قضايا

المناظرة التاريخية بين أبي سعيد السيرافي ومتي بن يونس.. قراءة فلسفية (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن المناظرة التي دارت بين السيرافي ومتي بن يونس، حيث يقول أبو سعيد : وبعد، فقد ذهب عليك شئ هاهنا، هل كل ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يوزن، وفيها ما يكال، وفيها ما يذرع، وفيها ما يمسح وفيها ما يحرز، وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئية، فإنه على ذلك أيضاً في المعقولات المقررة، والإحساسات ظلال العقول تحكيها بالتقريب والتبعيد، مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة. ودع هذا، إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضياً وحكماً لهم وعليهم، ما شهد لهم به قبلوه، وما أنكره رفضوه؟ قال متى: إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة، والناس في المعقولات سواء ألا ترى أن أربعةً وأربعة ثمانية سواءٌ عند جميع الأمم، وكذلك ما أشبهه" .

وهنا يعترض أبو سعيد علي استخدام مثل هذه الأمثلة التمويهية في المناظرة، ويؤكد أن الطريقة الوحيدة في الأصول إلي المعاني المدركة هي اللغة :" قال: أنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها ? وقد عفت منذ زمان طويل، وباد أهلها، وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم بتصاريفها، على أنك تنقل من السريانية، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغةٍ أخرى سريانية، ثم من هذه إلى أخرى عربية؟

ويذكر "متي" انجازات أهل اليونان في الفلسفة والحكمة، بينما يرفض "أبو سعيد" هذا الادعاء قائلاً بأن العلم والحكمة مبثوثة بالتساوي بين جميع الأمم . كما يرجو "أبو سعيد"  لو أن "متي"  يصرف عنايته إلي معرفة اللغة العربية لأنه يحاور بها ويدارس أصحابه بمفهوم أهلها ويشرح كتب اليونانيين بعادة أصحابها، لعلم أنه غني عن معاني اللغة اليونانية . ثم يختبر "أبو سعيد"  "متي بن يونس" اختباراً أخيراً، فيسأله عن معاني حرف " الواو" :" ودع هذا، أسألك عن حرف واحد، وهو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميزة عند أهل العقل، فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به وتباهي بتفخيمه، وهو الواو ما أحكامه؟ وكيف مواقعه? وهل هو على وجه أو وجوه؟ فبهت "متى" وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه، لأنه لا حاجة بالمنطقي إليه، وبالنحوي حاجة شديدة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض، وإن عثر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى .

وهذه العبارة هي محور الجدل برمته، حيث يستعد "أبو سعيد" لهذا التحدي فيقلب المناظرة رأساً علي عقب:" والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو، ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى، أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي، ولهذا كان اللفظ بائداً على الزمان، لأن الزمان يقفو أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة، ولهذا كان المعنى ثابتاً على الزمان، لأن مستملى المعنى عقل، والعقل إلهي، ومادة اللفظ طينية، وكل طيني متهافت، وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها، وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربية لها اسماً فتعار، ويسلم لك ذلك بمقدار، وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك أيضاً من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة. فقال متى: يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان.

غضب أبو سعيد من جواب "متي" فأجابه قائلاً :" بل أنت إلى تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى تعرف المعاني اليونانية، على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية، كما أن اللغات تكون فارسية وعربية وتركية، ومع هذا فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر، فلم يبق إلا أحكام اللغة، فلم تزري على العربية وأنت تشرح كتب أرسطوطاليس بها، مع جهلك بحقيقتها? وحدثني عن قائل قال لك: حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها، حال قومٍ كانوا قبل واضع المنطق، أنظر كما نظروا، وتدبر كما تدبروا، لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة، والمعاني نفرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاد والاجتهاد. ما تقول له? أتقول: إنه لا يصح له هذا الحكم ولا يستتب هذا الأمر، لأنه لا يعرف هذه الموجودات من الطريق التي عرفتها أنت؟  ولعلك تفرح بتقليده لك - وإن كان على باطل - أكثر مما تفرح باستبداده وإن كان على حق، وهذا هو الجهل المبين، والحكم المشين".

ويستطرد أبو سعيد فيقول:" ومع هذا، فحدثني عن الواو ما حكمه? فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئاً، وأنت تجهل حرفاً واحداً في اللغة التي تدعو بها إلى حكمة يونان، ومن جهل حرفاً أمكن أن يجهل حروفاً جاز أن يجهل اللغة بكمالها، فإن كان لا يجهلها كلها ولكن يجهل بعضها، فلعله يجهل ما يحتاج إليه، ولا ينفعه فيه علم ما لا يحتاج إليه. وهذه رتبة العامة أو رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير، فلم يتأبى على هذا ويتكبر، ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة، وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفي القياس وصحيح البرهان? وإنما سألتك عن معاني حرف واحد، فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها، وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق، والتي لها بالتجوز، سمعتكم تقولون: إن في لا يعرف النحويون مواقعها، وإنما يقولون: هي للوعاء كما يقولون: إن الباء للإلصاق، وإن في تقال على وجوه : يقال الشئ في الإناء والإناء في المكان والسائس في السياسة والسياسة في السائس" .

ونكتفي بهذا القدر من السرد لهذه المناظرة، ولننظر ما قاله الدكتور "علي أبو المكارم"، وهو يعلق علي هذه المناظرة قائلاً:" أنها لا تعكس موقف أبو سعيد الذي خضع في شرحه لسيبويه "للمنهج المنطقي تقعيداً وتعليلاً"، "وإنما هي تعكس مذهبه الفقهي والاعتزالي في الهجوم على المنطق" .

ومع احترامنا لهذا الرأي، إلا أننا نعتقد أن هذا ليس هو السبب الحقيقي، وإنما هناك سبب آخر وهو كما قال المستشرق فرستيج :" هو ادعاء متي أن وظيفة المنطق أن يكون أداة للتمييز بين الحق والباطل . وأن معني هذا الادعاء هو أن عالم المنطق أكثر تأهيلاً من النحوي في الحكم علي صحة المعاني، حيث ينبغي للنحوي أن يشغل نفسه فقط بالتعبير عن تلك المعاني في لغة معينة . وإذا قُبل هذا الادعاء لدي المجتمع الإسلامي – وهذا ما كان يخشاه الكثير من العلماء – فهذا يعني الاستسلام الكامل لممثلي الحضارة الوثنية الأجنبية . لذلك كان لزاماً علي "أبي سعيد" أن يبين بطلان ادعاءات "متي" وادعاءات رفاقه" .

وكان منهج "متي" في أبسط صوره – كما هو وارد في الجدل –  يعني أن تلك الألفاظ تنتمي إلي المستوي اللغوي، وهي عرضية، بينما تنتمي المعاني إلي مستوي أعلي . وهذه المعاني كونية موجودة لدي جميع الأمم .. وهنا يرفض أبو سعيد مبرراً أن كلمة "معني" عند النحويين ذات كينونة لغوية متأصلة وهي الناحية الدلالية للتعبير الصوتي، فلكل لغة معانيها الخاصة بها . وعندما يُنظر إلي الأمر من هذا المنظور يتضح أن " أبا سعيد " لم يكن يقبل آراء "متي" مطلقاً، ولم يتحده لمجرد المناظرة وحسب . ولو رغب أي واحد في شرح أفكار أرسطو فعليه أولاً أن يكتسب معرفة واسعة في اللغة، وإلا فإن المرء قد يغفل عن الخصائص المعينة التي تميز كل لغة والفروقات بين اللغات، وبذلك يزيد ما يريد تبيانه غموضاً . ولعل مثال حرف العطف "و" وحرف الجر " في " الذي ورد ذكره في مرحلة متأخرة من المناظرة يبين الحاجة إلي ملكة لغوية – تضاهي تلك التي لدي الناطقين باللغة – قبل أن يتجرأ المرء علي قول أي شئ باللغة العربية.  وعلاوة علي ذلك إذا أخذنا تركيبة جمهور الحاضرين في أثناء هذه المناظرة فلا غرابة أن لا يجد عالم المنطق فرصة وأن يُهزم هزيمة نكراء، وكان جميع الحاضرين من المفكرين والمثقفين العرب الذين فرحوا لإذلال واحد من مناصري العلوم الأجنبية علي يد عالم من علماء النحو، مثل "أبو سعيد السيرافي "، يعرض أمام الحاضرين كل براعته ويصحح أخطاء "متي بن يونس" ضد النحو العربي كلما سنحت له فرصة .

فضلاً عن ذلك فإن الرواية التي بين أيدينا كتبها واحد من المعجبين بأبي سعيد وأحد تلامذته، وهو "أبو حيان التوحيدي"، الذي يؤمن مثل أستاذه بأن المنطق ليس ميزاناً مستقلاً يعرف به صحيح الكلام من سقيمه، لأن أغراض العقول والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، فلا يستطيع أحد أن يعرف منطق اليونان إذا لم يعرف لغتهم . لأن النحو والمنطق واللفظ والإفصاح وأنواع الطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة . فالمنطق نحو، ولكنه مفهوم باللغة، والنحو العربي منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والعلاقة بين المعاني المنطقية والألفاظ اللغوية، أن المعاني ثابتة علي الزمان فهي من استملاء العقل الإلهي، والألفاظ طبيعية بائدة علي الزمان تبدل طبيعة بعد أخري . ويكفي النحوي أن يفهم من نفسه ما يقول، وأن يفهم عنه غيره، وأن يقدر اللفظ علي المعني، مع أنه ليس في قوة أي لغة أن تحيط بمبسوط العقل، أو تنصب عليه سوراً لا يدع شيئاً من داخله أن يخرج ولا من خارجه أن يدخل . ومن يرد إدراك منطق اللغة، فإنه يحتاج إلي معرفة حركات الألفاظ وسكناتها ووضعها وبنائها علي الترتيب الواقع في غرائز أهلها كما يحتاج إلي توخي الصواب في تأليف الكلام بالتقديم والتأخير . ولقد عرف أبو حيان هذا النسق العام من خلال ما كتبه عن المناظرة واستوعبه جيداً .

.. وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم