قضايا

المبدع والإبداع!!

صادق السامرائيخاض المبدع تجارب إنسانية عميقة ومتميزة وذات مواصفات فريدة لم تتحقق لغيره من قبل، وعندما نتأمل العطاء المترشح من التجربة وقيمته الفكرية والإنسانية، يتضح لنا بأنه لم يهضمها ويتمثلها تماما ويرتقي بها إلى آفاق عالمية التأثير والمدى.

وقد يكون السبب الأساسي الذي يقف وراء هذا القصور هو الإنغلاق في التجربة، وتحويلها إلى منظار تقاس عليه الأمور، فلم تكن التجربة عبارة عن شرنقة ينضج فيها المبدع وينطلق إلى الآفاق الإبداعية الرحبة الغنية بالمعاني الخالدة السامية، التي تساهم في تحقيق رؤية جديدة وفهم آخر للحياة ومعاني الصراع وتأكيد الذات والتعبير الأمثل عن الموضوع.

ويبدو أن المبدع - في معظم الأحيان- قد أصبح ضحية للمشاعر السلبية الفاعلة في أعماقه، وعجز عن تصريفها وتهذيبها والإرتقاء بها إلى الحالة الإيجابية ذات التأثير الأصلح والأصدق في الحياة، وإنما إستسلم للعواطف والإنفعالات التي إمتلكت عقله وسخرته للتعبير المنحرف عما يراه صحيحا ومصيبا، وفي حقيقته قول مكتوب بمداد تلك العواطف العاصفة في كيانه.

وهذه الحالة المريرة التي تأسر المبدع تجعلنا نتساءل أو نبحث عن الإبداعات الفنية والأدبية ذات القدرة التعبيرية عن الحالة التي عاشها الإنسان ويعانيها كل يوم.

ومن الصعب أن تجد عطاءا مؤثرا ومهما ومتفوقا على التجربة ومستوعبا لها بأساليب ذات معاني مطلقة.

والملاحظ أن الجهود قد بذلت والطاقات قد أهدرت على مدى الأعوام السابقة في موضوعات (سياسية) لا تجدي نفعا، فهي لم تغني من فقر أو تمنع من جوع، بل أن الحالتين قد تفاقمتا وتسيّد الفساد وتحكم بالواقع المعاش.

ترى لماذا لم يحطم المبدع صندوق تجربته وينطلق منها إلى الدنيا؟

هل أنه إستلطف هذا الركون السلبي واستكان؟

من المشاعر السيئة التي قضت على أصالة الإبداع وأنزلته من عليائه، هي إنفعالات التحامل والإنتقام وسورة الغضب المحتقنة في العروق والصدور.

فترانا نقرأ ذلك لمبدعين أكفاء يمكنهم أن يقدموا عطاءات مؤثرة وخالدة، لكنهم يكتبون بمداد الضحية لهذه المشاعر السلبية التي تقيد رؤاهم ومنطقهم.

وهذا يعني أن العافية النفسية نادرة مما يحتم أن نقرأ ما يشير إلى حالات غير سوية تريد أن تكون فاعلة في المجتمع، لأن الرؤية مشوشة ومحقونة بطاقات إنفعالية شديدة لا تعرف غير الإنفجار والتحول إلى رماد بعد أن تفعل فعلها في الواقع الموضوعي والذاتي.

كما أن هناك مزج ما بين الأشياء وتغييب للصورة الحقيقية، والرضوخ لإرادة القوى الموجهة والمؤثرة في الإعلام والواقع بصورة عامة.

فالحالة ليست واضحة وإنما أريد لها أن تكون معقدة وتختلط فيها الصور والمشاهد والأحداث، حتى لا يتبين المواطن صراط مصلحته الوطنية والإنسانية، فيبقى في حالة من الخوف والحذر وعدم الإطمئنان، ويكون صيدا سهلا وأسيرا مذعنا لإرادة الفاعلين به وفقا لمخططاتهم وتصوراتهم البعيدة، وهذا ينعكس بدوره على الكثير من المبدعين ويسقطهم في قبضة الفاعلين، فيتحولون إلى مفعولين بهم وهم يظنون العكس.

وقد ساهم المبدعون في إدامة التشويش وترسيخ الشعور بالقلق والتوجس والشك، مما أربك التفاعل وألزم الناس بالتبعثر والتمحور حول الكراسي والأحزاب، التي تناثرت وتعددت إلى درجة غير معقولة لكنها مقبولة في واقع يتوطنه الحذر.

وفي هذا يتحقق إضعاف لدور المبدعين في بناء الصيرورة الأفضل وتقديم العطاء الأمثل، لأنهم قد وجدوا الساحة مناسبة للتعبير عن عواطفهم المخزونة والمعتقة في أعماقهم على مدى الأعوام الصعبة، بدلا من إستلهام تجاربهم وإستخلاص العبر والقوانين المفيدة منها وتسخيرها لبناء الحياة الأحسن والأرقى.

وفي واقعنا هناك صفة نتميز بها عن غيرنا من أبناء العالم المتقدم، وخلاصتها أننا عندما نعيش تجربة مريرة وقاسية نريد جميع الناس أن يمروا بها بل ويعيشوا أقسى منها، وهذه طاقة كامنة في لاوعينا تدفعنا إلى سلوكيات تعبر عنها وتؤكدها لكي نكسب الراحة النفسية المنحرفة.

بينما الناس في العالم المتقدم عندما يمرون بتجربة صعبة فهم لا يتمنونها للآخرين، ويعملون بجد ونشاط وإبداع لكي يتوصلوا إلى أسبابها وتوفير عناصر الوقاية منها، أي أن التجربة الفردية أو الشخصية عندهم، تكون محطة إنطلاق لتأسيس حالات إيجابية ذات قيمة إجتماعية وإنسانية، وهذا ينعكس على الإبداع أيضا، فالكثير من الروايات الناجحة والقصص والقصائد عبارة عن تجارب شخصية ذات حس إنساني غني بالفضيلة ومعانيها السامية.

ولكي نقدم إبداعا بمستوى تجربتنا، علينا أن نتحرر من الإنفعالات السلبية المريرة وأن نتخلص من قيد التجربة وأسر الإستنقاع فيها، وأن نرى بعيون أخرى وعقلية رحبة ذات قدرات عالية على المطاوعة والفهم والتفاعل الفكري النقي النزيه.

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم