تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

المناظرة التاريخية بين أبي سعيد السيرافي ومتي بن يونس.. قراءة فلسفية (1)

محمود محمد عليتعد مناظرة أبو سعيد السيرافي لمتى بن يونس بشأن المنطق اليوناني  من النصوص الأكثر ثراء في تراثنا العربي-الإسلامي، ومما يزيد من ثرائها، قابليتها للتجدد، وانفتاحها على كثير من القراءات والتأويلات، ولا أدل على ذلك من تناول كثير من الباحثين لها في ثنايا كتبهم ومصنفاتهم .

فما هو الجو العام الذي جرت في هذه المناظرة؟ وإلى أي حد يمكن الاقتناع بما حققه السيرافي من الغلبة في هذه المناظرة؟

وفي الإجابة علي السؤال، يمكن القول بأن القرن الرابع الهجري قد شهد نهضة فكرية غير مسبوقة في تاريخ الثقافة العربية، ويمكن أن نرجع أسباب هذه النهضة إلى اتصال الحضارة العربية الإسلامية بثقافات الحضارات المجاورة، سواء بشكل مباشر كما حصل مع الثقافة  الفارسية، أو بشكل غير مباشر كما هو الشأن بالنسبة  للثقافة  اليونانية  التي نقلت إليها عن طريق الترجمة . وقد كان لعلماء السريان الدور الكبير في ترجمة الكتب اليونانية إلى السريانية ثم إلى العربية، فكانوا هم القنطرة التي عبرت عليها علوم اليونان إلى الثقافة العربية، وكان الخلفاء إبان هذا الانفتاح على الثقافات الأخرى، يقربون علماء السريان ويستفيدون من خبرتهم  في ترجمة الكتب اليونانية ونقلها إلى العربية . ولعل هذه المناظرة التي بين أيدينا تعكس بشكل واضح دور السريان في نقل الثقافة اليونانية إلى العرب، ويتمثل ذلك في شخص "متى بن يونس"، باعتباره  من الفلاسفة السريان .

بداية يمكن أن نقول إنّ  المناظرة التي جمعت بين "أبي سعيد السيرافي" النحوي و"متى بن يونس" الفيلسوف هي مناظرة حوارية حجاجية بامتياز، ذلك أن الجو الفكري الذي ساد المناظرة وطغى على حجج المتنافسين عكس خلافات حادة وجذرية طالت طبيعة كل علم وطرق استعماله .

ولقد ذكر لنا "أبو حيان التوحيدي" نصوص تلك المناظرة الشهيرة التي جرت في مجلس " "الفضل بن جعفر بن الفرات "، وزير الخليفة المقتدر سنة 320 هـ، ودارت بين "أبي سعيد السيرافي" النحوي وبين الفيلسوف المنطقي "أبي بشر متي بن يونس" في بغداد، وذلك في كتابين هما " الإمتاع  والمؤانسة "  و" المقابسات "؛ حيث وقعت المناظرة وسط جو من الصراع الفكري بين المناطقة الذين أعلو من شأن المنطق، وذهبوا إلي أنه لا حاجة بالمنطق إلي النحو، بينما يحتاج النحوي إلي المنطق . ليس هذا فحسب، بل إن أبا بشر" متي بن يونس"، هاجم النحاة وآثارهم بقوله: " إن النحو يبحث أساساً في اللفظ، بينما المنطق يبحث في المعني، وأن المعني أشرف من اللفظ.. وأنه لا سبيل إلي معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام به.

أما النحويون وهم الفريق الذي واجه المناطقة، فقد ساءهم ما حمله عليهم المناطقة، واختاروا " أبا سعيد السيرافي" النحوي البارع المحيط بدقائق النحو والمنطق والجدل المناظرة لينتصر لهم، وقد استطاع أن يحرز نصراً، ونجح في رد " متي بن يونس" ودحض حججه وإظهاره بمظهر الجاهل باللغة والنحو .

وننتقل الآن إلي عرض حثيات المناظرة بشئ من التفصيل ؛ حيث قال "أبو حيان" ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير "أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات" بين "أبي سعيد السيرافي" و"أبي بشر متى" واختصرتها. فقال لي اكتب هده المناظرة على التمام فإن شيئاً يجري في ذلك المجلس النبيه وبين هذين الشيخين بحضرة أولئك الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه وتوعى فوائده ولا يتهاون بشئ منه .

ويستطرد "أبوحيان "فيقول: " فكتبت حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة، فأما علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة قال: لما انعقد المجلس سنة عشرين وثلثمائة قال الوزير "ابن الفرات" للجماعة.. أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة "متى بن يونس" في حديث المنطق فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة، والشك من اليقين، إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده واطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه، فأحجم القوم واطرقوا، فقال ابن الفرات:" والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه، وإني لأعدكم في العلم بحاراً وللدين وأهله انحصاراً وللحق وطلابه مناراً، فما هدا التغامز والتلامز اللذان تجلون عنهما؟ فرفع "أبو سعيد السيرافي" رأسه وقال: أعذر أيها الوزير فإن العلم المصون في الصدور غير العلم المعروض في هذا المجلس ، وعلى الأسماع المصيخة، والعيون المحدقة، والعقول الجامدة، والألباب الناقدة، لأن هذا يستصحب الهيبة، والهيبة مكسرة، ويجتلب الحيا،  والحيا مغلبة، وليس البراز في معركة غاصة كالمصراع في بقعة خاصة ؛ فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد فاعتذارك عن غيرك، يوجب عليك الانتصار لنفسك، والانتصار لنفسك راجع على الجماعة بفضلك . فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما يأمره هجنه، والاحتجاز عن رأيه إخلاد إلى التقصير، ونعوذ بالله من زلة القدم وإياه نسأل حسن التوفيق والمعونة في الحرب والسلم".

من النص السابق يتضح لنا أن انطلاق المناظرة جاء بناء على طلب الوزير "ابن الفرات "، محدداً موضوعها وهو المنطق، وطالب أن ينتدب واحد من الجماعة ليناظر "متى بن يونس" ويجزم أن مناظرته تدخل في إطار الدفاع عن الدين ونصرة الحق ويشكل "ابن الفرات" هنا الصوت الثالث في المناظرة وحضوره غاية حجاجية في  حد ذاتها.

علاوة علي أنّ هذه المناظرة قد جرت زمن تغلغل منهجية علوم اليونان في صياغة العلوم اللسانية والإنسانية عند العرب، ويبدو من خلال تتبع مراحلها الحوارية والحجاجية أنّ أبو سعيد كان يبتغي الحد من انتشار المنطق بين أهل العلوم الأخرى، نظراً إلى مخاطره على الفكر والدين والجمهور بشكل عام، ويتضح ذلك من أسس المناظرة  ؛ حيث يبرز أبو سعيد من خلالها قصور المنطق في طرح أمور تفوق مجالاته نظراً إلى محدودية العقل وجهل المنطقي بأسرار اللغة، وهو بأمس الحاجة إليها عند التعبير والنقل. وتتلخص هذه الأسس تباعاً كما وردت على لسان المناظرين بمنهجية جدلية تسلسلت بين السائل النحوي والمجيب المنطقي مؤتلفة على النحو التالي:

بناء علي طلب الوزير ابن الفرات، نري أن أبو سعيد يتعهد بتفنيد آراء "متي بن يونس" الذي ادعي أن الطريقة الوحيدة لتمييز الحق من الباطل هي بوساطة علم المنطق: فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد.. ثم واجه متى فقال: حدثني عن المنطق ما تعني به فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطئه على سننٍ مرضيٍ وطريقة معروفة. قال متى: أعني به أنه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإني أعرف به الرجحان من النقصان، والشائل من الجانح. فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية؛ وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل إذا كنا نبحث بالعقل؛ وهبك عرفت الراجح من الناقص عن طريق الوزن، فمن لك بمعرفة الموزون أيما هو حديد أو ذهب أو شبه أو رصاص فأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزون وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها؛ فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك، وفي تحقيقه كان اجتهادك، إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه، فأنت كما قال الأول: حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء.. وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم