قضايا

وَحْدَةُ القَصْد.. مَفْهُوم ضد النَّظَريَّة

مجدي ابراهيمكما كان يقول الشاعر الصوفي الفارسي العظيم "جلال الدين الرومي" (604 ـ 672 هـ) :" أرقص يرقص معك الكون كله"، فكذلك الكاتب في حقل التصوف خاصَّة، أظنه يكتب فيكتب معه الكون كله؛ على معنى أنْ يغيب عن الوعي العادي ليتوحَّد مع الوعي العالي، مع الكون بل مع خالق الكون كله : يفنى عن الوجود المحدود؛ ليبقى مع الوجود المطلق في وحدة قصد، وهو حين يعود، يعود ومعه "وعي مجمل" آخر، يدفعه إلى التراقص بالكلمات في نشوة عجيبة غريبة فعالة يَضُمُّها إحساس عالي بالتوحّد مع الكون ومع خالق الكون.

الكتابة كالرقص كلاهما انتشاء روحي مُطرب مُجَرَّد عن أية لواحق مادية؛ فكما أنك لا تستطيع أن تصل إلى فنية الرقص ما لم تجرّده عن لواحقه المادية الجسدية من إثارة الغرائز ونحوها، كذلك لا تستطيع أن تصل إلى فنية الكتابة ما لم يتملكك إحساس مُنَشَّىَ بعبق الروح مُجَرَّداً عن الغايات الترابية.

الرقص يُخْضعُ البَدنَ لنشوة الروح ويُجَرّده ليَكون طوعاً لها، والكتابة عمل باطني محض يصل الكاتب فيه مع فكرته إلى الغيبوبة لتحل النشوة في باطنه. وبشروق لحظات الوعي في أغوار الباطن العميق السحيق، يظل صاحبنا يتراقص بالكلمات ويتنَشَّىَ طرباً بوقع المعنى خلفه من جرس اللفظ وجزالته وفي سحره وسلاسته ممّا قد يتجلى (مجملاً) عليه من حقائق .. وبعد الوعي يكون البيان.

نعم! بعد "الوعي يكون البيان"، هكذا قال ابن عطاء الله السَّكندري:" الحقائق تَردُ في حال التجلي "مجْمَلة" وبعد الوعي يكون البيان"؛ فكما أن المعارف والعلوم اللَّدُنيَّة تَرد على العارفين "مجملة" لا يتبيَّن لهم فيها معان تدركها أذهانهم لشدة التجلي وعِظَم الوارد على قلوبهم، ثم بعد غياب هذا التجلي وزوال الوارد يكون البيان؛ أي بعد الوعي يجيء البيان؛ ليتصرَّف العقل الواعي في المعنى المقصود ممّا قد ورد، ومما قد تجلى. ولا بيان إذن في حال التجلي ولا مع الغيبة؛ لعِظم الوارد؛ فكما يحدث هذا بالنسبة للعارف؛ فكذلك يحدث للكاتب تتجلى عليه "الفكرة" في حال أشبه بغيبة الفناء الصوفي ثم بعد الوعي يكون العقل هو المتصرف فيها. ومن هنا كان وعي الصوفي "وعياً عالياً" وليس هو "بالوعي العادي" : الوعي العادي عقل محدود لا يدرك إلا محدوداً. والوعي العالي غيبة وشهود وتجليات بعيدة عن إدراك العقول المحدودة. ولهذا جاز أن يسمى "بالوعي المجمل".

ولكن هذا الوعي المجمل ليس وعياً عادياً بل هو فوق طور العقل العادي، وفوق طور المحدود ممّا ينال بالحس أو بالتجربة الحسيّة. غير أنه وعي يفترق عن الوعي العادي المعروف بالعقل، وبحدود ما يدركه العقل لا لشيء إلا لأنه وعي التجربة الروحية.

وأكثر أفكار العارفين؛ أعني أقوالهم وعباراتهم وإشاراتهم التي يستغربها العقل العادي ثم يُصدم منها للوهلة الأولى، خَرَجَتْ من تلك المنطقة : تجليات عن شهود يتلقونها إلقاءً في حال تجلي الواردات عليهم (جَمْعَاً) وبعد الوعي، أي بعد اليقظة والصحو والتفرقة، يكون بيانها من طريق العقل الواعي تأملاً وتذكاراً لما كان قد أُلقي في رَوْعهم ممّا قد وَرَدَ وممّا قد تجلى.

*     *     *

إذا أردنا أن نجري مجرى الشرح لوحدة القصد فيما لو تمثلت خلال ما كان يذكره الإمام أبو الحسن الشاذلي وخلال إشاراته العميقة في توخي الطريقة، سلوكاً ومعرفة ونظراً وتحقيقاً؛ إذ كان يذكر :" طريق القصد إلى الله أربعة أشياء : من حازها فهو من الصديقين المحققين، ومن حاز منها ثلاثـة فهـو من الأولياء المقربين. ومن حاز منها اثنين فهو من الشهداء الموقنين، ومن حاز واحداً منها كان من عباد الله الصالحين :

أولها الذكر، وبساطه العمل الصالح، وثمرته النور.

والثاني : الفكر، وبساطه الصـبر، وثمرتـه العلم.

والثالث : الفـقـر وبسـاطه الشـكر، وثمـرته المزيــدُ منــه.

والرابـع : الحـب، وبساطه بغض الدنيا وأهلها، وثمرته الوصل بالمحبوب".

أقول إذا نحن أردنا أن نجري قصد الوحدة شرحاً لها على هذا المعنى، كان لا مناص لنا من أن نشير قبل التنويه إلى أهمية الموضوع الذي نحن في معيته، إلى تقسيمه خلال إشارات الإمام أبى الحسن الشاذلي - طَيَّبَ الله ثراه - فالسلوك يَتَمَثَّل في الذكر، وبساطه العمل الصالح؛ إذْ العمل الصالح هو السلوك الذي لو دام بالقطع لأثمر النور؛ وهذا هو أصل الطريق ينبغي أن يتأسس على الذكر كيما يمضي بالمرء إلى العمل الصالح؛ ليكون هو نفسه البساط الذي يثمر النور. والذكر موضوع القصد الأول من هذا من الوحدة. ثم يأتي الفكر لتنبثُّ المعرفة الإلهية في ضمير العارف من طريق الفكر؛ والفكر بساطه الصبر وثمرته العلم.

فهاهنا ركائز المعرفة الإلهية مرتكنة بالأساس على الفكر ويلزم للفكر الصبر كيما يكون هو بساط المرحلة العليا من هذا السلوك ثم لا بد من أن يصحب الفكر التأمل، ويحتاج التأمل إلى صبر واعتياد. والثمرة من هذا كله هو العلم؛ فلدينا ثلاث ركائز رئيسية أولها الفكر. وثانيها الصبر. وثالثها العلم. وكل ركيزة من هذه الركائز الثلاث يلزمها بساط؛ أي طريق يمشي فيه السالك، فإذا وصل إلى الغاية يلزم أن يكون وصوله شرارة تلتمس فيها المعرفة الإلهية. والفكر موضوع القصد الثاني من الوحدة.

ثم نلتفت فإذا الإشارة تعطينا الدلالة على الفقر الذي بساطه الشكر وثمرته المزيد منه. وأقربُ شيء في الدلالة على الفقر من هذه الإشارة هو النظر الباطن إلى الحياة الدنيا؛ فالفقر بمعنى الافتقار إلى الله تعالى لا بمعنى خلو الأيدي من الأملاك إنمّا هو نظر المرء الدائم في أمور الدنيا وما ستؤول إليه؛ فإنَّ نَظَرَهُ الدائم إنْ هو إلا فكرة تقوده إلى التحقيق. ومن هنا فقد أشار الإمام إليه بالفقر الذي يكون بساطه فيما لو تمكن من صاحبه هو الشكر، وكلما زاد النظر زَاَدَ التحقق وزادت الثمرة : مزيدٌ من الفقر ومزيد من الشكر على السواء، والفقر كونه نظراً باطناً إلى الحياة الدنيا هو موضوع القصد الثالث من الوحدة.

وَيَجيءٌ موضوع القصد الرابع " في الحب " حتى إذا ما رُزُقَ العارف "المحبة" فقد رُزُق التحقيق من أقرب طريق؛ وللحب بساط يمشي فيه السَّالكون وهو حقيقة من الأحوال العالية، وبساطه بغض الدنيا وبغض أهلها، ومحبة الآخرة وما يُقَرّب إليها من قول ومن عمل، وثمرة هذا الحب الوصل بالمحبوب، يعني السعادة التي يتطلع إليها المجاهدون والمتبتلون والظامئون إلى أشواق اللقاء.

هؤلاء الذين عرفوا الله فقادتهم المعرفة إلى تحقيق التوحيد أولاً في ذواتهم التي لم تنقسم ولم تَتَفَرَّق. مَارَسُوه تجربة وحياة فعرفوه بعد الممارسة وبعد الحياة لا قولاً بَرَّانيَّاً جَافاً عرفوه بل حياةُ تُمَارس وتجربة تتحقق.

لقد تكلم الفلاسفة وكبار النُّظَّار في الوحدة الإلهية، ولم نستطع أن نفهم منهم على وجه الدقة : ماذا عَسَاهم يريدون بكل هذا التراث الذي يَكَادُ أن يكون مهجوراً؟!

تركوه لنا لندرسه ونحققه ثم لا يَلْبَث أن يَتَلاشى من عقولنا وأفئدتنا، لكأننا ما دَرَسْنا ولا تعلمنا منه شيئاً، كل ما هناك أن نأخذ من خلاله الشهادات العلمية والدرجات البَرَّاقة العليا كيما نصبح في مجال العلم من النوَابه المتفوقين، ومن المفكرين المُنَظّرين، ولكن دون جدوى نعيش خنازير ونموت خنازير! لأننا لم نكتشف بعد حقيقتنا الأصليّة، ولم نتوحَّد مع معارفنا النظرية بحيث تكون سلوكاً لنا نعيشه حياة فنتملاه.

لم نكن إلا ببغاوات آدمية تردد على التقليد ما تقرأه وتحفظه بغير أن يسري المقروء والمحفوظ في الضمائر فينا وفي القلوب، وبغير أن نعرف أن الكلمة نقولها - فيما لو كانت حقيقة لا دعوى - إنْ هى حال صاحبها ولا تزيد، وأننا لازلنا حتى اليوم مع كل ما نقوله أو نكتبه نَتَجَرَّع غُصَص المرارة التي يفترق فيها السلوك عن الاعتقاد، أو الخطاب الأيديولوجي عن الممارسة العمليّة، أو التصور الذهني عن الدلالة الواقعية، أو المقولة عن التجربة.

لم نتَشرَّب هذه التجربة الروحية ولم نتذوق قطرة من عبابها الفياض بلوعة المعاناة، ولم نكن من أهلها القادرين عليها في كل حال والصادقين في ولوجها تحققاً بما فيها من مفعول الوعي ومفعول السلوك. لم نمشْ مشيهم في طريق الله، ولا حذونا حذوهم اتصالاً بهذا الطريق، ولم نعرف "وحدة القصد" إليه إلا بالنظر نستقيه من الكتب والمصنفات لا من واقع التجربة الروحية الحَيَّة أو واقع الذات العارفة خبرةً وتحققاً.

فنحن من أجل ذلك؛ أجهل في هذا الطريق من دواب، تلك هى الحقيقة التي ينبغي أن نسطرها هنا رغماً عن أنوفنا صاغرين. وأي قول غيرها كذب وإدعاء، هو دعوى عريضة لا يقوم عليها من واقعاتنا الفعلية أدنى دليل. والذين تكلموا في هذا الطريق ولا يزالوا فيه يتكلمون بغير معونة من ذوق أو من تجربة أو من تحقيق، هم أسوأ خلق الله وأشَدَّهم ضلالاً فيه وأكثرهم ضرباً في متاهات دروبه الوعرة بمعونة عقولهم المحدودة لا بمعونة أذواقهم ومواجيدهم وتجاربهم التي تكاد تكون معدومة الخبرة، فاقدة الأهلية، عقيمة البصيرة في هذا المجال على التخصيص.

إنّ هذه الهوة الوسيعة الشاسعة بين القول النظري والتطبيق العملي لهى أكبر الكوارث الخُلقية كما أنها أكبر الكوارث التي تبعدنا عن الله بمقدار ما تقربنا من "الوهم"، وتودي بنا في أودية المهالك، وتفتت عرى روابطنا الروحيّة : تمزقنا أشلاءً متناثرة في دروب الحياة الدنيا التي تمضي بنا إلى سراب هو أقرب إلى الوهم في غير تحقيق. وإنها لهوة سحيقة غائرة يقع فيها الوجود الإنساني  إلا ما رحم ربك، وإلا ما كشف عن قلبه الغطاء، وإلا ما تولاه بحفظه ورعايته وعنايته وخَصَّهُ بخصوصية ولايته، إلا هؤلاء جميعاً؛ فالوجود الإنساني مدحوراً في الجهالة والعمَاية والتردي عن "وحدة القصد" واكتشاف حقيقة البذرة الإنسانية الموصولة بالله على الدوام في أغواره الباطنة.

أقول؛ إنّ الفلاسفة وكبار النُّظَّار والمتكلمين في تاريخنا الفكري الفلسفي الإسلامي تحدثوا كثيراً عن الوحدة والتوحيد بمناهجهم التي اَسْتَنْوُها وفق ما تدفعهم إليه غايتهم سواء كانت هذه الغايات تقصد وجه الله حقيقة - والله وحده يعلم نواياهم -  أو يتخفّى ورائها توجهات سياسية كما حَدَثَ في نشأة الجبرية، وتشجيع خلفاء بني أمية لشيوع مذهب الجبر بين العوام تمكيناً لحكمهم وتعزيزاً لهذا الملك كونه من تمكين الله لهم، وأنهم لمجبرون عليه قهراً لا طمعاً كما يجبر المرء على كل ما لا حيلة له فيه، أو كما كان هو الحال لدى المعتزلة الذين تذرَّعوا بذرائع سلطان القوة والملك كيما يقيموا في الضمائر والقلوب سلطان "الفكرة" و"الرأي"؛ ففرضوا على الناس بالسيف أنظارهم العقلية وأنشطتهم المعرفية وتخريجاتهم إزاء النَّص المقدَّس بما يخدم المآرب السياسية، الأمر الذي جعل من الخليفة المأمون إذْ ذَاَك يسجن وراء القضبان كبار العلماء في عصره ممن خالفوه الرأي، وهو رأي المعتزلة في مسألة خلق القرآن.

هذه وقائع في تاريخنا، وإنْ تكن معروفة متداولة فلا ينبغي أن نمر عليها مرور الكرام ولا نتوقف عندها؛ لأنها تكشف عن "كزازة روحية" في المقام الأول، جعلت من الدين غطاءً للوصول إلى السلطة السياسية دون اعتبار للقرآن في ذاته، ودون تحقيق كثير أو قليل في مسائل التوحيد. وليس في هذا المعترك العلمي المخلوط بتوجهات سياسية - مع كل ما قيل فيه أو قيل عنه كائناً ما كان أو من كان هذا القائل - ما يمس "وحدة القصد" في شيء ولا يكشف ما لله في باطن الإنسان ولا يشجع على الاتصال به ومعرفته على شرعة المحبة والتحقيق، ولا يحقق طريق القصد إليه من أدنى وأقرب طريق.

مَنْ يُمَارس النظرية كما مارسها الفلاسفة وعلماء الكلام يخرج في الغالب بثمرة معرفية معزولة عن توجّه القلب الذي يعول عليه كل ما لله من معارف وتوجهات، ولم يستفد من العلوم الجدلية الخطابية إلا قدرة تورث العقل التحليق في الفضاءات النظرية المجردة بغير أن تمس الشعور مَسَّات التهذيب والاتصال بالله حقيقة لا مجازاً يفتقر إلى التحقيق.

إنمّا الوحدة هى اكتشاف صوفي بامتياز، والقصد إليها ومحاولة الوصول إلى كنهها في الضمير الإنساني والعمل لأجلها بوسائل الرياضة والمجاهدة والترقب والاختبار إنمّا هو مهمة التصوف الإسلامي ممثلاً في أدبياته وشخصياته البارزة بين سنية ومتفلسفة في مقابل أنظار الفلاسفة والمتكلمين ممّن تَوَخْوُا على الدوام منهجاً وطريقاً في السير أحال المعرفة لديهم إلى ظن لا يقين فيه، بمقدار ما صار التوحيد - مع التخليط في غير وحدة قصد - أوْحَالاً يتناقلها خلفٌ عن سلف وترددها على التقليد أبواق الأجيال جيلاً وراء جيل.

لم يستطع أحد - إلا في القليل النادر - أن يكتشف حقيقة التوحيد في ذاته، أو أن يجعل من هذه الحقيقة سبيلاً يقصده الناس دون أن يفترقوا فيه؛ لينتظم في القلب أولاً ثم يشع منه منعكساً على المجموع آثاره وثماره في الأخلاق والمعاملة والعبودية والتوجه والتسليك، أو ما شئت أن تضيف في أمور الحياة التي من المفترض فيها أن تخضع على الدوام للرقابة الباطنة رقابة الله الأحد فيما يتولاه الضمير من علم ومن عمل.

لم يكن التوحيد كما جاء على ألسنة علماء الكلام والفلاسفة إلا "نظرية" قلدوا فيها نظرات اليونان من أفلاطون وأرسطو وأفلوطين ليجذبهم التنظير الفكري والمجادلات الفلسفية جذباً يكاد يبعدهم عن تقرير الحقيقة التي قررها وحي النبوة، لا بل منهم من أدعى إمكان اتصال الفيلسوف بالمصدر الذي استقي منه النبي مشكاته فساوى عن قصد وتعمد بين الفلسفة والنبوة كما فعل الفارابي حتى صَرَّحَ ابن طفيل، ناقداً له في غير تردد، بسوء معتقد الفارابي في النبوة. صحيح أن هنالك محاولات عقلية سواء من جانب الفلاسفة والمتكلمين جادة ومثمرة وثرية في ذات الوقت ولكنها لا تستهوي من أرادوا لأنفسهم أن تصل إلى "حقيقة الحقائق" : إلى حقيقتها الخفيّة المرقاة إلى درجة الإنسانية الكاملة، لم يستهويهم البحث المجرّد عن اللواحق العملية، ولا الغفلة بالكلية عن مسائل المصير، إنما الدنيا فترة ضيافة والعمر فيها قصير والأجل محدود فهل يكون حظنا منها هو فقط ما نناله فيها من مغبون القيمة والتقدير. إنما القيمة والتقدير هما فيما عَسَاه يصل به المرء إلى حقيقته الأصلية ويكتشف ما لله في باطنه : قلبه وضميره وخفاياه.

هنالك يصبح التوحيد معرفة تذاق لا عبارة تلفظ. يصبح تجربة تُخَاض كما تخاض التجارب الكبرى في حياة الإنسان يخوضها القادرون عليها الصابرون على التحقق منها والموفقون إلى خوضها بعون من الله. يصبح إدراكاً علوياً قائماً على المعايشة لا فكرة نظرية مجرّدة عن التسليك. والفرق بينهما هو فرق بين الفلاسفة والمتكلمين من جهة والصوفية من جهة ثانية. نعم هو فرق بين علوم الأفكار وعلوم الأذكار، أو بين طريق العقل وطريق التصفية.

إن الصوفي وحده لهو الذي تحدى سلطة العقل والنظر والتحليق المجرد فخص التوحيد بفرائد الخصوصية ولم يستطع أن يكون بهذا التخصيص سوى فرداً متفرداً في التوجه؛ إنه ليعرف جيداً معنى هذا التوجه فيدركه كما يدرك المرء كل محسوس منظور؛ لأنه تعود على تحدى العوائق المحدودة بحدود ما يفكر فيه الإنسان العادي.

وكما تَعَوَّد على التعالي والتجاوز تعود أيضاً على أن يتسامي فوق ما هو منظور في كل حال وفي أية حال. والتسامي والتجاوز وامتصاص السقطات الإنسانية وتحمل أذية الناس وأخطاء الضعفاء إنما هى قدرة يمنحها الله لمن يشاء حين يشاء من عباده.

لا شك إن "تَوَجُّه" الصوفي إلى الملأ الأعلى في الغالب لهو الذي يخلق فيه قوة التحدي ويرشده باليقين إلى أمور كان قد أدركها ولم يكن في مستطاع غيره أن يتوافر على إدراكها. وليس يكفى للصوفي أن يتحدى فقط سلطة العقل والنظر والتحليق المجرد ولكنه يتحدى أولاً وقبل كل شيء أهم سُلطة يمكن أن تعيق مسيرته الروحية والفكرية وهى سلطة التقليد الأعمى لأصحاب السلطة الدينية، فالذين يَتَسّلطون على الضمائر باسم الدين أسوأ خلق الله على الإطلاق ولم يكونوا بمثل هذا السوء إلا لأنهم أقل خلق الله شعوراً بمعيته وتطلعاً لقَيوميَّته فمتى نبذ الصوفي التقليد لأصحاب السلطة الدينية أياً كان أصحابها تساقطت أمامه على الفور كل سلطة سواها ولم يعد يخشى من أمره خوفاً لا من أصحاب السلطة الدينية كائناً ما كانوا أو مَنْ كانوا ولا من أصحاب السلطة الدنيوية؛ لأنه إذْ ذَاك سيكون قد تَحَرَّرَ من عبادة السّوى بإطلاق، وهنالك سينقله التوجه إلى الملأ الأعلى نحو الذكر القلبي: عبادة الفكرة الدائمة.

تقوم الفلسفة  الصوفية مباشرة على المعرفة الإلهية، وأن هذه الفلسفة خليقة أن تعني بالوجود الإنساني؛ وذلك لأن الإنسان في كل زمان ومكان يحتاج إلى الله تعالى.

اللحظات الفريدة في عمر الفرد هى اللحظات التي يستحضر فيها الله فيطيعه بالعمل ويخدمه بالمعرفة.

ولن يستطيع أن يصل إلى عبادة الفكرة الدائمة ما لم يكن من قبل قد تحرّر من عبادة السّوى، ونبذ التقليد الأعمى لكل ذي منصب أو جاه أو دنيا أو سلطان، هنالك سيَعْرف أن الحياة التي يعيشها بغير الذكر القلبي (عبادة الفكرة الدائمة) إنما هى هَذَيَان؛ عبثٌ أو يكاد أن يكون عبثاً في كافة الأحوال.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم