قضايا

كيف زرع المتأسلمون بذور الإرهاب في سيناء أرض الفيروز (1)

محمود محمد عليما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي، بأن الإرهاب ظاهرة قديمة قدم التاريخ، وهي تتطور في الأسلوب والأهداف طبقاً للمرحلة الزمنية أو طبيعة القائمين بها، وهي تخبو أحياناً نتيجة متغيرات محددة، ثم سرعان ما تتصاعد بأشكال وأساليب مختلفة؛ حيث يشكل الإرهاب مظهرا من مظاهر العنف التي عرفها المجتمع الدولي منذ أمد بعيد، وتطور مع تطور المجتمعات والعلاقات الاجتماعية المختلفة فزادت خطورته من حيث حجم العمليات الإرهابية وأعداد الضحايا وأتساع نطاق العمليات وظهور أشكال جديدة منه باستخدام وسائل وأدوات التطور العلمي والتكنولوجي .

لقد أصبح الإرهاب من الظواهر التي تقلق المجتمع الدولي نظراً لما اتسم به من تنوع وتباين أشكاله وأساليبه وأغراضه وكذا ضحاياه، بالإضافة إلي استفادة العناصر الإرهابية من مختلف أشكال وأدوات التقدم العلمي والتكنولوجيا الحديثة، مما أدي إلي تزايد أعداد الجماعات والانتماءات والأفكار المتطرفة، فضلاً عن التحول النوعي للفكر الإرهابي من خلال ظهور كيانات إرهابية تستهدف إسقاط دول وأنظمة بعينها (تنظيم داعش)، ويترتب علي ارتكاب الأعمال الإرهابية نتائج خطيرة حيث أصبحت تمس المجتمعات وتستهدف كياناتها وبنيانها الأساسي ويمتد تأثيرها إلي كافة النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فضلاً عن اتساع نطاق تلك الأعمال لتتعدي الحدود الجغرافية للدول.

ورغم انتشار ظاهرة الإرهاب في مختلف المناطق علي مستوي العالم، إلا أن هناك ربطاً بين الإرهاب والحركات الإسلامية المتطرفة بصفة خاصة ارتكازاً علي أن نسبة كبيرة من محصلة الأعمال الإرهابية التي تشهدها البيئة الدولية تصدر عن تنظيمات وفصائل وجماعات تُنسب نفسها إلي الإسلام، وقد وجدت المنظمات والجماعات المتطرفة طريقها إلي مصر عبر شبه جزيرة سيناء في إطار المخططات الرامية لتقسيم المنطقة عبر تأجيج الصراعات الطائفية والايديولوجية والعرقية وبث الفتن والأكاذيب.

وهنا نتساءل : من زرع بزور الإرهاب في شبه جزيرة سيناء أو كما يطلق عليها أرض الفيروز؟ وكيف تطور فيها المشهد وصولاً حتي إعلان تنظيم داعش عن ولايته الخاصة في سيناء؟

وللإجابة علي ذلك نقول بأنه : في خمسينيات القرن الماضي لم تعرف سيناء التطرف الديني ؛ حيث طغت علي قبائلها النزعة الصوفية، تلك النزعة التي كان لها دوراً كبير، في حرب السويس 1956 ؛ حيث توطدت العلاقة بين الجيش المصري والمخابرات الحربية من ناحية،وبين صوفي سيناء من الفلسطينيين والمصريين علي حد سواء من ناحية أخري .

بيد أن الرياح أتت بما لا يشتهي السفن إذ وقعت شبه جزيرة سيناء كلها تحت طائلة الاحتلال الإسرائيلي، وذلك في الخامس من يونيو 1967، ولم تنسحب منها القوات الإسرائيلية إلا عام 1982 بموجب اتفاقية كامب ديفيد مع الاحتفاظ بشريط طابا الحدودي الذي تحرر بالكامل عام 1989 .

وخلال تلك الفترة استغلت الجماعة الإرهابية المتطرفة سيناء؛ حيث حولتها إلي منطلق لعملياتها مستغلة عزلتها وطبيعتها الجغرافية التي تضم من الجبال والكهوف ما يصعب السيطرة الأمنية عليها، كما استغلت الإهمال المائي الذي استمر بشدة بعد الانسحاب الإسرائيلي والحضور الأمني المحدود الذي فرضته جزئيا اتفاقية كامب ديفيد .

وقد ساعدهم علي ذلك تلك السياسة التي اتبعها الرئيس "محمد أنور السادات" بين عامي 1970، 1974 باحتضان الجماعات الدينية السياسية ودعمها في تعزيز وجودها؛ إذ منحهم "السادات" القدرة لتنظيم صفوفهم والتمدد؛ بهدف تقليص نفوذ الجماعات الاشتراكية اليسارية، وإثر إطلاقه صراح معظم السجناء الإسلاميين ؛ ومن بينهم سجناء الإخوان المسلمين بعد عام 1971، بدأت عدة مجموعات وخلايا من المقاتلين تنظم نفسها؛ ولا سيما الجماعات التي بدأت تعمل في سيناء، وذلك تحت مسميات متعددة مثل: حزب التحرير الإسلامي، وجماعة التكفير والهجرة، والناجون من النار،والجهاد، الجماعة الإسلامية ... الخ.

وكانت بداية الوجود الحقيقي للجماعات الدينية المسلحة في سيناء، كانت مع القيادي القسامي الإخواني "صلاح شحاته" والذي يلقب بأبو مصطفي الذي أسس في 1979 المسجد العباسي بالعريش في سيناء متأثرا بفكر الجماعة الإسلامية. أما الشخص الثاني المؤثر في تطور الجماعة وتمددها في سيناء كان تلميذ "صلاح شحاتة"، وهو القيادي الإخواني "عبد الرحمن الشوربجي"، الذي تحول فيما بعد إلي أبرز رموز الإخوان  المسلمين في العريش ونائب المدينة في برلمان مصر ما بعد ثورة يناير 2011.

وبحضور السنوات الأولي من ثمانينيات القرن المنصرم تحالفت الجماعة الإسلامية في مصر مع تنظيم الجهاد وأولي تجليات هذا التحالف كان في 1981، والذي أفرز اغتيال الرئيس السادات، خلال العرض العسكري الذي أقيم بمدينة نصر بالقاهرة في 6 أكتوبر 1981 احتفالاً بالانتصار الذي تحقق خلال حرب أكتوبر 1973، وقد نفذ عملية الاغتيال الملازم أول "خالد الإسلامبولي" الذي حكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص لاحقاً في أبريل 1982.

ومما زاد الأوضاع سوءً هو أنه عقب انسحاب إسرائيل من سيناء عام 1982 بدأ الرئيس "حسني مبارك" بسياسة تهميش للمنطقة، بحجة أن من أهلها من تواطئ مع الاحتلال الإسرائيلي الذي حاول استقطاب الكثير من أهل سيناء، وذلك من خلال تقديم بعض الخدمات الاجتماعية والسماح لهم بالعمل في إسرائيل . ولقد أدت نظرة الشك هذه إلي سلسلة من القرارات التي منعت السينويون من دخول الجيش والشرطة، وهو ما رماهم أكثر في أحضان الجماعات المتطرفة التي بدأت تتوفر لها كل العناصر باستغلال سكان تلك المنطقة، لا سيما وأن كل ذلك ترافق مع إهمال تنموي أعمق من باب سياسة العقاب نفسه، وما سهل عمل هذه الجماعات هو دخول الدعاية الإعلامية المكثفة للجماعات التكفيرية؛ خاصة في بداية التسعينات القرن الماضي، وهي الفترة التي برزت خلالها جماعة "الرايات السود"، وهي جماعة جهادية تتبني أفكار القاعدة، حيث بدأ نشاطها كحركة دعوية، ولكنها أعلنت عن وجودها العسكري بعد ثورة 25 يناير 2011 ليشهد عقد التسعينات (في القرن الماضي) مواجهات دامية في سيناء مع أجهزة الأمن حمل توقيعها العديد من الفصائل الإسلامية .

وفي عام 2000 خرج طبيب الأسنان المنتمي إلي قبيلة السواركة "خالد مساعد" الذي كان أحد خريجي جماعة الشبان المسلمين الإخوانية، حيث خرج من السجن وعاد إلي سيناء، ليؤسس "جماعة التوحيد والجهاد" التي تحمل أفكار تنظيم القاعدة.

وأما في عام 2005 فقد وقعت اعتداءات شرم الشيخ الشهيرة لتعلن حينها "جماعة التوحيد والجهاد" في أرض الكنانة المسؤولية عنها، وقُتل "خالد مساعد" في مواجهات مع الشرطة المصرية في أغسطس 2005، وفر كثيرا من أعضاء جماعته المفككة إلي رفح الفلسطينية، وذلك عقب التفجيرات الشهيرة في طابا ودهب وشرم الشيخ بين عامي 2004، 2006 ؛ حيث تلتها حملة اعتقالات شملت نحو أربعة آلاف وخمسمائة من أهالي سيناء.

بيد أنه في عام 2006 حاول أيمن الظواهري (زعيم تنظيم القاعدة خلفا لأسامة بن لادن) في إعادة لملمة ما تفكك من جماعة التوحيد والجهاد في سيناء، حيث أرسل "أبو جهاد المصري" الملقب بـ"خليل الحكايمة" العضو السابق للجماعة الإسلامية، ليعلن قيام ما يسمي بقاعدة الجهاد، وذلك في إصدار مرئي خاص قدمه الظواهري، وتحدث فيه الحكايمة، وهو التسجيل نفسه الذي أدان فيه الحكايمة اعتذار الجماعة الإسلامية عن مقتل السادات، لكن تجربة الحكايمة منيت بالفشل بسبب شدة الحملة الأمنية المصرية عليها .

وفي عام 2009 بدأت عودة الهاربين من أنصار الجهاد والتوحيد وغيرهم من المتشددين (وهم مخضرمون ومحملون بخبرات قتالية وأمنية متقدمة)، ومن هنا بدأ تكوين النواة الأولي لتنظيم مجلس شوري المجاهدين في أكناف بين المقدس، وبالتوازي مع نشأة الخلايا الأولي لجماعة أنصار بيت المقدس السينوية من بقايا التنظيم والجهاد.

ومع وصول الرئيس "محمد مرسي" للحكم ازدهرت حركة الجماعات الإرهابية في مصر عموما وفي سيناء علي الأخص؛ حيث تركزت معظم التنظيمات والبؤر الجهادية، وذلك بعدما تم الإفراج عن عددا من المسجونين علي ذمة قضايا متعلقة بالإرهاب والسماح للإرهابيين الآخرين بالعودة إلي مصر دون ملاحقتهم أمنيا، وعين "مرسي" السفير " محمد رفاعة الطهطاوي"، (وهو خال أيمن الظواهري) رئيساً لديوان رئيس الجمهورية، وكشف بعض الباحثين أن "مرسي" تدخل وأطلق صراح شقيق زعيم القاعدة الجهادي "محمد الظواهري"، الذي تم القبض عليه لا حقا في سيناء لتأسيسه مدارس شرعية وتعيينه قضاة شرعيين في سيناء . ومن أهم الدلالات هو إعلان مجلس شوري المجاهدين في أكناف بيت المقدس وجماعة انصار الجهاد في سيناء وتشكيل ما سمي بمجلس شوري المجاهدين في مصر، وذلك في الوقت نفسه الذي تولي فيه الرئيس "محمد مرسي" الحكم في يونيو 2012 كما تم قبيل تسلمه الحكم مبايعة أنصار جماعة الجهاد للظواهري ولتنظيم القاعدة بداية من العام 2012 . وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم