قضايا

الحضارة.. والفكر الديني

مجدي ابراهيمعلى أسس قوية لا شك فيها تقوم فلسفة الحضارة، ولا تقوم على أساس واهي قط، ولا تخلو حضارة قائمة أو كانت في الزمن القديم قائمة ثم ثبت قوامها عبر التاريخ من تلك الأسس القوية التي لا ريب فيها، وأهمها على الإطلاق أساس الإيمان بالغيب (الدين) أو (البعد الروحي).

والإيمان بالله إيمان بالغيب هو قوة جليلة من قوى الغيب المجهول؛ فلا تقوم حضارة قط بمعزل عن الإيمان بالغيب على تنوِّع ضروبه وتعدد أشكاله، واختلاف طرق التعبير عنه، وتفاوت مقدار القوة والضعف في أساليب التقرُّب إلى الله سواء كانت تلك الأساليب ناقصة أو كانت كاملة، المهم أنها تتخذ شكلاً من أشكال الإيمان.

ولا يمكننا النظر بعين الاعتبار إلى حضارة من الحضارات ونحن لم نضع هذا الأساس الصالح (أساس الإيمان) الذي تقوم عليه في مقدمة أنظارنا؛ لأننا إذا نحن جَرَّدنا الحضارة من تلك القوة الإيمانية، كنا كمن يجردها عن بعدها الروحي وعن أخص خصائصها : وهو فلسفتها؛ محاولة بتر الفطرة البشرية منها؛ فما من حضارة من الحضارات إلا وللكيان الإنساني فيها قوام؛ فالإنسان هو هو الفاعل في قوام الحضارة وقيامها؛ وللإنسان فطرة، والفطرة هى اللطيفة الرقيقة الدقيقة التي تحفظ جوهر الإنسان فيستقبل بمقتضاها روح التدين في أعمق أعماقه.

ومن شعائر الإيمان بالله في الوجدان الإنساني شعيرة "الطاعة" والولاء، وهى الشعيرة التي تؤكد أن الدين سلامة للفرد قبل أن يكون سلامة للمجموع، وهو ترياقٌ له قبل أن يكون ترياقاً للجماعة البشرية؛ إذْ لا صَلَاحَ لجماعة من البشر دون اعتقاد صريح يتقوَّم به الأفراد ويتهذبون : فرداً فرداً، ثم فئة فئة، ثم جماعة جماعة، فمجتمع مجتمع، ثم كيان بشري هائل من الأفراد والجماعات.

وعلى هذا الأساس الديني قامت الحضارات في الشرق القديم ثم تنقَّلت الأسس من مراحل التّدِّين إلى مراحل التحرر من الدين في حضارات الغرب القديم؛ إذْ كان الولاء للعقل مجرَّداً عن الأسطورة، وصار العقل (ديناً) يفرض على المتدينين نمطاً آخر من الإيمان غير النمط الذي كان مفروضاً في حضارات الشرق القديم، لعله هو نمط النظر والبحث والتفتيش عن الحقائق الغيبية بمعيار عقلي لم يكن سائداً من قبل ولا ظاهراً بمثل هذا الظهور الكاشف والوضاءة البادية، لكنه في الوقت نفسه لم يكن منفصلاً عمَّا كان سائداً قبل دهور طويلة سبقت في عمر البشرية وتجاربها المديدة.

كانت الحضارة الفرعونية تجمع بعض الشعائر والطقوس والتعاويذ ممثلة في "متون الأهرام"، وهى المتون التي تؤلف خزانة من التجاريب، كانت تمارس في حياة المصري القديم، وكانت تتضمن بعض العبارات الأدبية التي أنشأتها العزلة والعكوف على العبادة في المعابد المقدسة؛ الأمر الذي يرشدنا إلى أهمية "الدين" في حياة المصريين القدماء، تماماً كما يرشدنا إلى عمل الطاعة والقربات، ذلك العمل الذي يقترن بطبيعة التدين المصري خاصة، ولا ينفصل عن لباب الإيمان.

وقد كشف العالم الجليل "هنري برستد" في كتابه "فجر الضمير" عن الغاية المهمَّة من "متون الأهرام"، التي كانت في الأصل تدور على ضمان سعادة الملك في الحياة الأخرى، فأبرز شيء فيها ذلك الاحتجاج الملح؛ بل ذلك الاحتجاج الحماسي ضد الموت. وقد اعتبرها " برستد" صوراً لأقدم ثورة عظيمة قام بها الإنسان ضد العظمة والسكون العظيمين اللذين لم يُعَدِ منهما أحد. وتحتوي متون الأهرام على ستةٍ موضوعات من الشعائر والطقوس والعبارات هى على الترتيب : (1) شعائر جنازية. (2) شعائر خاصة بالقرب المأتمية عند القبور. (3) تعاويذ سحرية. (4) شعائر قديمة خاصة بالعبادة. (5) أناشيد دينية قديمة. (6) أجزاء من أساطير قديمة وصلوات وتضرعات لفائدة الملك المتوفى.

والملاحَظ على هذه المتون أن أسمى موضوع فيها تناولته هو الحياة : حياة الملك الأبدية، إلا أنها كانت تتألف من مصادر متنوعة جداً، ويقول "برستد":" ولما كانت كل طريقة وكل نفوذ يستعمل للوصول للغرض المقصود (الحياة بعد الموت)؛ فإن الكهنة الذين وضعوا تلك المجموعة من الأدب القديم، والتي هى أقدم ما وصل إلينا للآن، ضمَّنوها كل أنواع التعاويذ القديمة التي كانت تعد في نظرهم مرعية مستجابة، أو التي وجدوا أنها تفيد لذلك الغرض".

وقد نقل العبرانيون إلى أدبهم الأشكال الأدبية للمتون الأهرامية القديمة؛ لأنهم وجدوا فيها تركيباً شعرياً مستساغاً كان على هيئة أبيات من الشعر الموزون المقفى، ظاهر فيه التوازن بين كلماته ومعانيه. واحتوت " المزامير" العبرية أدباً منقولاً عن ذلك التركيب الشعري في متون الأهرام، عُرف باسم " توازن الأعضاء" بعد ذلك بألفي سنة، ويرجع استعمال ذلك التركيب الشعري إلى الألف الرابعة قبل الميلاد. وفي هذه المتون القديمة نرى رمزاً للطاعة وفرائض التراتيل لا يستوفيه الحديث هنا، كما نجد لهذا كله أصلاً من أصول التعظيم للملك. كان الملك يُشاهد كثيراً على رأس موكب باهر مخترقاً طرق مدينته، يتقدَّمه السعاة والمقدِّمون مفسحين أمامه الطريق، وقد سَرَّت طلعته البهية عامة الشعب فقابلوه وهو يعْبر الشاطئ الأخر وينزل من الزورق الملكي الوهاج؛ قابلوه بتهليلات الفرح مُلقين أحذيتهم وملابسهم، راقصين أمامه طرباً، رافعين أصواتهم بالثناء والقبول وبشاشة الترحاب. أو يُرى عند باب قصره، وقد أحاطت به فخامة البلاط وبهاؤه، أو يُشاهد مرتقباً عرشه العظيم المزيَّن برؤوس الأسوُد وحوافر الثيران.

ومما نقله العلامة "برستد" عن "متون الأهرام" أن "الملك يُشاهد في قاعة قصره وهو جالس على عرشه العجيب وصولجانه المدهش في قبضته، ثم يرفع يده نحو أولاده ليقفوا أمام هذا الملك، ثم ينزل يده مشيراً نحوهم فيجلسون ثانية". فهذه المشاهد والرؤى كانت تصوِّر - مما لاشك فيه - عقيدة المصريين القدماء في الطاعة والولاء، وتفتح أمام النظر عقائدهم في الحياة الأخرى. ولا يتبادر إلى الأذهان من الوهلة الأولى أن هذه المشاهد ساذجة لمجرد أنها تصف مشاهدة الملك فقط في حال ظهوره أو حال جلوسه على عرشه؛ فقد تكون الصور التي كشفت عنها "متون الأهرام" هى أقدم وأحق صورة مرسومة عن طبيعة المشاهد الملكية القديمة، وقد يستخدمها حديثاً المصورون والنسَّاخون ممَّن يريدون أن يعرفوا شيئاً عن عقائد القدماء وطبائعهم؛ فهذه المتون الأهرامية في مشاهدها ليست ساذجة بمقدار ما هى عن زمنها كاشفة ومعبرة ووضاحة.

فالآلهة هم الذين كانوا يُلقون نعالهم وملابسهم ليرقصوا طرباً أمام الملك عند وصوله حينما يَعْبُر النيل السماوي، وهم الذين نراهم يقومون بتجفيف أعضاء الفرعون عندما يستحم مع إله الشمس في "بحيرة البردي". والآلهة هم الذين يفعلون في الحياة الأخرى ما كان يفعله الحُجَّاب والخدَم والحشم للملك الفرعون في عالم الأرض.

وفي أمم الهند القديمة كانت "الطاعة" رمز الإيمان تكليفاً من شعائر الكُهَّان والمتعبدين. والفرق بينها وبين الأمم اليونانية مثلاً هو فرق بين الثرى والثريا، أو بين الأرض من شمم السماء، أو بين حكمة العقل والنظر والتجريد وبين غياب العقل وركل النظر وضرب التجريد؛ فقد كانت الأسطورة في الديانة الهندية القديمة هى الأشيع، ولم تجرْ سنَّة العبادة في الهياكل والمعابد على نظام اليونان من تجريد وتعقل للأمور الغيبية وفروض المعقول من المباحث والأفكار؛ ولكنها كانت عبادة ممزوجة بعناصر الاعتقاد في مجموعة من الأرباب في الهياكل والمعابد، منها ما يتخذ صورة الحيوان وعناصر الطبيعة، ومنها ما يتخذ شكل الأوثان والأنصاب، وكثير منها ما يتطلب من سدنته أن يتقربوا إليه بالبغاء المقدس وسفك الدماء.

كانت شعائر الهند في الطاعة والولاء لا ترقى إلى التنزيه بحال، ربما كانت أقرب صورة مرسومة في أدبياتهم إلى التنزيه عقيدتهم في "النرفانا" : مصدر الخلاص من الآلام البشرية والرغبات والأهواء الشخصية؛ فإذا أراد الرجل أن يصل إلى ملكوت "النرفانا"؛ فما عليه إلا أن يقتل كل شهوة من نفسه ليثب الوثبة التي لا عودة له بعدها إلى الحياة الدنيا وهى وثبة روحية أقرب إلى العدم منها إلى الوجود : حالة من فناء الذات البشرية فناء تاماً تلحق صاحبها بأرواح الآلهة. غير أن عقيد الهنود في الفناء عقيدة معطلة لا ينتظر منها صلاح نفسي أو خُلقي؛ لأنها العقيدة التي تجرِّد النفس من شواغل الأجساد وشواغل الأرواح وتتساوى فيها أرواح الآلهة وأرواح البشر في حالة "النرفانا" ابتغاء السعادة الأبدية.

وكانت فكرة الطاعة في حضارة الرافدين واجبة لإقامة المجتمع ولبناء الدولة؛ فلابد أن يطيع الفرد ربّ الأسرة، ثم رأس المجتمع والآلهة، لابد من طاعة السّلطة الحاكمة التي يقوم عليها أساس المجتمع ثم يستقيم من خلالها بناء الدولة؛ فالجنود بلا ملك كقطيع بلا راع. وتقول أنشودة "أصل الخليقة" أن السبب في وجوب طاعة أفراد المجتمع البابلي للآلهة والسلطة، هو أن الغرض من خلق الإنسان كان عبادة الآلهة. ومن أجل ذلك؛ كان من الواجب على العبد أن يطيع خالقه وصانعه، وكان ينشد من وراء ذلك الجزاء والثواب من الدنيا التي يعيشها، ولم يكن هناك إلزام من الآلهة بثواب الفرد نتيجة خير قدمه، ثم تطورت العدالة إلى أن أصبحت حقاً من حقوق الفرد على الدولة كما هو واضح في شريعة حمورابي.

وكان الإيمان عند اليونان مقروناً بالسَّبْح الهائل للعقل البشري الذي لا يتقيد بغرض غير ما يراه صالحاً متسقاً مع رؤيته هو، ولا يعتد بشعيرة من الشعائر إلا شعيرته الخاصة التي يحسبها دلالة على التفكير الصائب والنظر السديد.

ولم تكن الطاعة في الفلسفة اليونانية غير طاعة من العقل إلى العقل تهدي إلى مفهوم الإلوهية؛ بغض النظر عما إذا كان هذا المفهوم ناقصاً غير مستوفي شروط الكمال المشروط تماماً كما هو الحال في عقائد التوحيد في الأديان الكتابية.

ربما إذا تجوَّزنا قلنا إن الطاعة كانت عند اليونان تستلهم الإيمان من واقع حرية العقل في التفكير والتدبير؛ فهى على هذا أقرب إلى إيمان البحث والنظر العقلي منه إلى إيمان القلب والذوق والاعتماد على الوجدان. فالفيلسوف اليوناني فيلسوف نظري : العقل نقطة البدء الأولى والأخيرة في بحوثه ونظرياته وأفكاره وتصوراته للكون والحياة.

والعقل عند الفلاسفة لا يتقيَّد بفرائض العبادة أو شعائر القربات التي يعتد بها الحكم الديني ويتقيد بها من يأتمون به من أتباعه في الحياة العامة والحياة الخاصة. للعقل دينه الذي لا يعلو عليه في نظر الفلاسفة دين. والفلسفة إنْ هى إلا دين العقل كما يقول هيجل.

فلا طاعة - إذن - عند اليونان غير طاعة التقديس العقلي : منطقه، وفروضه، ولوازمه، والمضيء معه إلى أقصى غاياته. ومن ثمَّ لزم أن يكون الفكر الديني كاشفاً عن أساس في الحضارات، هو بغير ريب أساس البحث بالعقل والنظر العقلي في شئون غيبية. والعقل قد يهدي إلى الإيمان، وإنْ كان مشوباً بالنقص يلحقه القصور والتعطيل.

وكان العبريون في عقائدهم يوغلون إيغالاً بغيضاً في التجسيد المادي القبيح؛ فإذا صرفنا النظر عن عقيدتهم في الإلوهية التي جمدوا عليها، وظنوا أنهم شعب الله المنزَّه المختار، وجدنا أنهم فوق هذا الجمود البغيض يجسّدون الفكرة الإلهية أخس تجسيد فيصفون الإله بأنه يحب ريح الشواء؛ وأنه يمشي بظلال الحدائق ليتبرَّد بهواها النقي، وأنهم كانوا يسوون بينه وبين "عزازيل" شيطان البريَّة ردحاً من الدهر فيتقربون إليه بذبيحة ويتقربون إلى الشيطان بذبيحة مثلها.

فلما ظهرت المسيحية لتواجه هذه الركود المادي، وتجُرِّد شيئاً فشيئاً من هذا التجسيد الممقوت، جاءت رد فعل لكل إيغال مادي قبيح حتى اتُّهموا عيسى بن مريم - عليه السلام - من أكثر أحبارهم بالمروق عن ديانة اليهود؛ لأنه ظهر وكان يواجه بدعوته بني إسرائيل بصفة خاصة، لتجيء المسيحية روحية خالصة.

ولما أن مضى عصر المسيح على أتمِّه، ولم يكن فيه ما من شأنه أن يوحي بالتطرف والغلو، أقبل تلاميذه وكتاب الأناجيل من بعده، وجاء عصر بولس الرسول الذي ظهرت فيه عقيدة الخلاص، ثم اتصلت المسيحية بعد هذا العصر : عصر بولس الرسول بالحضارات الأجنبية، فظهرت في عقائد المسيحيين عدة مصادر أهمها المصدر اليوناني، كما اتصلت من جانب أخر بالأمة المصرية.

ولأول مرة بعد هذا العهد الطويل تظهر عقيدة إلهية جديدة في مذهب العبريين : عقيدة الثالوث المقدَّس المتكوِّن من الآب والابن والروح القدس؛ فالمسيح هو مخلص البشرية وهو كفارة عن الخطيئة التي كانا أرتكبها آدم وحواء عندما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الاقتراب منها، هو كفارة أو " كبش فداء" لبني آدم، وهو ابن الله.

وظهر الإسلام وعقيدة المسيحيين على هذا النحو؛ لا يزيد عليها إلا انقسامهم إلى مذهبين أو فريقين : فريق يؤمن بأنه ذو طبيعة إلهية واحدة لاهوتية، فهو إله.

وفريق يؤمن بأنه ذو طبيعتين : إلهية وإنسانية، تجمع بين اللاهوت والناسوت. ويقرر النسطوريون أنه ذو طبيعة إنسانية وليس فيه من الإله إلا نسبة التشريف، ومن أجل ذلك طردت هذه الفرقة ولم تدم طويلاً بين الفرق المسيحية.

وبظهور الإسلام ظهرت عقائد التتميم والتصحيح، وظهرت الدعوة إلى أم العقائد تدعو إلى إله واحد منزه عن لوثة الشرك وبقايا الزندقة والإلحاد، مُنَزَّه عن جهالة العصبية وسلالة النسب، مُنَّزه عن التجسيد والتشبيه الذي تسرَّب من بقايا الوثنية إلى الأديان الكتابية؛ فالله الذي يؤمن به المسلمون إله واحد لم يكن له شركاء : "سبحانه وتعالى عما يشركون". وما هو بربِّ قبيلة ولا سلالة يؤثرها على سواها بغير مأثرة، ولكنه هو "رب العالمين". خلق الناس جميعاً ليتعارفوا ويتفاضلوا بالتقوى لا بشيء آخر غيرها؛ فلا فضل بينهم لعربي على أعجمي ولا لقرشيي على حبشي إلا بالتقوى والعمل الصالح.

إله واحد منزه عن لوثة الشرك وبقايا الزندقة والإلحاد. إله واحد ليس كمثله شيء، لا تحده الحدود، ولا تحصره الأذهان والعقول.

فإذا نحن عرفنا فكرة الإله الواحد الذي هو أكمل التصورات التي أخرجتها إلى النور قريحة الإنسان المفكر من مستودع الفطرة، ومن مخزون العقائد والديانات؛ عرفنا بالتالي هاته الحضارة التي تُقام عليها، فلن تكون أبداً من الضعف بحيث تتآكل وتنمحي كما غبرت حضارات غيرها، تآكلت وأصبحت مع الأيام في ذمة التاريخ؛ لأن الحضارة التي تقوم على الإيمان بفكرة "الإله الواحد" هى الحضارة التي تبقى فتتسع ولا تنقبض عن لقاء التكامل لمستويات الترقي في عمر الإنسانية ما دامت هى أدعى في ذاتها للبقاء.

وإذا كان الإيمان بالله في الضمير البشري طاعة وولاءً للسَّادة والأرباب أو للكهنة والسلطات؛ فهو في الإسلام طاعة لله وحده لا تعرف مكاناً للأغيار، تجيء في مكانة الشعيرة الثابتة التي تفتح الأجواء أمام حرية الأرواح والضمائر الإنسانية؛ إذْ تنقسم بدورها إلى طاعتين : طاعة تكليف، وطاعة تشريف : الأولى لا تنفصل عن الثانية، ولا الثانية يمكنها أن تقوم بغير الأولى؛ طاعة التكليف بمثابة الفروض.

وطاعة التشريف بمثابة النوافل. والإيمان بالله على التعميم خلاصة بحث ونظر وتفتيش في حقائق الأديان، كما أنه وديعة ربانيَّة من ودائع الفطرة وخزائن الطوية وذخائر الضمير البشري الذي من شأنه أن يستقبل آفاق الغيب وهو موصول العلاقة مع خالقه، وممدود العون والرعاية مع القوة القوية القادرة التي ألزمته طاعة التكليف؛ فلئن كان عرفها (= طاعة التشريف) كان يسيراً عليه أن يأتيها على قسطاس الرضى والحبور.

والإيمان بالله هو من القضايا الكبرى بل هو لبُّ قضية المتدينين؛ فليس هنالك عقيدة صالحة للاستقبال أجدر بالنظر والوقوف من عقائد المتدينين في كافة الأديان؛ الكتابية وغير الكتابية على السواء : عقائد المتدينين هى هى عقائد الإيمان بالله في شتى الحضارات؛ لأن الإيمان بالله شوقٌ من أشواق النفس البشرية لا فَرْقَ فيه بين شرق وغرب، ولا بين شمال وجنوب، ولا بين عربي وأعجمي، لكنه قد يتخذ أشكالاً في طريقة التعبير عنه تتفاوت في القوة والضعف، وفي الكمال والنقصان، كما تتفاوت وتختلف بين التنزيه المطلق للذات الإلهية وبين التمثيل بالمحسوسات والأشياء المتناهية، لتقريب الصور المجرَّدة وتجسيد اللامحدود واللامتناهي واللامرئي.

ولا يخلو عصر من العصور - كما تقدَّم فسبقت إليه الإشارة - ولا زمن من الأزمنة من تدَيِّن يلازم فئات الناس حتى ليستوفونه إلى درجة الانقطاع إليه أو ليتخذونه لهواً ولعباً إلى درجة العبث والانخلاع عنه، أو ليخلطون أحياناً الصالح من العمل بالطالح المذموم؛ فلا يدل ذلك إلا على أن قضية الدين هى قضية المتديِّن الذي تربطه بالغيب روابط الفطرة والضمير أو تحثه عليه بواعث العقول وتصورات الأخلاد والأذهان.

وليس معنى هذا أن لا توجد فروق ظاهرة بين "الدين" و"التدين" و"علم الدين"؛ ليس هذا هو المقصود، هناك فروق بين الثلاثة بكل تأكيد؛ فالدين شيء، والتدين شيء آخر، وعلم الدين هو ما يُقام على الدين من علوم وتفسيرات وتأويلات وتخريجات وجهود بشرية.

أما التدين فهو سلوك أشخاص وأفراد للدين قد يكون هذا السلوك صحيحاً، وقد يكون خطاءً، غير أنه تطبيق للعقيدة قد ينحرف عن المبدأ في حالة التطبيق بالخطأ، وقد يسلم من الانحراف في حالة التطبيق الصواب. على أن الدين في ذاته بعيد عن التدين الذي يُرجع فيه إلى الأشخاص؛ فالدين وحي بإطلاق، ورسالة سماوية يُراد تبليغها إلى الناس؛ فالدين على هذا؛ قضية المتدين بغض النظر عن الصحة والبطلان؛ لأنه أساس الحضارات وفلسفتها؛ ولأنه كذلك قضية كل مَنْ يعرف أن من حق التديِّن عليه؛ وعلى بني جنسه؛ أن يكون له شأواً بعيداً مفروضاً عليه لا من خارج، ولكن من وازع الضمير وحركة البواعث والأعماق.

 

د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم