قضايا

كيف سعت أمريكا للسيطرة على منطقة الخليج العربي بعد الحرب العالمية الثانية؟ (3)

محمود محمد عليإذا كان اهتمام الولايات المتحدة بدأ بمنطقة الخليج العربي بعد رحيل البريطانيين عام 1971م، وزاد هذا الاهتمام بعد حظر النفط في حرب أكتوبر 1973م، وذلك حين أعلن الرئيس الأمريكي "ريتشارد نيكسون" Richard Nixon (1913-1994م)، عن عزم بلاده على اتباع سياسة جديدة ، ترتكز على دعم الأنظمة المؤيدة لولايات المتحدة للولايات المتحدة، لتأخذ على عاتقها دورا رئيسيا في قمع المتمردين، وتخفيف العبء عن واشنطن، أي المشاركة الإقليمية، والحد من الدور الأمريكي المباشر. وهو ما يتطلب تزويد الدول الحليفة للولايات المتحدة درعاً واقياً، وتقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية  المطلوبة .

ولهذا السبب، اتجهت السياسة الأمريكية نحو طهران، واستغلت طموحات الشاه إلي الهيمنة، السياسية والعسكرية، على الخليج، إذ طالما كرر، في تصريحاته، أن قواته أصبحت تفوق قوة بريطانيا، التى كانت في الخليج، أضعاف المرات. وهكذا بدأ شاه إيران، على نحو ما ذكره أحد الباحثين، يتحول من وضعيته كإمبراطور، إلى وكيل أو شرطي لخدمة المصالح الأمريكية في المنطقة.

ومن الطبيعي أن يجد طموح الشاه ترحيبا كافياً ، من الولايات المتحدة، التى كانت تدرك أهمية إيران، كقوة إقليمية، في تنفيذ سياستها، وأصبح من الواضح، أن الشاه هو المرشح الأوفر حظاً للاضطلاع بمهمة تأمين المصالح الأمريكية، خاصة أن المملكة العربية السعودية، بمواردها البشرية المحدودة، كانت لا تستطيع الاضطلاع بتلك المهمة، بينما العراق لا يزال يسعي من أجل استقراره الداخلي، تشغله باستمرار مشاكله مع الأكراد، في الشمال، وصراعه المزمن مع إيران، حول حقوق السيادة على شط العرب، ناهيك بادعائه مواصلة الصراع مع إسرائيل .

وقد بدا النشاط الإيراني العسكري يظهر واضحاً في الخليج، على إثر استيلاء إيران على جزر الخليج الثلاث، التابعة لإمارتي رأس الخيمة والشارقة (طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى) إلى إيران، في نوفمبر 1971م ، بإيعاز أمريكي وتواطؤ بريطاني، وذلك لحماية مضيق هرمز، وتحقيق طموحات الشاه التوسعية. وهذا الأمر أثار حفيظة العراق، الذي كان يعُد الخليج مجالاً لنفوذه ، فبدأ سباق التسلح بين العراق وإيران. وفي حين اعتمدت إيران على واشنطن، اعتمدت بغداد على موسكو، خاصة بعد توقيعهما معاهدة الصداقة والتعاون، في أبريل 1972م ، ومن ثم أخذت الحرب الباردة تشق طريقها إلى الخليج .

وعلى إثر احتلال إيران للجزر العربية، زادت حدة التوتر الإيراني–العراقي، قلق الشاه من توثق العلاقات العراقية السوفيتية، بعد توقيع معاهدة الصداقة والتعاون بين الطرفين في أبريل عام 1972، وتدفق الأسلحة السوفيتية على العراق، وفي نوفمبر عام 1974 م ، انفجر الوضع على الحدود، وتأزم بين الطرفين، واتخذ مجلس الأمن توصية، بتعيين ممثل دولي لدراسة المشكلة .

وفي مارس عام 1975م ومن خلال الوساطة الجزائرية ، تم عقد اتفاقية الجزائر، ضمن مؤتمر منظمة البلدان المصدرة للبترول (الأوبك) في الجزائر العاصمة، حيث قام كل من الرئيس العراقي والشاه رسمياً بحل جميع الخلافات الحدودية القائمة، واتفقا على الحفاظ على أمن الحدود، وتم منح الإيرانيين حقوق حرية الملاحة في شط العرب؛ فأصبحت السيادة مشتركة بين الدولتين، وأثبتت الاتفاقية بشكل أساسي الهيمنة الإيرانية في شؤون الخليج .

بيد أن الخلافات عادت من جديد بين إيران والعراق بعد انتصار الثورة الإيرانية بقيادة آية الله الخمينى، حيث كان لسقوط شاه إيران تأثير مدو، في العواصم الخليجية، فانتصار الثورة الإيرانية، لم يكن متوقعاً لدي حكام الخليج، كما أثر هذا الحدث الكبير في مجمل استراتيجية واشنطن، للدفاع عن مصالحها ومصالح حلفائها . ومع تزايد الحضور البحري العسكري السوفيتي، طرحت الإدارة الأمريكية إمكانية إيجاد أسطول خامس في هذا المحيط، والتحول من سياسة "حرب ونصف " إلى سياسة حربين، وما يتطلبه التزام المحيطات الثلاثة من حضور بحري كثيف، في بحار العالم، ولا سيما المحيط الهندي .

وفي نهاية عام 1979م ، بلغت القوة العسكرية الأمريكية 19 قطعة حربية، ضمنت قوة الواجب المشترك للشرق الأوسط 5 سفن، ومجموعة ميدواى Midway ثمانية سفن، بينها حاملة الطائرات ميدواي، ومجموعة كيتى هوك Kitty Hawk  ستة سفن ، من بينها حاملة الطائرات كيتى هوك ، في استعراض للقوة الأمريكية في مواجهة الثورة الإيرانية .

وتبريراً للوجود العسكري الأمريكي في الخليج العربي، ودفعاً للدول الخليجية إلى طلب الحماية الأمريكية، عمدت الولايات المتحدة إلى زيادة حدة التوتر بين العراق وإيران، فأخذت تؤلب النظام العراقي ضد الثورة الإيرانية؛ خاصة فيما يتعلق بقضية شط العرب، وأنه لا بد من تعديل اتفاقية الجزائرعام 1975م، بعد أن أوحت للنظام العراقي إلى مدي شعوره بالإهانة إزاء هذه الاتفاقية، وأنه اضطر لقبول الاتفاق، ليتخلص من انشغال جيشه، وإهدار طاقته وإمكاناته الاقتصادية، واستخدامها في حروب مع المتمردين الأكراد، في المقابل أعلن النظام الإيراني جهراً ، بأنه يرفض اتفاقية الجزائر، وادعي أنها مجحفة بحق إيران، وأن الشاه اضطر للتنازل عن أراض إيرانية للعراق في المناطق الجنوبية ، لقاء وقف الحملات الإعلامية ضده، التى كان يبثها راديو بغداد باللغة الفارسية.

وطالب العراق بضرورة فتح باب المفاوضات من جديد  بين الدولتين، للاتفاق على المشكلات القائمة بين الدولتين، بما يضمن عودة منطقة ( شط العرب) إلى السيادة العراقية، لكن إيران رفضت ذلك، وطالبت بتأجيل النظر في تلك الأمور إلى أجل غير مسمي ، مما دفع الرئيس العراقي صدام حسين إلى إلغاء اتفاقية الجزائر، في سبتمبر عام 1980 م من جانب واحد ، ومزق النسخة العراقية منها أمام ملايين من مشاهدي التلفاز، معلناً عودة ما اعتبره نهراً عراقياً إلى أصحابه الشرعيين، كما طالب بتحرير منطقة "عربستان"، أو "خوزستان" ، والجزر العربية الثلاثة في الخليج، لكن السلطة الإيرانية الجديدة تمسكت بحقها في شط العرب ، ونادت بقيام دولة إسلامية في العراق .

وفي 22 سبتمبر عام 1980م، أطلق العراق هجومه المفاجئ ضد الأراضي الإيرانية، مما أدي إلى قيام الحرب بين إيران والعراق . وسميت الحرب الإيرانية بحرب البترول ، للدلالة على أهمية العامل النفطى كمحور هام من محاور الصراع إقليمياً ودولياً، فعلي الصعيد الإقليمي وبعيداً عن الاعتبارات الدينية، والخلافات السياسية، والأيديولوجية، التى كانت السبب المباشر في قيام الحرب، فإن النفط والتحكم في مساره: إنتاجاً وتسعيراً وتسويقاً كانا من أهم أهداف الصراع الإيراني- العراقي.

وقد عد المحللون الاستراتيجيون أيضاً أن النفط من أهم عوامل النزاع في الحرب الإيرانية العراقية، لأن شط العرب المتنازع عليه يعد المنفذ الوحيد للعراق على مياه الخليج والمحيطات وذو أهمية استراتيجية، لكونه وسيلة ممتازة للملاحة وعبور السفن الكبر، لنقل النفط من الموانئ العراقية؛ حيث قامت على الضفاف الشرقية 90% من المنشآت النفطية العراقية، وعلى الضفة الغربية تشكل حقول النفط 50 % من إنتاج البلاد .

ابتهجت واشنطن باندلاع الحرب بين العراق وإيران، لكنها أعلنت حيادها في النزاع، بينما عمدت إلى دعم الأنظمة الخليجية، بإرسالها أربعة طائرات للإنذار المبكر إلى المملكة العربية السعودية، لحماية أجوائها، وأرسلت أسطولها الحربي، لحصر القتال؛ ففي المنطقة الشمالية من الخليج، وفي الأسبوع الأول للحرب وجهت إدارة الرئيس "جيمي كارتر"، دعوة إلى ست دول (بريطانيا، وفرنسا، وكندا، واليابان، وألمانيا، وإيرلندا)، لبحث ضمان السيطرة على مضيق هرمز، والتقليل من الآثار الاقتصادية للنزاع في الملاحة الدولية، وأسواق النفط العالمية، وترأس الرئيس الأمريكي كارتر اجتماعاً لمجلس الأمن القومي، أعلن على أثره أن الإمدادات النفطية، يجب أن تبقي مفتوحة، وأن توقف إمدادات النفط عبر مضيق هرمز، سيشكل تهديداً جدياً للوضع الاقتصادي الدولي

وهنا يري المحللون السياسيون، أن الولايات المتحدة كان لها دور كبير في تحريك ذلك النزاع، من خلال مراكز الاستخبارات والمعلومات الأمريكية والإسرائيلية التى نشطت، لتعميق الشكوك المتبادلة بين النظام العراقي والنظام الإيراني الجديد، مستغلة حادثة طرد العراق للخميني من أراضيها.

كما أدت دور المحرض والمشجع للعراق لإثارة الحرب، بتزويدها العراق بمعلومات زائفة، أو على الأقل مُبالغ فيها عن نقاط الضعف في القوات الإيرانية المسلحة، وإمكانية انهيار سريع لنظام الخميني عام 1980م، ونجحت في ذلك، بعد تسريب المخابرات الأمريكية تلك المعلومات عن طريق السعودية، فقد كانت الطائرات الأمريكية للإنذار والمراقبة، المرابطة في السعودية للغرض المزعوم من حق الدفاع عن النفس لذلك البلد، تزود العراق بالمعلومات المخابراتية التى تجمعها عن القوات الإيرانية .

كما أشارت تلك المعلومات أيضاً إلى أن القوات المسلحة الإيرانية، تهاوت نتيجة عمليات التطهير التى اتخذها النظام الجديد، وخاصة بين ضباط سلاح الطيران المعروفين بولائهم للشاه، وقد عزي سبب رغبة السياسة الأمريكية في قيام الحرب إلى جملة من أهمها :

1- كانت العراق وإيران عضوين متشددين في (الأوبك)، طالبا باستمرار رفع أسعار النفط مقابل الدول المعتدلة كالسعودية، التى خدمت سياستها النفطية المصالح الأمريكية، فقد اتخذت الدول النفطية في منظمة الأوبك، ومن بينها إيران والعراق قراراً بتخفيض إنتاج النفط؛ للتمكن من رفع سعره بدرجة مبالغ فيها، بحيث تجاوز سعر البرميل 30 دولار، لكن الحرب أدت إلى ما استهدفت إليه الولايات المتحدة من انخفاض حاد في الشعر، حتى هبط في أواخر النزاع إلى أقل من 15 دولاراً، وصار يباع بخصومات نزلت بعد ذلك إلى 10 أو 9 دولارات.

2- إيران والعراق دولتان لا يمكن التحكم بهما ومتنافستان في المنطقة وجعلهما مشغولتين بالحرب، وتقويضهما سيجعلهما قابلتين للتوجيه والتحكم والسيطرة، حيث أكدت تقارير لجنة العلاقات في الخارجية بالكونجرس على ضرورة أن يكون العراق منشغلاً باستمرار في صراعات خارجية، كي لا تتاح له الفرصة الكافية ، لتحقيق أي هدف من أهدافه التخريبية – على حد بعض التقارير – وافترضت التقارير أن يخرج العراق من صراعه مع إيران منهوك القوي سياسياً وعسكرياً، وأن يوجه ما لديه من موارد اقتصادية لأغراض التنمية الداخلية لمرحلة ما بعد الحرب توجيهاً مغايراً ، كما افترضت التقار يرأن توجيه الموارد الاقتصادية العراقية سوف يحجم من تطلعات العراق لزيادة نفوذه في دول العالم الثالث .

3-  إن إيران تشكل خطراً على مصالح الولايات المتحدة في الخليج العربي، وأنه حسب زعم الولايات المتحدة ، مصدر للأصولية الإسلامية ، كما اتخذت بعد الثورة موقفاً متشدداً من إسرائيل، وسياستها التوسعية في المنطقة، ومن نهجها في عملية السلام، كما تعد مصدراً لتصدير الثورة الإسلامية إلى البلدان المحيطة .

4- أحدثت الحرب توتراً في العلاقات الإيرانية العربية، التى تحسنت إثر نجاح الثورة الإيرانية، وتأييدها للقضية الفلسطينية، وقيام التحالف الإيراني الفلسطيني، وما شكله من تهديد للسياسة الأمريكية في الخليج العربي، وتحديداً مصالحها النفطية في المنطقة .

5- رغبت الولايات المتحدة في استثمار الحرب، ريثما تستكمل استعدادها للتدخل العسكري في الخليج، والهيمنة على نفطه وعلى موقعه الاستراتيجي، كما اعتقدت أن الحرب قد تعجل بإطلاق سراح الرهائن في إيران.

ويذكر الكثير من الباحثين بأن هناك أسباب مباشرة وأخري غير مباشرة، ساهمت في اندلاع الحرب بين إيران والعراق، ويمكن تلخيص الأسباب المباشرة بما يلي:

أ- الخلاف السياسي الحاد بين الحكومة الإيرانية التي أنجبتها ثورة الخميني في شباط 1979م وحكومة العراق، فقد استعصى هذا الخلاف على الحل، واحترقت في أتونه قواعد العمل الدبلوماسي الهادئ، وأدى ذلك إلى تصعيد الأزمة حتى بلغت  ذروتها وحال دون تراجعها، بل انفجرت، وتمثل انفجارها في وضع كل من الحكومتين نفسها في مواجهة الأخرى .

ب- المشكـلات المـزمنـة التي ترتبت على الخلاف المتعلق بالحدود العـراقية-الإيرانيـة، وترجع جذور هذا الخلاف إلى أكثر من أربعة قرون، ففـي عام 1639م تم تثبيت خط الحدود بين العثمانيين والفرس في عهد السلطان العثماني "مراد الرابع"، وبعد انتهاء الحرب العثمانية والفارسية أجـريت تعديلات وإضافات وتغييرات على الحدود، وذلك في عام 1823م، ثم وقعت بين الدولتين: العراق وإيران اتفاقية الحدود المعروفة باتفاقية الجزائر في 6 مارس 1975م ، وقد ظلت الحدود تشكل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار بفتيل أي خلاف سياسي حاد بين العراق وإيران.

ج- الخروقات الجوية والبرية للحدود بين الطرفين، وقد بلغت "242" خرقاً جوياً إيرانياً، خلال الفترة من فبراير 1976م حتى سبتمبر 1980م ، وذلك إضافة إلى القصف المتكرر للمخافر والقصبات الحدودية، والتجاوز على المياه الإقليمية التي لم تكن الحدود فيها واضحة .

د- التهديدات المتبادلة التي تفاقمت في سبتمبر من عام 1980م؛ حيث انطلقت شرارة الحرب الدامية، واستمرت ثماني سنوات .

وأما الأسباب غير المباشرة للحرب العراقية - الإيرانية فيمكن استنتاجها من واقع الأحداث والمتغيرات التي شهدتها المنطقة خلال عام 1979م، الذي تشير كل الدلائل إلى أنه كان عاماً مثقلاً بالنذر.  وقبل تناول هذه النذر لا بد من التأكيد على حقيقة أن حرباً طاحنة بين دولتين هما العراق وإيران، هدفهما المعلن واحد هو تحرير فلسطين، لا بد أن حرباً كهذه تظل أسبابها طي الكتمان، وخاصة أسبابها غير المباشرة، لأن هذه الأسباب تمس صورة الحرب وتشوهها، تلك الحرب التي أبادت مئات الألوف من العراقيين والإيرانيين، وأهدرت مليارات الدولارات، في الوقت الذي كانت فيه كل من العراق وإيران، تعلن أن بناءها الاقتصادي والعسكري والثقافي، إنما هو استعداد لحرب مقدسة تستهدف تحرير فلسطين، وتعلن في كل مناسبة أنها تقف بحزم ضد (إسرائيل)، وليس ضد الأخرى .

وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم