قضايا

الطابور الخامس ودوره في إفشال الإمبراطوريات والدول الوطنية (3)

محمود محمد علينعود هنا لنعرض الجزء الثالث من مقالنا عن الطابور الخامس ودوره في إفشال الامبراطوريات والدول الوطنية، حيث نقول: في أوائل بداية ثورات الربيع العربي جاءت وزيرة الخارجية الأمريكية "هيلاري كلينتون" Hillary Clinton، في عهد الرئيس "باراك أوباما"، لتعلن  في حفل تسليم جوائز المعهد الوطني الديمقراطي، الذي افتتح منذ 2010م فروعاً له في عدد من المدن العربية قالت بالحرف الواحد في كتابها خيارات صعبة "إن قادة المعهد كانوا يحولون الشتاء العربي إلى ربيع في الوقت الذي كانت الشوارع العربية هادئة وصامتة "، وأضافت " الربيع العربي ليس ثورتنا، ولكن كان لنا دور فيه" وتابعت تقول " لقد أنذرنا الحكومات العربية قبل حدوث الربيع العربي في مؤتمر الدول الثماني G8 الذي عقد في الدوحة أواخر عام 2010 م، بأن أسس المنطقة تغرق في الرمال، وأنه لا بد من الإصلاح والديمقراطية"، وتطرقت لمخاطر العملية" قائلة:" لا يمكننا تفويت فرصة الاستثمار في الديمقراطيات الناشئة في العالم العربي، رغم وجود مخاطر واحتمالات، لأن تحدث أمور صائبة أو خاطئة، والولايات المتحدة الأمريكية، لها مصلحة وطنية فعليه بتغيير الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لأن معادلة التطور، أو الاستقرار التي فرضتها الأنظمة الديكتاتورية، وقبلتها سابقاً الولايات المتحدة، تحولت اليوم إلى معادلة الإصلاح أو الاضطرابات".

ومنذ ذلك الوقت بدأ الحديث عن مفردة الربيع العربي تكون حديث الصباح والمساء في الدراسات والمقالات الأمريكية، حيث نشرت مؤسسة راند Rand البحثية التابعة للبنتاجون عام 2012م، "دراسة مكونة من "250 صفحة "تحت عنوان" آفاق الديمقراطية في العالم العربي "Prospects for democratic transformation in the Arab world، أعدها الباحث الأمريكي الشهير " لوريل ميللر " Laurel Miller و6 باحثين آخرين أكثرت من استعمال مفردة " الربيع العربي" وربطته بــ" التحولات الديمقراطية العالمية " وحللت الأسباب الأمريكية لدعمه".

في هذه الدراسة تم التعامل مع الحراك العربي منذ 2011 م، على أنه يمثل "عملية تشتمل على مجموعة من الأنشطة المتفاعلة أو المترابطة، التي تحول المدخلات إلي مخرجات". والعملية ترتبط بالضرورة بمشروع، وتشكل إحدى عملياته، فلها بداية ولها نهاية، ولها استراتيجيات، ولها أدوات وبرامج ومراحل، وأهداف وسياسات وجهات للتنسيق والتمويل وإدارة الموارد، ولا بد من مدخلات تفضي بعد توظيفها إلي مخرجات"، وذلك حسب ما ذكرة الأستاذ " محمد حسن الزين في كتابه " الربيع العربي آخر عمليات الشرق الأوسط الكبير"

أما مدخلات (Inputs) "الربيع العربي"، فهي وفق الآتي:

1- وضع التصور السياسي للمرحلة الانتقالية العربية وقد أنجز في 21/1/2010 قبل سنة من الثورات مع انتهاء معهد السلام الأمريكي من مشروع " دعم الأمن والديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير"، بمشاركة عدد من الخبراء العرب.

2- الانتهاء من تدريب آلاف الناشطين العرب، وتبليغهم في مؤتمر سري بقرب بدء المرحلة الانتقالية، وذلك في شهر سبتمبر من عام 2010م (قبل شهرين من الثورات).

3- تسخين الأرضية السياسية العربية، وتحضير مزاج الرأي العام العربي، لتقبل هذه العملية، من خلال نشر وثائق ويكيليكس  WikiLeaks، عن فساد ودكتاريورية الأنظمة العربية، وتم ذلك في شهر ديسمبر من عام 2010 م (قبل الثورات العربية بشهر).

4- دفع الناس والمعارضات العربية للنزول إلى الشوارع، لاحتلال الميادين العامة، وكان أول من تحرك في الشوارع العربية، القوي، والمنظمات الشبابية، والليبرالية المدربة أمريكياً، وتمت الاستفادة من حادثة إحراق الشاب "محمد البوعزيزي" في تونس (وهي ليست أول حادثة من نوعها، تتكرر شهرياً في تونس)، وحادثة ضرب الشاب "خالد سعيد" في مصر (وهي ليست أول حادثة من نوعها تتكرر شهرياً في مصر) وغيرها من الحوادث الرمزية.

5- بدء نزع الشرعية عن الأنظمة العربية، ودفع رؤساء وقادة النظم العربية، للتنحي وتسليم السلطة، عبر حياد الجيوش العربية والانشقاق الضمني، لبعض قادة أركان الجيوش العربية من جهة وبإيعاز أمريكي أكيد.

6- وقف العمل بقوانين الطوارئ، وحل وزارات الداخلية، والشرطة، وتسليم دفة الملف الأمني للجيوش.

7- تعيين مجالس الحكومة الانتقالية، لإدارة البلاد وتحضير المرحلة الانتقالية.

8- المباشرة بتغيير الدساتير العربية عبر المجالس التأسيسية .

وأما عن مخرجات العملية outputs " الربيع العربي:

أ- إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية وإفراز مجموعة من القوي الجديدة متحالفة مع الإدارة الأمريكية.

ب- تطبيق العدالة الانتقالية Transitional Justice في محاسبة قادة ورجالات الأنظمة السابقة، برفع دعاوي قضائية لإدانة وتجريم قادة ورموز المرحلة السابقة وتجريدهم من أموالهم.

ج- بدء الانتقال إلى منظومة إقليمية جديدة تضم نظماً عربية جديدة تتجاوز النظم السابقة شكلاً لا مضموناً، وتحافظ على المصالح الأمريكية والغربية والصهيونية.

وقد يتساءل البعض لماذا تعاملت الولايات المتحدة مع الربيع العربي على أنه يمثل عملية وليس ثورة؟، وذلك لعدة أسباب منها :

1- أن العملية تستبطن مشروعاً له استراتيجيات وأدوات تنفيذية.

2- تحضير مسرح الأحداث والأدوات التنفيذية لإنجاز العملية لخدمة المشروع.

3- إدارة العملية قبل وأثناء وبعد حدوثها مع قدر كبير من التحكم والسيطرة.

4- أن السياق الدلالي لمفردة " عملية" كشفت لنا بالأدلة والوثائق كيف أن الإدارة الأمريكية توقعت هذه الثورات وسعت لإدارة أدواتها على الأرض قبل حدوث العملية.

والسؤال الآن: كيف تم تجهيز الطابور الخامس لحروب الجيل الرابع في دول الربيع العربي؟

والإجابة علي هذا نقول مع الأستاذ عمرو عمار (صاحب كتاب الاحتلال المدني والمارينز الأمريكي): لقد اختلف المفهوم التقليدي للحرب من حرب عسكرية لغزو الأرض بالاحتلال العسكري إلي حرب اقتصادية لتدمير الاقتصاد القومي، ليتحول أخيراً إلي مفهوم جديد يسمي بالحرب الفكرية، وهي " حروب الجيل الرابع"، لتغيير العقول والقلوب للشعوب في سبيل الوصول إلي الاحتلال المدني بديلاً عن التدخل العسكري في الدول المستهدفة. وهنا تختلف طبيعة الأسلحة المستخدمة لطبيعة الحرب الفكرية، طبقاً لآليات ممنهجة لزعزعة الاستقرار، ثم الفوضى المنظمة، ومن ثم إفشال الدولة، وتستخدم هذه الآليات أفكاراً وشعارات رنانة، كالحرية، والعدالة، ومبادئ حقوق الإنسان، وكمثل التي تدعو للتحول السلمي إلي الديمقراطية، وتستخدم هنا مع الشعوب التي تعاني من عدم ممارسة الديمقراطية بمفهومها الحقيقي، وتعاني من كبت للحريات بمختلف درجاته، لترسم خارطة طريق لغزو هذه العقول (زلزال العقول)".

والمقصود بزلزلة العقول هنا، يعتمد علي فلسفة الرجوعية التي تدعو إلي تحرير الفرد من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والدينية، وبالتالي يعود الفرد إلي طبيعته بعد أن يتم تفريغه من المضمون الديني والوطني،" ليبدأ في الاندماج مع ما يسمي بالعالم الجديد، بعد تحريره من الماتريكس، أو المصفوفة التي كان يخضع لقوانينها ومعتقداتها، طبقاً لطبيعة المجتمع والبيئة المحيطة به، لينطلق من دون التقيد بالعقيدة والهوية، إلي عالم بلا حدود يغتصب فيها العقل ويتحول إلي عقل مفكر جديد، طبقاً لمنهجية وآليات ديناميكية محددة، تستخدم شعارات ومفردات لغوية براقة، مثل المدنية، والديمقراطية، والحرية وكلها ذخائر حروب الجيل الرابع، إلي أن تتم زلزلة هذه العقول واحتلالها "، وهناك نظريات ودراسات نشأت خصيصاً لخدمة زلزلة العقول من خلال  مشروعين: المشروع الأول:- الأول: مشروع النهضة عند جاسم سلطان، وهو مشروع يدعو إلي استنفار الشباب العربي نحو التظاهر والاحتجاجات والعصيان المدني. المشروع الثاني: أكاديمية التغيير القطرية،، وهي أكاديمية قام بتأسيسها " هشام مرسي"، زوج ابنة الشيخ "يوسف القرضاوي"، مفتي جماعة الإخوان المسلمين، ويأتي أهمية اختيار هشام مرسي، لكونه المنفذ لما ينظر له ويضعه جاسم سلطان، من خطوط فكرية ومنهج للتغيير والنهضة، وبذلك حدث الاندماج الفكري والأيديولوجي الإسلامي بين "هشام مرسي" وإدارته لأكاديمية التغيير من جهة، وبين المشروع النهضوي لجاسم سلطان من جهة أخري. وبذلك يمكننا رؤية أن مشروع النهضة يعتبر المنظر والمرجعية لأكاديمية التغيير، وكلاهما يكمل الآخر في مسيرة تحريك الشباب ودفعهم للتغيير والاحتجاج. وحيث يستلزم مشروع النهضة هذا قيادات مدربة، فقد أعلنت أكاديمية التغيير علي موقعها الإلكتروني، أن الأكاديمية تتبني وتدير نظام تدريب "أون لا ين" لبرنامج إعداد قادة النهضة، حيث يحاول كلا المشروعين تفتيت ثوابت الأنظمة العربية، ولعل أهمها نقده لما يسميه سلسلة الخديعات في الاستقرار، الثقة، الرموز، الصورة التاريخية، والتضحية، وهو ما يزيل لدينا علامات الاندهاش من كذب وتضليل جماعة الإخوان المسلمين في تصريحاتهم المشككة والمزيفة في كل وسائل الإعلام بعد أحداث 25 يناير 2011 كما قال الباحث "عمرو عمار" في كتابه " الاحتلال المدني".

انطلقت الأكاديمية في العمل من خلال شبكة الإنترنت، واستطاعت أن تؤسس لهذا العمل على مستويات عدة، حيث أنتجت خمسة مطبوعات متعلقة بحرب اللاعنف وهي: "حرب اللاعنف.. الخيار الثالث"، "حلقات العصيان المدني"، فضلاً عن الدراسات غير المطبوعة المقدمة إلى جامعات عربية وأوروبية، كما قدمت الأكاديمية العديد من الاستشارات للباحثين في هذا المجال، "وقامت عن طريق التدريب الإلكتروني بتدريب ما يزيد على الـ 500 متدرب من بلدان شتى على عدة دورات مثل "تكتيكات حرب اللاعنف" و"رسالة الإعلام المقاوم"، وبدأت في الاهتمام بتبسيط الأفكار ونشرها عبر الأفلام، فأنتجت فيلماً قصيراً بعنوان "الدروع الواقية من الخوف" بالإضافة إلى العديد من مختصرات الأفلام المعنية بنشر ثقافة التغيير".

وتقول في موقعها على "فيسبوك":" أنها قد استلهمت  أفكار وآراء "جين شارب" في حروب اللاعنف، وحاولت تطويرها، حيث تبنت أكاديمية التغيير نظريات "شارب" وتلميذه "بيتر اكرمان" في التغيير اللاعنفي، وأن هدفها "نشر ثقافة التغيير، وتوفير الأدوات اللازمة لإحداث الثورات، وتدريب كوادر مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والأفراد على استراتيجيات ووسائل التغيير، ولهذا انضم لها ثوار مصريون" .

كما وجدناها أكاديمية التغيير القطرية تركز أيضاً على" تعليم النشطاء المصريين والعرب، وسائل العصيان المدني، وأساليب جديدة للاحتجاج، ووضعت كتباً لتعليم النشطاء، إرشادات حول طرق حماية الشخص لنفسه، في مواجهة هجمات قوات الأمن أثناء المظاهرات، ووضعت كتباً لتعليم النشطاء إرشادات حول طرق حماية الشخص لنفسه في مواجهة هجمات قوات الأمن أثناء المظاهرات" .

ثم بدأوا ينشرون هذه الأفكار للتغيير ومواجهة قوات الأمن في المصانع، ثم بدأ تعليمهم كيفية استغلال الـ "فيسبوك" والإنترنت في التواصل بين النشطاء للتظاهر ونشر الأخبار التي يريدونها،" وكان لبعض النشطاء الذين شاركوا في هذا البرنامج دور في "ثورة 25 يناير" في مصر وبقية الثورات التي اجتاحت العالم العربي في كل من تونس، وسوريا، وكثير من الدول العربية".

وتعدد الأكاديمية عدة أهداف تقول أنها ترمي إليها:

1- نشر ثقافة التغيير ومنهجيات التفكير المتطورة واستراتيجيات التحول الحضاري.

2- توفير الأدوات العلمية المساهمة في إحداث ثورات حضارية في عالم الفعل الاجتماعي والسياسي.

3- تدريب كوادر مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والأفراد على استراتيجيات ووسائل التغيير.

4- تقديم الاستشارات للحكومات والمؤسسات والأحزاب والأفراد التي تسعى لتنمية مجتمعاتها.

5- أن إنتاجها الأكاديمي مبنى على أدبيات اللاعنف، والنضال السلمى والاحتجاج الشعبى، وترتكز على ما تسميه "ثورة العقول، أدوات التغيير، استشراف المستقبل".

من هنا يتضح لنا أن " أكاديمية التغيير القطرية"، تمثل الحربة التي استخدمتها قطر لتدمير الشعوب العربية، وذلك حين تدرب من خلالها آلاف الشباب العرب، خاصة من مصر وتونس على "حرب اللاعنف واصطياد رجال الأمن لإسقاط الأنظمة العربية"، وأصدرت العديد من الكتب والمطبوعات حول علوم وفنون صراع اللاعنف باللغة العربية، وعملت الأكاديمية على تهيئة وتدريب ما سمته "حركات التغيير" في مصر، وتونس، وليبيا، وسوريا، وبدأت في طرح برامج تستهدف الجاليات العربية في أوروبا وأمريكا، بهدف تفعيل دورهم من أجل ضمان استمرار الضغط الدولي على الحكومات العربية، لتبدأ التغيير الفوري والاستجابة لمطالب الشعوب العربية بزعم الحرية والديمقراطية. ولاشك في أن التغيير المزعوم الذي أرادته قطر كان كفيلاً بأن يدهس كل شيء ويلقي بالمنطقة، لولا عناية الله ويقظة معظم أبنائها، في أتون المجهول.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم