قضايا

كيف سعت أمريكا للسيطرة على منطقة الخليج العربي بعد الحرب العالمية الثانية؟ (7)

محمود محمد علينعود للمقال السابع والأخير ونستأنف حديثنا عن الهيمنة الأمريكية علي منطقة الخليج العربي فنقول: بقيت العلاقات الأمريكية العراقية متوترة بعد حرب الخليج الثانية نتيجة للدور الفعال الذي لعبته الولايات المتحدة لاستصدار القرارات والعقوبات الدولية التى فرضها مجلس الأمن، والتي شكلت حصاراً اقتصادياً شاملاً على العراق، والذي على إثره عاش العراقيون أوضاع مزرية، حيث عانوا من نقص الموارد السياسية الغذائية والمستلزمات الصحية، وإلى جانب هذه الضغوط التى مارسها "صدام حسين" علي أبناء الشعب، مما أوقع الشعب العراقي بين مطرقة نظام صدام وسندان عقوبات الأمم المتحدة .

إن العداء الأمريكي واستهدافه للعراق هو تخطيط استراتيجي من دولة أصبحت بعد انهيار الاتحاد السوفيتى أقوي وأعظم دولة أصبحت، حيث يمكن الإشارة إلى أن غياب الاتحاد السوفيتي والفراغ الاستراتيجي الذي خلفه متجسداً في فكرة وجود عدو تبنى عليه الولايات المتحدة سياستها الخارجية، قد عوض منه العراق بعدوانه على الكويت، فبروز العراق كقوة إقليمية تتربص بآبار النفط وتهدد المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، جعل من فكرة صناعة العدو تقفز إلى ذهنية صانع القرار الأمريكي. ومع غياب أية قوة مقابلة جديدة للولايات المتحدة، ومع تلاشي القوي الأخرى في مواجهة عزيمة الولايات المتحدة، برز الدور الذي أرادت الولايات المتحدة لعبه من خلال حرب الخليج الثانية، وهو تعزيز زعامتها الدبلوماسية والعسكرية لترسيخ الانطباع بأنها الدولة الوحيدة التى تصنع وتقترح جدول الأعمال وتوزيع الأدوار على الدول الأخرى في ظل النظام العالمي الجديد الذي جاءت ولادته الرسمية في خطاب الرئيس جورج بوش الأب في 11/9/1990. وقد أعطى للخطاب عنوانا عريضا (نظرة إلى النظام الدولي الجديد) وقد كلف بعدها كل من ديك تشيني وبول ولفويتز مهمة التنظير لما جاء في هذا الخطاب لكن خسارته في الانتخابات الرئاسية جعلت مشروعه الأساسي يتأخر ولكنه عاد واضحاً مع وصول ابنه البار إلى السلطة الذي نشر وأشار إلى هذا الخطاب في خطابه الذي ألقاه في 11 سبتمبر 2002م بمناسبة الاحتفال بـ 11 سبتمبر ويجب التذكير أن هذا الخطاب كان قد أعد في الثاني من أغسطس "اليوم الأول للغزو الصدامي للكويت" في اجتماع مصغر في Aspn Institute  وحضرته مارجريت   تاتشر.

بوش الأب اعتبر أنه الآن أمام حدث في مواجهة لحظات وحيدة ورائعة "فأزمة الخليج التي تبدو خطيرة، إلا إنها فرصة نادرة للتقدم نحو مرحلة تاريخية لهدفنا وهو إقامة نظام دولي جديد .. والدخول في مرحلة أكثر تحرراً من التهديدات والإرهاب وأقوى في البحث عن العدالة ألاحظتم التعابير المستعملة " . يتابع بوش الأب حديثه قائلاً : في هذا العالم لن يكون لنا أي عدو يهددنا فقط خصوم في العالم الثالث الذين عليهم أن يتمسكوا بجهودهم من أجل التسلح، ولذا فعلى الكونجرس أن يطور برنامجاً متعدداً للدفاع يأخذ بعين الاعتبار ليس فقط تحسين العلاقات، بل مسؤولياتنا في مواجهة الأخطار، فالعالم ما زال خطرا وهذا الأمر واضح فالاستقرار ليس أكيداً والمصالح الأمريكية ليست مضمونة وعدم الاستقرار الإقليمي سيكون شاملاً .

وعليه يمكن القول أن العراق طوال فترة ما بعد حرب الخليج الثانية، وهو يعانى من حصار اقتصادي وتأزم سياسي، وانتهاك لخصوصياته كدولة مستقلة، وأن العلاقات الأمريكية العراقية ظلت تتدهور يوم بعد يوم طالما أن أمريكا لم تحقق الهدف الأسمى، وهو الإطاحة بصدام حسين وتغيير النظام السياسي لخلق نظام موال لمصالحها وطموحاتها في المنطقة .

وهذا الأمر كان في صالح إسرائيل ؛ حيث منح الغزو العراقي للكويت ذريعة جديدة لعدم الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، ورفض نشوء دولة فلسطينية عليها، خوفاً من أن يحولها الفلسطينيون، الذين أيدوا صدام حسين،إلى رأس جسر لهجوم عراقي على إسرائيل في المستقبل. لقد تغيرت كل المعادلات السياسية في المنطقة، بعد الحرب في مصلحة إسرائيل، في المستقبل المنظور؛ وتتمثل أبرزها في:

1-انزواء الصراع العربي- الإسرائيلي، وتراجع الجهود الدولية في تسوية المشكلة الفلسطينية، وتقليص الولايات المتحدة ضغوطها على إسرائيل،وإباحتها ترسانتها، لتتزود منها ما يلزمها من سلاح، لمواجهة أي عدوان عراقي.

2- تنحى القضية الفلسطينية، وقضية الهجرة اليهودية معاً، عن الاهتمامات الدولية، وإجهاض ثورة الحجارة الفلسطينية.

3- تخليص إسرائيل من عدوين لها، العراق ومنظمة التحرير الفلسطينية، وانتهز الإعلام الإسرائيلي ذلك الواقع للقضاء على أي أثر من آثار تعاطف الرأي العام العالمي مع الانتفاضة الفلسطينية.

4- انفتاح أبواب التقارب بين إسرائيل والاتحاد السوفيتي،فانفتاح أبواب الهجرة اليهودية منه إليها، ثم إنشاء علاقات كاملة بعد الحرب بين البلدين، وبين دول شرقي أوربا وإسرائيل.

ولم تكتف إسرائيل بمكاسبها الوافرة تلك، فطمعت بمغانم اقتصادية أو عسكرية، تركزت في:

أ- السعي إلى حيازة السلاح والمعدات من الولايات المتحدة، تحت دعوى التوازن العسكري مع الدول العربية، ولاسيما مصر والمملكة العربية السعودية . ومن ثم إبرامها صفقة كبيرة، اشتملت على أحدث الأسلحة الأمريكية، بخاصة في مجال الطيران، والصواريخ الباليستية المضادة لصواريخ أرض/ أرض.

ب- الاستئثار بميزات اقتصادية، استأثرتها بعض الدول المتضررة بالفعل، من الغزو العراقي للكويت، ومطالبتها واشنطن بإسقاط ديونها العسكرية (4.5 مليارات دولار).

ج- المطالبة بمبلغ 10 مليارات دولار، كضمان لقروض أمريكية، على مدي السنوات الخمس التالية للحرب، للمساعدة على استيعاب المهاجرين السوفييت الجدد.

كما أسفرت حرب تحرير الكويت بداية الأطماع التركية في منطقة الموصل، وكركوك، وشمالى العراق مستعيرة الأدلة ومستعيدة الوثائق من العهد العثماني، وذلك ضمن إطار ما يطلق عليه " العثمانية الجديدة"، فقد وجدت تركيا نفسها، بعد حرب تحرير الكويت، راغبة في الاضطلاع بدور حيوي في محيطها، الذي كان في وقت مضي جزءاً من الامبراطورية العثمانية، وفي الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطي، وقد ولد هذا الوضع توجهات تركية، مبنية على التواصل الجغرافي، بين تركيا والعالم العربي، وفي إطار هذه التطلعات الجيدة اندرجت قضية الموصل وكركوك، وبنت تركيا مطالبتها بضمهما على دعامتين هما : وجود أقلية تركمانية في المنطقة، وثراء المنطقة بالنفط .

كما وضح الفكر التركي تجاه العراق، بعد الحرب، من خلال الخريطة، التي رسمها "أوزال" Ozil لعراق ما بعد الحرب، والتي تدعو إلى تقسيمه ثلاث دويلات: عربية وكردية وتركمانية. كان أوزال يهدف من وراء ذلك، إلى تسهيل ضمن شمالي العراق، الكردي والتركماني، إلى تركيا، سعياً إلى جعل تركيا دولة عظمي في المنطقة، غنية بالنفط والطاقة البشرية والنهضة. ومن أجل تحقيق الأطماع التركية في شمالي العراق، استغلت تركيا موضوع نشاط حزب العمال الكردستاني، لتخترق الحدود العراقية الشمالية. ففي 5 أغسطس 1991م، أي بعد انتهاء حرب تحرير الكويت بنحو خمسة أشهر، شنت القوات التريكة غارات جوية شاملة على قواعد الأكراد، في شمالي العراق، استمرت عدة أيام، واستهدفت بحسب البيان التركي، ضرب قواعد تابعة لحزب العمال الكردستاني. كذلك اخترقت القوات البرية التركية الأراضي العراقية وتوغلت فيها مسافة 5 كم، مستغلة انشغال العالم الغربي بجولات جيمس بيكر James Baker، وزير الخارجية الأمريكي، في منطقة الشرق الأوسط للبحث في مؤتمر السلام. وتجددت الهجمات التركية، في 13 أكتوبر 1991م، على مناطق العراق الحدودية، فبادر العراق إلى الاحتجاج لدي تركيا على عملياتها العسكرية المستمرة، عبر الحدود، وحذرها عواقبها الوخيمة، وطالبها بتوقف هذه الانتهاكات، حفاظا على علاقات حسن الجوار. غير أن تركيا، واصلت غزواتها، شمالي العراق، في نوفمبر 1992، متذرعة بالذريعة نفسها، تدمير قواعد حزب العمال الكردستاني. وأصبحت اعتداءاتها تتكرر على مدار الأعوام التالية .

كما أدت تداعيات حرب الخليج الثانية عام 1991م، والفترة التالية لها إلى تحول كبير في شكل الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، ومنطقة الخليج تحديداً، في اتجاهين:

الأول: اتساع نطاق التسهيلات العسكرية المقدمة للقوات الأميركية في قواعد، ومحطات، وموانئ، ومطارات، ومعسكرات، ومراكز الغالبية العظمى من دول المنطقة ذات العلاقة بالولايات المتحدة، أو حتى بعض الدول التى لا يبدو أنه تربطها علاقات سياسية قوية بها، وتتضمن تلك التسهيلات حق استخدام المجال الجوي وزيارة الموانئ واستخدام المطارات العسكرية وعمليات النقل الجوي والانتشار المتقدم وخدمات الوقود والصيانة وتخزين الأسلحة، إضافة إلى المناورات العسكرية المشتركة .

الثاني: تزايد عدد القواعد العسكرية الرئيسية بشكل غير مسبوق، ليصل إلى خمس قواعد عسكرية في دول الخليج وحدها. وتأتى أهمية تلك القواعد من أنها تشكل مراكز عمليات عسكرية رئيسية شبه متكاملة، تتمتع باستقلالية نسبية، وقدرة عامة على دعم عمليات قتال جوية أو برية أو بحرية، سواء من خلال تمركز عناصر من تلك القوات فعليا فيها، أو تجهيز القاعدة لانتشارها وقت الحاجة، وتتم إدارتها بموجب اتفاقات عسكرية مع الدول المضيفة لها. ويمكن ذلك القوات الأمريكية من إدارة عمليات عسكرية رئيسية بشكل سريع في اتجاهات مختلفة دون حاجة لخطط حشد كبرى، أو إتمام ذلك الحشد بشكل سريع .

هذه أهم وقائع الغزو العراقي للكويت الذي جر الويلات على الشعب العراقي نفسه قبل الشعب الكويتي الذي عاش كابوساً عابراً ومحنة مؤقتة بعد أن تم تحرير الكويت وعادت الحياة إلى طبيعتها، بينما دولة العراق تكاد تتلاشي والشعب العراقي يسومه كل يوم سوط عذاب القوات الأمريكية والغربية المتحالفة عليه، ومن الإرهاب الأعمى الذي يحصد كل يوم أرواحاً بريئة  بالجملة .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم