قضايا

القيم الرُوحيّة.. نقد العنوان ونقض الموضوع

مجدي ابراهيمجُزافاً أحياناً يختارون عناوين موضوعات بحثيّة ليُلقوها إلى طلاّب الدراسات العليا غير مبالين بنقد ذوي الاختصاص، وما دام الأمر موكولاً إلى غير أهله، فالوجود والعدم سيّان، والحق والباطل لا يفترقان، والصحيح والزائف مقترنان : عملة رائجة يسيغها المزيفون من ذوي الأمراض العقلية والنفسيّة بل والخُلقيّة كذلك، لا لشيء إلا لأنهم أساتذة، ويجوز للأستاذ - في عرفهم - أن يضرب بسهم في كل ميدان! مع أنه ليس بمتخصّص، ولا عرف أسرار ذلك العلم الذي يتكلم عنه، ربما يكون قد حصّل منه بعض القشور القاحلة، ولكنه لم يكتب فيه إلا الحروف الواهية من حيث لا تؤهله لأن يحكم على تفاصيله الحكم السديد المسؤول.

إنه، إذا غابت فينا القيم النبيلة - ومن العجب العاجب أن أكثرها يغيب بين النبلاء ناهيك عن الحقراء، إذ ماذا عساك تراها تكون؟! - فلن تقوم بيننا حياة منتجة تستحق نظر التاريخ أو نظر المنصف الحصيف، لأن غيبة القيم في الواقع معناه غيبتها في القلوب والعقول. وتحت هذه الغيبة تصدر الأحكام مجرد مجاملات بهلوانية لا تنتسب إلى العلم قدر انتسابها إلى عادات خربة عرفتها المجتمعات البدائية المتخلفة، ولم تستطع أن تتخلّص منها لا في ماضي الناس البعيد، ولا في الحاضر المنحوس المنكوس.

هل يصلح هذا العنوان أن يكون موضوعاً لرسالة علمية، كيف وبداياته كلها تنقض العلم وتهدم السبيل إليه من الوجهة المنهجيّة، فالذي يكتب عن القيم الروحيّة مطلق القيم ومطلق الروح، لا يفرّق بين التخصص والشمول، ولا بين الرسالة العلميّة والكتاب الذي يتناول في المجمل هذه القيم، ولا بين الخاص الممنهج والعام الشامل المطلق.

لو كان الأمر بيدي أنا شخصياً لكنت مقترحاً أن تخصص كل جامعة لجنة من أساتذة متخصصين أمناء؛ لنقد الرسائل العلمية حتى بعد مناقشتها، وتكون هذه اللجنة شبه دائمة تكتب تقريرها سريّاً غير معلن وترفعه إلى الوزير مباشرة، ليتخذ هو موقفه بين من يتقدّمون للجنة العلميّة المختصة كيما لا تكون الدرجات العلمية نتيجة حصيلة زائفة من أوراق مجمّعة لا طائل من ورائها ولا فائدة.

القيم الروحيّة موضوع مفتوح عام غير محدود، لا يصلح أن يكون بحث ماجستير أو دكتوراه، ويفتقر إلى المنهجيّة التي توظف دلالاته وأبعاده، وتقف القارئ على رؤية الباحث فيما يرى، ولكن يصلح أن يكون كتاباً؛ لأنه عام لا خاص.

وما يُقال عن القيم الروحيّة، يقال في الوقت نفسه عما يضاف إليها يأتي بعدها وينعطف عليها، ولتكن القيم الجمالية، فهذه القيم الجمالية إذا هى أضيفت إلى القيم الروحية لم تعد ذات حصيلة ذوقية يفهم منها القصد المجرّد الذي يفيد الإضافة بل صارت إذ ذاك مجرد تحصيل حاصل مقدّمة منطقية تضاف إلى مقدّمة ولا تسفر في النهاية عن نتيجة يُستخلص منها دلالة مفهومة أو معقولة حتى إذا ذكرت الجماليّة كقيم تضاف إلى الروحيّة وتنعطف عليها، فليس أبخس ولا أبعد عن الإنصاف من ذكر الجمال دون الجلال، وبخاصّة إذا تعلق الأمر بعلوم الأذواق والبحث فيها بما يناسبها من منهجيّة وتحقيق.

فما يُقال عن القيم الجمالية يقالُ من حيث العنوان عن القيم الجلاليّة، فلا يمكن فصل الجلال عن الجمال في الفلسفة الصوفية، لأنها تجليات لا ينفصل بعضها عن بعض، وبالتالي ففكرة عزل القيم مستبعدة تماماً عن واقعها الفعلي، والملاحظ أن ليس لها وجود في العنوان، ولن يكون لها وجود في المضمون الذي يشمله ويقوم عليه.

هذا أولاً .. أمّا ثانياً فهب أنك أضفت شخصيات صوفية تتحدد بها تلك القيم كان تقول مثلاً القيم الروحية عند فلان وفلان أو بين فلان وفلان وليكن مثلا النفري (354ه-) من علماء القرن الرابع وابن عطاء من علماء القرن السابع، فليس هدا بمقياس يقام عليه نظر البحث السديد فلا النّفري ولا ابن عطاء ممّن يقال عنهم فلاسفة صوفيين، فالنفري صاحب تجربة روحيّة غزيرة لا علاقة بها بالتصوف الفلسفي، يعني لا علاقة لها بالنظريّة، وإنما لها كل العلاقة بالحالة، بل اتجاهه سُنيّ محافظ معتدل، والدليل أن كتابه (المنازل) مشروح من قبل ابن القيم في (المدارج) ولو ظهر عنده أدنى اتجاه فلسفي لما قام ابن القيم بشرح أعماله، وهو وأستاذه ابن تيمية من أعدى أعداء الصوفية الفلاسفة، فكيف يُقال عن تجربة النفري فلسفة صوفية .. هذا خلط غريب يدلُ على جهل وتخبّط.

ثم أن يقال أيضاً عن تصوف ابن عطاء الله السّكندري أنه فلسفي، قول ينقض ظاهره باطنه، ويهدم أوله آخره، فابن عطا الله صوفيُّ شاذليُّ سُنيُّ لا صلة له بالنزعات الفلسفية الصوفية من قريب أو من بعيد، وأي محاولة تضيفه إلى الصوفيّة الفلاسفة محاولة محكوم عليها بالفشل الذريع والعوار العلمي.

وإذا كانت الدراسة في الغالب تدعى أنها دراسة مقارنة، فمعلوم أن المقارنة كمنهج تقوم بين فكرتين مختلفتين لا يجمعهما سياق متصل حتى تتاح للباحث المقارنة، وإلا فكيف يمكن أن تكون الدراسة مقارنة وهناك اتفاق بين الشخصيتين في التوجه والاتجاه، وفي التصنيف كذلك، أي من حيث انتمائهما إلى التصوف السّني. ناهيك عن عموم العنوان الذي ليس فيه أي بعد صوفي على الإطلاق يضيف تنوعاً معرفياً ذا قيمة يذكرها الدراسون فيما بعد.

ثم إن هناك نقطة يجدر الالتفات إليها من الوهلة الأولى خاصة بتوثيق المصادر، فلابد لنا على البداهة من التفرقة بين المصادر من حيث كونها تمثّل الأسس القديمة التي تعتمد عليها الدراسة وتمسُّ مباشرة طبيعة الموضوع المدروس تأصيلاً وتأسيساً هذا من ناحية، وبين المراجع من حيث إنها إسهامات حديثة من الدراسات التي تضاف إلى تلك الأسس القديمة تحللها وتنقدها وتبدي فيها وجهات النظر المختلفة على اختلاف المناهج المتباينة.

فإذا كانت المصادر قديمة فالمراجع حديثة، ولا يمكن أن يكون المرجع من الحداثة إلا إذا تفرّد صاحبه بجديد في موضوعه من حيث إنه يضيف جديداً رؤية ومنهجاً وربما نظراً لتناوله الموضوع بهذا الشرط يعدُّ من هذه الجهة داخلاً في المصادر.

وحيث عرضتُ هذا الموضوع للطرح والمناقشة وجدتُ من الأفاضل الكرام تعليقات تثري الحوار وتفتح أبواب النقاش المفيد ومنها تعليق الدكتور صابر عليّ حيث يقول :

(نعم أستاذنا، وبما أن عالمية القرآن تقضي بانفتاح القيم الروحيّة، فهي لا تسعها ماجستير ولا دكتوراه؛ فالقيم الروحيّة المتأصلة بالكتاب والسّنة لا حدود لها؛ لأن هذه القيم الروحيّة هى كلمات الله).

ولا شك أن تلميذنا الدكتور صابر يعوّل كثيراً على حضور هذه القيم في المصدرين الكبيرين للإسلام : القرآن الكريم وسنة رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، وحيث إن هذه القيم متسعة زاخرة في الدين الاسلامي فلا شئ يمنع حضورها الفاعل سوى الجحود. وحيث يكون هذا هو شأنها فلا يمكن أن تضيق تحت منظار الباحثين لتكون موضع بحوثهم فيما يبحثون لكأنهم يستغرقون الوقت فيما هو ظاهر حاضر واضح لبصر الشاهد العيان.

ثم جاء تعليق الدكتور أبو النور حمدي الشريف ليقول :

(القيم الروحيّة تجربة معاشة، ومن يعيش هذه التجربة غير مسموح له بالإفصاح عنها؛ لأنه لو أفصح عنها لزالت عنه فهي أمرٌ بين الصوفي وربّه. والقيم الروحيّة لا يستطيع الوصول إليها إلا من خلع عن نفسه رداء الدنيا واكتسى برداء الآخرة).

ولم يكن تعقيب الدكتور أبو النور الشريف بالذي يحصر منظومة القيم الروحيّة في غير منطقتها التي تصدر عنها أو منها. إنها فوق كونها عامة مطلقة فهي كذلك لها منطقتها التي تصدر عنها فتجعل كل ناظر يعوّل عليها تعويل النظر إلى الأصول المتجذرة الباطنة في الوعي العالي لا الوعي العادي، وإذا اتصل الأمر بالوعي العالي فهو خاص إلى أبعد الخصوصيّة عام كذلك في البذرة الإنسانية.

أما تعليق الأخ الأستاذ الدكتور مهدي عبد الله فيقول :

(أستاذنا الأديب الأريب سعادة أ.د مجدي بك إبراهيم يحفظكم الله : وماذا عن القيم التربوية؟ هل ما ينطبق على القيم الروحيّة ينطبق على القيم التربوية بخصوص ما ذكرت؟ بارك الله فيكم أستاذنا).

والحق أن هذا التعليق فتح موضوعاً ذا شعب وزاويا متعددة الأمر الذي جعلني أتناوله بطريقة أخرى تصل القيم التربوية مباشرة بالقيم الروحية، فسعادة الأستاذ الدكتور الحبيب مهدي، يعلم تماماً أن القيم التربوبية الصحيحة لا تنفصل عن القيم الروحيّة، وأن صحيح التربية غير معزول بالمرة عن عطايا الروح بل هى داعمة له بكل الوجوه. ولم تكن التربية الإسلامية في أول ظهور الإسلام تخلو من تأديب النفس وتصفية الروح وتثقيف العقل وتقوية الجسم، فهي ولا شك تعني العناية البالغة بالتربية الدينيّة والخُلقية والعلميّة والجسمية من غير أن يكون هناك تضحية بجانب منها على حساب الجانب الآخر، ألم يفتدي النبي صلوات الله وسلامه عليه أسرى بدر بتعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، ألم تكن من وصايا عمر بن الخطاب أن يعلّم المسلمون أبناءهم السباحة والرماية؟

وإنمّا ذكرت كلمة (صحيح التربية) لأننا نعلم كما يعلم سيادته أن الغزالي والقابسي وغيرهما ممّن أخذوا نشاطهم التربوي وكتاباتهم العلميّة والتعلمية في هذا الميدان، كانوا يعتمدون بالمباشرة على توجّهات روحيّة؛ لتكون تأسيساً تربوياً خاصّة فيما يتّصل منها بالتعليم كما فعل القابسي المتوفى سنة 403 هجرية، 1112ميلادية، ومن بعده الغزالي المتوفى سنة 505 هجرية، صاحب الإحياء.

فالتعليم يقوم على الإرادة، والأخلاق تقوم على الإرادة. ولن تتأتى الإرادة إلا بتغذية الفاعل (الإنسان أو المتعلم) بالقيم الروحيّة. لقد كانت هنالك قبل ظهور الإسلام أنواع ثلاثة من التربية تتنازع السيادة في الشرق الأوسط : الأولى التربية الفارسية، والثانية التربية الإغريقية، والثالثة التربية المسيحية، وكان لكل نوع منها طابع خاص يميزها ويعتمد على روح الفلسفة الممثلة لكل منها.

على أننا لا نجهل أن الإسلام بعد انتشاره في الأمصار المختلفة قد اتسع لأدب الفرس وفلسفة اليونان وأنظمة الروم ورهبنة المسيحية، وهو مع ذلك ظل أقوى من تلك الثقافات جميعاً متغلباً عليها جميعاً بماذا؟ بقيمه الروحيّة الباقية المستمدة من فلسفته القائمة من كتابه المؤسس، القرآن الكريم وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، حتى ليصح القول : بأن التربية الإسلامية برزت على ما عداها، وأصبحت ذات خصائص واضحة المعالم بارزة السّمات، لأنها تأسست على قيم الوحي العليا، ولم تكن مؤسسة على نظرات خارجة عن المضمون الديني الإسلامي.

وإذا كانت التربية تتأسس على الفعل العملي التطبيقي بحيث يكون لها ثمرة واضحة في الفرد وفي المجموع على السواء، فليس أفعل فيها ولا أقدر من قيم الروح الباقية التي من شأنها أن تصل العمل بالمصير، وأن تربط الحاضر بالغاية البعيدة، وأن تنشد الإخلاص مع وحدة القصد.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم