يمكن للبشر أن يكون عليه.

وهذا المراد الصعب الذي يحلم بتحقيقه سيدفعه إلى البكاء الشديد والندب،  لأن ما يجيده في حقيقة الأمر، هو البكاء على الأطلال والندب وقد أقر في بداية المعلقة بذلك.

رابعا: الجنوح إلى الغرائبية والأسطورية

"ويوم عقرت للعذارى مطيتي"

تتكشف هنا إندفاعات العقل نحو الغرائبية، والتعبير عن سلوكيات غير مألوفة، لكي تمنح القائم بها خصوصية وتفردا لا يساويه فيه أحد.

ومن بعدها تطل علينا روح المغامرة في الشخصية ، وآليات تبرير المغامرة وتلوينها بقوة الخيال، وكأن الشخص ينتصر على واقعه بتجاهله والعيش في واقع لا يرتبط به تماما.

أي أن الإنقطاع عن الواقع القائم هو السمة البارزة في تحديد معالم الشخصية في هذا القول.

خامسا: إستلطاف دور الضحية

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل    وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي"

 وفيما بعده من أبيات،  يتحقق إقرار بإستلطاف دور الضحية في الشخصية،  فهو بعد المغامرة وتلوينها بكل تلك الصور الخيالية أو السرابية، تلذذ بدور الضحية وكأنه كان يطمح من مغامرته أن يكون ضحية.

ويأخذ بتسويغ هذا الدور وإيجاد المبررات التي يقنع بها نفسه.

وهذه الضحية تبحث عن اللذة،  أي أنها تقرن الألم باللذة، وهي تمضي إلى دور الضحية بمحض إختيارها وإصرارها وتعاني فيه، لكنها تتلذذ بإضطهاد جلادها لها أيضا، وهنا تبرز الجوانب الماسوشيستية في الشخصية،  فهذا الإيلام الذاتي من أجل اللذة يصل إلى حد مواجهة الموت.

ليس لكي يموت بل لكي يضع نفسه في أشد حالات الخطر، التي ستأتي بمردود إيجابي على مقدار اللذة التي سيحققها في لقائه مع مَن يريد أو تحقيق هدف ما.

أي أن تحقيق الهدف هنا يكون مقرونا بالألم والعناء والشقاء الإمتهان، حتى ليفقد الهدف قيمته بعد أن يتم الوصول إليه وتبرد نيران الإندفاع نحوه، ويتحول إلى عالم الكآبة والإنكسار والتوجع والبكاء من جديد، وكأنه يدور في حلقة مفرغة من الأوجاع المستحيلة الانقشاع.

وبعدها تبدأ تباريح الخيال والتحليق في سرابيات التصورات ونزع الأوصاف على الهدف، ويتم تحقيق الرغبة في الحلم اليقظوي، وليس في الواقع المرير القائم من حولنا.

أي أن حلم اليقظة قوي ومؤثر في التفكير، وأحد المكونات الأساسية لإرضاء الرغبات اللاشعورية، والحاجات النفسية المدوية في العمق البشري.

سادسا: الإنقلاب على الهدف ومعاداته

وهكذا يتحول الهدف إلى خصم لأنه قد أغدق عليه كل هذه الخيالات، فأوجعه بالخيبات وحوله إلى حالة بائسة متألمة متوجعة في بحر الحسرات.

إنه لا يريد أن يرى ما يريد عندما يفتح عينيه بل حينما يغمضهما.

وهذا اليأس والقهر والشلل يتأكد عندما ينتقل إلى وصف حالة الليل، التي ما عاد قادرا على إحتمالها وصار إحساسه بالزمن مشوها لشدة الرغبة وكثرة موانعها وصاداتها.

وليل كموج البحر أرخى سدوله               علي بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لما تمطى بصبحه                    وأردف إعجازا وناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي          بصبح وما الاصباح منك بأمثل

فيا لك من ليل كأن نجومه                    بكل مغار الفتل شدت بيذبل

كأن الثريا علقت في مصامها               بأمراس كتان إلى صم جندل

وفي هذه الأبيات تتجلى بوضوح محنة الشخصية،  إنها صنعت موقفا وركنت إليه بسبب مغامرتها وعدم تدبرها، وإهمالها لعقلها رغم وعيها لقيمته وسماعها لصوته، لكنها لا ترعوي، فاستهانت بالعقل و‘ندفعت نحو الوهم بكل تداعياته، ونحو الفنتازيا بكل أشكالها، حتى وصلت إلى حوض المحنة والعناء.

وهذا وصف دقيق لذروة التراجيديا في شخصيتنا فردية أم جماعية ، فالوصف ينطبق على حياتنا في الزمن المعاصر، وعلى مدى القرن العشرين وسنمضي هكذا في القرن الحادي والعشرين.

سابعا: الشعور بالذنب والنرجسية

بعد هذا العناء والمحنة التي لا يمكن الخروج منها من غير تضحية وألم،  وبرغم ما تكلفه من أوجاع أراد خروجا أو فكّر بمخرج من عظيم مأساته وخزين أساه،  فوجد نفسه موحشا في واد تعوي فيه الذئاب ويأخذ بمقارنة نفسه بها،  وكأنه يلوم نفسه على ما فعله وحرثه وأنجزه لأنه لم يورثه إلا الشقاء والهزال.

كلانا إذا ما نال شيئا أفاته            ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل

الذئب هنا رمز القوة والهجومية. فهو لا يتنازل عن كبريائه وسيادته وأنفته برغم ما ألم به من وعثاء العناء والقهر.

وكأنه يدخل في عالم آخر من السرابية والوهم ليبدأ بمدح نفسه وتجاوز واقعه الذي عاشه وتكلف منه ما تكلف.

إنه يرغب بوصف نفسه بما ليس فيها ويطرب للمديح ويعشقه عشقا مريضا حد الموت، وهذا جزء من فقدان الشعور بدور الفرد في الحياة وقيمة ما يقوم به.

فيتحول إلى فرد فاقد الشعور بالقيمة ويريد من الآخرين أن يسقونه كؤوس الإطراء والمديح، لكي تتأكد فرديته وتتحقق نرجسيته وقوته.

هكذا يعود شاعرنا إلى نفسه مداحا لها ومعبرا عن عطشه لهذه الحاجة العربية الغريبة.

وقد أغتدي والطير في وكناتها          بمنجرد قيد الأوابد هيكل

ثامنا: الندب والتفتت أمام صخرة الواقع

وتنتقل الشخصية إلى وصف عدتها وهو الحصان أو الفرس، وراحت تتعامل مع الواقع الذي تعيشه، وهي تلونه ببعض الخيال المرتبط به، وكأن الشخصية عادت إلى الأرض بعد أن طفح بها الخيال، وتغربت عن كيانها وتمادت في طيشها وعنائها لتعود إلى واقع واضح، فيه حصان يُسرج وصيد يُطارد وحاجات بشرية يومية لا بد من إرضائها، بعيدا عن أوهام الخيال وتجليات السراب.

عاد إلى الواقع الذي جزعه وحاول التخلص منه بالخيال والكثير من حلم اليقظة والشرود، هذا الواقع هو عبارة عن صراع عنيف بين الأرض القاحلة ومطاردة الصيد وأكل لحمه، والعناية بالفرس والتعامل معها كل يوم، وهذه حياة صعبة ومكلفة ولا يمكنه أن يشفى منها إلا بالخيال، وما فكر يوما بالتفاعل الخلاق من أجل تغييرها وتحويلها إلى وجود آخر مفيد للمجتمع الذي هو فيه.

- الخاتمة

إن أبيات المعلقة تكشف لنا عن آليات فعالة في تفكيرنا مفادها أن الفرد منا لا يواجه واقعه، ولا يبتكر الوسائل الكفيلة بتغييره، وإنما ينأى عنه ويخرج منه إلى آليات الخيال والحلم.

فلا يخطر على باله بأنه قادر على مواجهة وتغيير الواقع الذي هو فيه.

ومن هنا تجد أن الفرد منا يتجاوز واقعه ويجنح إلى الخيال البعيد، وكأنه مصاب بحالة شلل ومقعد، يريد من الآخر والقدر أن يغير الواقع الذي هو فيه، وهذا يحقق الإتكالية والقدرية والإنجماد.

إن وعي ملامح شخصيتنا وفهم الآليات التي تدفعنا للتفاعل مع بعضنا وواقعنا والآخر من حولنا يساهم في رسم طريقنا في الزمن المعاصر

وعندما جاء محمد(ص) برسالته وواجه الواقع القائم وأقر مؤمنا بتغييره. لاقى صعوبات جمة أخذت منه أكثر من ثلاثة عشر سنة، لكي يحول أنظارنا من الخيال وتجاهل المحيط الذي نحن فيه إلى الوقوف إزاءه ونقده ومراجعته وتغييره.

إن هذا الميل في الشخصية نحو تجاوز مفردات الواقع والسعي إلى نسيانها، وركنها في معزل عن فعل الإرادة والعقل، لا زال فاعلا في حياتنا اليومية المعاصرة.

فالموقف الإقصائي للواقع المعاش وعزله في صناديق اللاوعي لازال من الآليات الفعالة والمؤثرة، والتي ترسم خارطة حياتنا السياسية والإجتماعية عموما.

فعلاقتنا بالواقع الذي نعيشه علاقة إنقطاع وتثاقل وتوجع وضجر وتبرم.

فنحن لا ننفتح على محيطنا بإيجابية وإبداعية وإرادة واضحة التعبير وإيمان بالحياة الأفضل،  بل ندور في ذات الدوامة،  بين مطر وجفاف وصيد وغزو،  فما عرفنا التفاعل الإبداعي مع محيطنا.

وما تشكلت عندنا مكونات الجوهر الوطني، والإحساس بالإنتماء إلى الأرض التي نسميها وطن. فلم نفكر آنذاك في العمارة والإستقرار لغياب تلك القيمة، مما أضعف الإحساس بالوطنية فأثر في شخصيتنا وله نتائجه السلبية التي نحصدها، وهذا ربما يفسر بعض الإندفاعات التخريبية لدينا تحت آلية أنا أصون ملكي وأدمر ملك الآخرين.

 وهذا واضح في شخصية إمرؤ القيس،  فهو الملك الأمير والشاعر الذي يريد أن يدخل التأريخ بشعره ومغامراته ومواقفه الصعبة، التي تنتهي إلى تراجيديا الدمار والخراب حتى قضت به إلى الموت بلباس من الذهب معفرا بالسم.

إن المعلقة تشير إلى مفردات واضحة في شخصيتنا تجسدها شخصية هذا الشاعر الأمير، الذي هو سيد قومه ووارث أجداده والثائر لأبيه، وكأنه يريد أن يقول بأن ما نقوم به ما هو إلا نشاطات ترويحية أو تنفيسية لأحلام وتطلعات محبَطة، ومتكدسة في صدورنا لا نستطيع الإرتقاء إلى تنفيذها، فعلينا أن نسكر بلذة الإمساك بها في خيالنا وسلوكنا الخداع.

هذه رحلة مقتضبة في معلقة إمرؤ القيس، أرجو أن أكون قد وفقت من خلالها بمساهمة متواضعة لفهم آليات شخصيتنا، التي تتسبب في تحقيق سلوكنا الفردي والجماعي.

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم