قضايا

وهبة طلعت أبو العلا ونظرية الوجود المقلوب (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الثاني عن وهبة طلعت أبو العلا ودوره في صياغة نظرية الوجود المقلوب، ونبدأ بعرض تحليلي لكتاب الوجود المقلوب والذي صدر عن مكتبة مدبولي بالقاهرة عام 1997، ففي هذا الكتاب يحاول الدكتور وهبة طلعت ابو العلا أن يقدم لنا رؤية فلسفية - ذات صبغة سياسية للواقع المعاصر منذ عام 1945م، وحتي الآن، هذه الرؤية يقدمها الدكتور وهبة في شكل مختصر يصلح لأن يكون تخطيطا لمشروع فلسفي – أخلاقي وميتافيزيقي – أعم وأشمل، وهذا المشروع أطلق عليه اسم الوجود المقلوب، وفي رأيه انه منذ ذلك التاريخ أصبح هناك نوع من الوجود الخفي يتحكم في البشر ويوجهه حياتهم ولكن عن غير وعي منهم في معظم الأحيان.

والكتاب محاولة من كاتبه للكشف عن هذا الوجود الخفي علي حد تعبيره . وتأتي هذه المحاولة من منظور محاولات الإنسان وعدم قدرته عل مدار التاريخ من التوصل للإجابة علي هذا السؤال: تُري من سيتمكن في نهاية المطاف من تحقيق حلم الانفراد بحكم هذا الكون وبسط سلطانه عليه .

والوجود المقلوب عند وهبة طلعت هو وجود يناقض الواقع الشائع أو المعاش بالفعل في الحية اليومية . فهذا الوجود الشائع في اعتقاده وجود ظاهري وهمي، أو هو ظل للوجود الحقيقي الذي يراه وهبة طلعت يكمن خلف هذا الوجود، ويتخفي تحته، ويتحكم بالفعل في حياة سائر البشر قاطبة – ولكنهم لا يشعرون !!

وفي ضوء هذا المنظور حاول وهبة طلعت أن يبرهن علي تاريخ البشر يمكن النظر إليه علي أنه تاريخ محاولات الإنسان وفشله علي مدار الزمن في التمكن من حكم هذا الكوكب، بل الكون كله إن أمكن، وبسط سلطانه عليه . فهذا الحلم لم يتحقق في رأي وهبة طلعت إلا منذ عام 1945م، وذلك عندما حدثت حادثة فريدة زلزلت كيان العالم أجمع، وقلبته رأساً علي عقب . أخيرا، وبعد محاولة مضنية عبر تاريخ البشرية الطويل، تمكنت دولة واحدة بعينها من التوصل إلي ذلك الاختراع الذي كان أملاً يراود جميع الدول وتسعي جاهدة إلي تحقيقه أعني إنتاج القنبلة الذرية أو وسائل التدمير الشامل، الأمر الذي مكنها من الانفراد بحكم هذا الكوكب – وربما الكون كله – وبسط سلطانها عليه، ومن تحقيق النتائج المترتبة علي ذلك، والتي قلبت الوجود رأساً علي عقب، والتي يقف علي رأسها سجن التاريخ نفسه في زنزانة لا يمكن الفكاك منها أبداً . هذه الدولة هي الولايات المتحدة الأمريكية.

وعلي الرغم من أن حلم انفراد دولة واحدة بعينها بحكم هذا الكوكب – والكون كله إن أمكن – لم يتحقق في اعتقاد وهبة طلعت إلا قرب منتصف هذا القرن، إلا أنه يري أن هذا الحلم كان يداعب باستمرار شتي الأمم والحضارات عبر مسيرة التاريخ منذ الماضي السحيق فهذا الحلم كان يشكل الأساس التحتي لفكرة العالمية، أعني لفكرة السيطرة علي العالم وإخضاعه لجنس من الأجناس أو لقوم من الأقوام أو حتي لفرد من الأفراد، التي عرفتها سائر الأقوام منذ الماضي السحيق.

صحيح أن هذه الفكرة بمعناها الدقيق قد تكون غير معروفة للإنسان البدائي أو لإنسان الكهوف، غير أنه من الاجحاف الزعم بأن هذه الفكرة كانت غائبة علي الإطلاق عن ذلك الإنسان . فمن الممكن الرد علي هذا الزعم بالقول بأن الكهف والبقعة – أو البقاع – المحيطة به كانا يمثلان بالنسبة لذلك الإنسان العالم بأكمله، الأمر الذي يعني ضمناً أن فكرة العالمية – أعني فكرة سيادة العالم – لم تكن غائبة عنه كلياً باعتبار أن سيطرته علي البقعة المحيطة كان يعني ضمناً سيطرته علي العالم أجمع – ولكن هذه العالمية لم تكن بعد عالمية بالمعني الدقيق .

وصحيح أيضاً أن التاريخ يدلنا علي فترات او أحقاب معينة في تاريخ البشر كانت تبدو فيها فكرة العالمية كما لو كانت فكرة غائبة . فشواهد التاريخ تحكي  كما يقول وهبة طلعت عن وجود فترات أو أحقاب كانت فيها كل أسرة من الأسر أو كل قبيلة من القبائل تعبد إلهاً خاصاً بها، بل وكانت تحرم عبادته علي أي قبيلة سواها، الأمر الذي قد يعني أو قل يدل علي غياب فكرة العالمية . غير أن هذا لا يقيم دليلاً علي الغياب التام لهذه الفكرة . فهذا الفعل قد يكون شاهداً علي حب التفرد والتميز، أكثر من كونه شاهداً علي غياب الفكرة؛ ففكرة العالمية لا يمكن أن تغيب عن البشر إلا في حالة واحدة أعني في حالة غياب اللغة.

فاللغة تمكن الإنسان من التحرر مما هو خاص وإدراك ما هو عام داخل ما هو خاص، أعني، إدراك فكرة العالمية حتي من خلال إدراك الجزئي، وبدون اللغة سوف يقتصر الإنسان في تفاهمه وإدراكاته علي الحواس والإشارات، وهذه تجعله حبيس ما هو جزئي أعني حبيس ما ليس بعالمي . فالحواس في مجموعها لا تدرك إلا الجزئي، وتفشل في إدراك ما هو عام داخل ما هو جزئي أو خاص . أما اللغة كما يقول وهبة طلعت  فتحرر الإنسان من هذا السجن – سجن الجزئي أو الخاص . فعندما عرف الإنسان اللغة عرف أيضاً وفي نفس الوقت كيف يتحرر من أسر الجزئي أو الفردي أو الخاص . فعرف، علي سبيل المثال، كيف يتحدث عن إنسان وإنسانية – أو عن البشر جميعهم – بدلا من مجرد النظر أو الإشارة إلي أحمد أو علي أو زيد وعمرو، مثلما عرف كيف يتحدث عن أشجار – حقاً من جنس الأشجار كله – أو عن مفهوم الشجرية في ذاته، بدلاً من مجرد الاقتصار علي النظر بالحواس إلي هذه الشجرة المفردة بعينها أو تلك، ثم عرف كيف يرتفع من الحديث عن الوقائع الجزئية المتعينة التي تقع تحت سمعه وبصره إلي حيث الحديث عن ذلك الذي يضم ويوحد بين سائر الوقائع في كل واحد منتظم أعني العالم.

حقا لقد استطاع الإنسان، بفضل اللغة وقرينها أعني الفكر أن يتحرر من أو الخاص وأن يدرك الكلي أو العام أو العالمي، بل وأن يشارك في الكون بلا حدود . فمن خلال إدراكه لشجرة معينة من الأشجار، استطاع الإنسان أن يدرك، وأن يتحدث عن معني الشجرية في ذاتها الأمر الذي جعله يستطيع أن يدرك وأن يتحدث عن جنس الأشجار أو عن سائر الأشجار أو عن الأشجار التي قد توجد في العالم – بل وحتي في سائر العوالم الممكنة – أو حتي في سائر هذ الكون .

ومن خلال إدراكه لكوكب الأرض مثلاً، استطاع الإنسان أن يدرك وأن يتحدث عن جنس الكواكب أعني عن سائر الكواكب التي قد توجد في هذا الكون . وهكذا انفتحت سائر أبعاد الواقع، وسائر أبعاد الكون، أمام الإنسان، وشخص الإنسان ببصره منذ زمن سحيق إلي كيفية سيادة العالم والسيطرة عليه وعلي الكون كله إن أمكنه.

ولهذا يقول وهبة طلعت: لتعلم عزيزي القاري الإنسان أن حلم سيادة العالم قبيلة من القبائل أو قوم من الأقوام أو حضارة من الحضارات، أو حتي فرد من الأفراد – باعتبار أن هناك حلم دفين في داخل كل فرد من الأفراد يجعله يأمل دوماً في أن يسود سائر البشر أو حتي أن يصير إلهاً إن أمكنه – للعالم هو حلم قديم ربما قدم الجنس البشري نفسه . هذا الحلم العزيز جاء حتي في المعني الحرفي لقصة الخلق نفسها حيث رمز إليه علس هيئة إقدام آدم علي الأكل من شجرة المعرفة بالخير والشر حتي يصير كالإله أعني عارفاً بكل شئ .

ولكن علي الرغم من أن هذا الحلم هو حلم قديم قدم البشرية نفسها، إلا أنه لم يتحقق، كما ذكر الدكتور وهبة طلعت، إلا قرب منتصف القرن العشرين. من هذا المنظور يفسر الدكتور وهبة طلعت البشر والحضارات علي انه تاريخ محاولات البشر وفشلهم في السيادة علي العالم وإخضاعه لسيطرة طائفة أو جنس أو حتي فرد بعينه . هذا الفشل قد يكون راجعاً قد يكون راجعاً إلي أسباب عديدة مختلفة، وقد تكون متناقضة، فيما بينها . غير أن هناك في اعتقاد وهبة سببا رئيسياً يراه بأنه يشكل الأساسي التحتي لسائر أسباب الفشل . هذا السبب هو : توازن ميزان القوي المادية، والبشرية، والتكنولوجية، والسياسية، والعسكرية – وهذه القوة الأخيرة هي في اعتقاد وهبة طلعت أهم هذه القوي علي الإطلاق – بين الأمم والحضارات.

فمنطق سير التاريخ يدلنا دوماً كما يقول وهبة طلعت علي أن حضارة أي شعب من الشعوب كانت تقوم علي هيئة فكرة، سرعان ما تقابلها حضارة شعب آخر تكون مخالفة، بل ومتناقضة ومحددة لها، فتشكل، بتعبير فلسفي، نقيض الفكرة (الحضارة الأولي) وسرعان ما يحدث الصراع والصدام بينهما وغالبا ما كان الصدام بين الحضارتين لينتهي في الغالب بدحرهما معاً، لتقوم علي أنقاضهما حضارة جديدة تكون بمثابة فكرة، سرعان ما تقابلها حضارة أخري جديدة، مناقضة لها وتكون نقيض الفكرة، ثم سرعان ما يحدث الصراع بين الحضارتين لينتهي في الغالب بدحرهما معا، لتقوم علي أنقاضهما حضارة جديدة تكون بمثابة فكرة، سرعان ما تقابلها حضارة أخري جديدة مناقضة لها، ثم سرعان ما يحدث الصراع بينهما ... وهكذا . والسبب الذي كان يجعل الصراع بين الحضارات المتناقضة في الغالب ينتهي دوما بتحللها واندحارها يكمن في اعتقاد وهبة طلعت في توازن القوة . فتوازن القوي لم يكن يسمح علي الإطلاق بسيادة أي حضارة علي أخر سيادة مطلقة . هذا يفسر السر في عدم تمكن أي حضارة من الحضارات القديمة من تحقيق السيادة المطلقة علي العالم وبسط سلطانها عليه . لقد كان ميزان القوي العسكرية _ التكنولوجية علي وجه الخصوص في حالة توازن نسبي علي الأقل، ولم يحدث أن مالا بصورة مطلقة لصالح قوة معينة وعلي نحو جعلها تحقق الحلم المأمون _ أعني تحقيق السيادة المطلقة علي العالم وإخضاعه بسلطانها .

هذا يفسر السر في التقدم المذهل المضطرد في تكنولوجية التسلية الذي واكب مسيرة التاريخ الإنساني منذ القدم وحتي وقتنا الحاضر ؛ فهذا التقدم لم يكن الا انعكاسا لتزايد الوعي بضرورة تحقيق الحلم مع تقدم الزمن . غير أن هذا الحلم لم يتحقق منه ولو حتي النذر اليسير في العالم القديم وذلك لأن مقومات تحقيقه - خاصة المقاومات العسكرية التكنولوجية _ كانت مقومات بدائية مقصورة علي أدوات حجرية أو معدنية بسيطة كالسيوف أو الرماح . ولهذا كان الصدام أو الحروب تحدث دوما علي نطاق محدود للغاية .

هذه الحروب لا يجب النظر إليها علي أنها كانت حروبا محدودة لتلبية احتياجات مباشرة ليس إلا، بل يجب النظر إليها كما يقول وهبة طلعت أيضا علي أنها كانت محدودة لأن الإنسان القديم لم يكن يملك بعد المقومات التي تمكنه من تجاوز نطاق المحدودية أو المحلية – ولهذا يمكن القول إن هذا التجاوز حدث علي صعيد الفكر فقط في ذلك الوقت وليس في الواقع الفعلي _  والارتقاء إلي مستوي العالمية، أعني إلي حيث التمكن من حكم العالم . فالحلم كان بعيد المنال بالنسبة للإنسان القديم إما بسبب عدم توافر مقومات تحقيقه، أو بسبب عدم تمكن طائفة واحدة بعينها من الانفراد بهذه المقومات، خاصة أدوات التسليح التي كانت أدوات بسيطة في ذلك الوقت، وقصرها علي نفسها – فميزان القوي كان في حالة توازن نسبي أو حتي توازن مطلق.

ونفس الأمر يصدق علي العصر التالي للعصر القديم والذي يفضل الدكتور وهبة طلعت بأن يسميه اسم عصر البارود . فهذا العصر كان يشكل خطوة جديدة في طريق تحقيق الإنسان لحلمه القديم الذي لولاه ما كانت ثمة حاجة إلي اختراع البارود . فالغاية من هذا الاختراع لم تكن تحقيق مزيداً من السيطرة المحدودة ومزيداً من تلبية الاحتياجات المباشرة أو حتي غير المباشرة،بقدر ما كانت بعثاً لأمل جديد علي طريق تحقيق الغاية الكبري التي ينتظرها الإنسان في شوق ولهفة أعني حكم العالم . غير أن هذه الغاية لم تتحقق بدورها في ذلك العصر، وذلك لنفس السببين السابقين أعني أن إنسان ذلك العصر لم يكن يملك بعد كافة الوسائل التي تمكنه من تحقيقه، ولأن ذلك العصر نفسه لم يشهد قصر اختراع البارود – إلي جانب المقومات الأخرى – علي فئة أو طائفة أو مجموعة بشرية معينة دون سواها . فما إن اخترع البارود حتي تلقفته سائر الأقوام بل وتمكنت من تصنيعه فيما بينها ربما بنفس الكم والجودة، الأمر الذي أدي إلي حدوث توازن في ميزان القوي وبالتالي إلي استحالة تحقيق الحلم.

ولكن هذا العصر – عصر البارود – شهد قرب نهايته نوعا من التفاوت بين حضارات الشرق، وحضارات الغرب الأوربي، فحضارات الشرق سرعان ما انتابها اليأس- وذلك ربما لقصور الوعي – من تحقيق ذلك الحلم، ومن ثم راحت تغط في نوم عميق كما يقول وهبة طلعت مكتفيه بالعيش في وهم أن تحقيق هذا الحلم ليس في مقدور البشر، وأن ما تملكه من مقومات بسيطة يكفيها للدفاع عن نفسها في حالة حدوث أي  غزو خارجي ! لقد تراءى لها، ربما عن جهل، أن مقومات الغازي- خاصة العسكرية منها – يستحيل أن تصل إلي درجة أرقي من المقومات التي تملكها والتي اعتقدوا أنها تمثل أقصي ما يمكن للبشر اختراعه ! أما الغرب الأوربي فلم يعترف بالمستحيل الشرقي، وأصر علي المضي في الشوط إلي أبعد منتهاه . فأخذ فكرة تحقيق الحلم علي عاتقه – وهذا راجع إلي ارتقائه في سلم الوعي – وجعلها تشكل جوهر اهتمامه المطلق، حتي غدت مسألة حياة أو موت، أكون أو لا أكون، بالنسبة له . ولقد ترتب علي ذلك دخول البشرية في عصر جديد يفضل الدكتور وهبة طلعت أن يطلق عليه اسم عصر الأسلحة التقليدية . هذا العصر وصل إلي ذروته في تلك الحقبة المسماة بالحقبة الحديثة .

ولكن الغرب الأوربي وقع، لحسن الحظ! في خطأين سيظل في اعتقاد وهبة طلعت يدفع ثمنهما إلي الأبد . الأول هو أنه لم يعرف كيف يتوحد كدولة واحدة يمكنها أن تسود – أو تحكم – سائر الأمم والحضارات الأخرى . أما الآخر فهو أن التسليح التقليدي بكافة مقوماته الفتاكة لم يقتصر علي دولة أوربية واحدة بعينها، بل انتشر في سائر الأقطار الأوربية، بل وتعدي أقطار أوربا نفسها إلي بعض دول الشرق كاليابان . ولقد ترتب علي ذلك حدوث توازن جديد في ميزان القوي الأمر الذي سيفضي إلي استحالة انفراد دولة واحدة بعينها بحكم العالم .

وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

 

في المثقف اليوم