قضايا

وهبة طلعت أبو العلا ونظرية الوجود المقلوب (3)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الثالث عن وهبة طلعت أبو العلا ودوره في صياغة نظرية الوجود المقلوب، وفي هذا يقول وهبة طلعت: صحيح أن الأسلحة الفتاكة من قنابل وصواريخ تقليدية قريبة وبعيدة المدي، ومن طائرات حربية تسير علي ارتفاعات منخفضة وعالية، ومدفعية بكافة أنواعها، ودبابات من مختلف الأنواع، صحيح أن كل ذلك قد مهد الطريق وجعله ميسورا أمام دول الغرب الأوربي لغزو كافة الدول والقارات التي كانت تغط في ذلك الحين في نوم عميق، والتحكم فيها، واقتسامها فيما بينها .

غير أن سهولة غزو دول الغرب الأوربي لدول العالم النائم كما يري وهبة طلعت أوقعها في خطأ فادح سوف تظل تدفع ثمنه إلي الأبد . فسهولة الغزو أعني سهولة اقتسام هذه الدول لبلاد العالم النائم قد أوقع دول الغرب الأوربي في براثن الغطرسة  أو العجرفة فاعتقدت كل واحدة منها، عن جهل وغير وعي، أنها قاب قوسين أو أدني من تحقيق الحلم أعني من حكم سائر الدول الأخري – فيما في ذلك جيرانها الأوربية نفسها- ومن ثم حكم العالم – وهكذا بدأت الحربان العالميتان المعاصرتان اللتان أطلق عليهما اسم الحرب العالمية الأولي والحرب العالمية الثانية.

ويخطئ من يظن أن الحربين العالميتين – الأولي والثانية – كما يقول وهبة طلعت قد اندلعتا من أجل القضاء علي هتلر وعلي النازية التي صُورت – ربما ظلما وعدوانا – علي أنها تجعل الشعب الألماني (ومعه الشعب الأوربي كله بمعني من المعاني) سيد الشعوب والحاكم المطلق للعالم أجمع . فالحرب العالمية الأولي – وكذلك الحال بالنسبة للحرب العالمية الثانية – كانت حربا أوربية أساسا أعني حربا بين جميع الدول الأوربية وبعضها البعض، هدفها لم يكن القضاء علي هتلر، بقدر ما كان حسما للأمل القديم المتمثل في أن تتمكن دولة واحدة من هذه الدول من قهر الجميع ومن اخضاع العالم لحكمها . فمع قرب بداية الحرب العالمية الأولي كانت فكرة حكم العالم قد اختمرت في كل دولة من الدول الأوربية الرئيسة وعلي وشك الفوران . وكانت كل دولة من هذه الدول تستعد لحسم هذا الحلم بحشد كل ما أمكنها من حشده من الأسلحة التقليدية. غير أن المشكلة الرئيسة التي كانت تواجه الساسة في كل دولة من هذه الدول كانت تتمثل في كيفية تعبئة شعبها للدخول في حرب عالمية تحسم هذا الأمل حتي وإن كان لا يمكن لأحد التكهن بأي نتيجة من نتائجها .

وكان هتلر الألماني هو الأسرع كما يري وهبة طلعت، فهو سليل نيتشه بأفكاره في إرادة القوة، والسوبرمان أو الإنسان الأعلي، وطالما هو كذلك، فقد كان من الطبيعي أن يسارع هتلر بإعادة ترديد هذه الأفكار علي مسامع شعبه حتي يذكي فيهم نار الحماسة والوطنية من ناحية، وحتي يذكرهم، من الناحية الأخري، بقرب تحقيق أملهم المنشود الذي لن يتأتي إلا عن طريق الحرب أعني أنهم الشعب المختار أو الجنس السامي أو الإنسان الأعلي الذي يجب أن يبذ كل أقرانه وأن يسود سائر البشر.

غير أن الحلفاء في رأي وهبة طلعت لم يتهاونوا بدورهم في اغتنام الفرصة . فأعلنوا علي شعوبهم (بل وعلي العالم أجمع) ظلما وبهتانا أن هتلر هو عدو الإنسان والإنسانية الذي يريد إخضاع العالم كله لشعبه، الأمر الذي يحتم الوقوف في وجهه للتخلص منه حتي يمكنن نشر السلام والعدل والحرية والمساواة بين كافة البشر.

هذه هي الواجهة التي استغلها الحلفاء في الظاهر لإشعال نار الحرب التي كانت تدق طبولها أصلاً في معظم – إن لم يكن في كل – الدول الأوربية . أما حقيقة الأمر الخفية فقد كان في اعتقاد الدكتور وهبة طلعت تختلف عن ذلك كل الاختلاف.

فحقيقة الأمر الخفية كما يري وهبة طلعت هي أن جميع الأطراف التي اشتركت في الحرب لم تكن سوي هتلر مهما اختلفت الأقنعة التي تتخفي تحتها . فالحرب كانت أصلا حربا أوربية الغرض منها حسم قضية من يسود العالم . وهتلر الألماني لم يكن الوحيد صاحب هذه الدعوة والدليل علي ذلك هو أن بعض الدول انحازت معه، والبعض الآخر ذهب مع من اختلفوا معه .ولو كان الألماني هتلر بالصورة التي صورها له أعداؤه لما انحاز معه أحد ولبقي وحده في الميدان ولسهل علي العالم أجمع القضاء عليه علي وجه السرعة . فالحرب كانت أصلا حرب الكل ضد الكل . فكل دولة من الدول ذهبت مع التحالف أو ذاك، ذهبت وهي تمني نفسها أن تتمكن في نهاية المطاف من الانقلاب حتي علي أصدقائها والانفراد بحكم العالم في النهاية . والجميع كانوا هتلر مهما اختلفت الأسباب والمبررات العلنية المزعومة.

ولهذا فإن الفكرة القائلة بأن الحرب العالمية الأولي – وكذلك الحال بالنسبة للحرب العالمية الثانية – كما يري وهبة طلعت قامت للقضاء علي هتلر الألماني الذي جعلوه زمرا للشر في العالم، هي فكرة زائفة . فحقيقة الأمر الخفية أو المقلوبة في اعتقاد الدكتور وهبة طلعت أن سائر الدول لم تكن سوي هتلر أعني أنها كانت تأمل جميعاً في أن تتمكن إحداها من قهر العالم وإخضاعه لحكمها (فهذا المبدأ متجسد، علي سبيل المثال، في التعبير الذي كانت وربما لا تزال تطلقه إنجلترا علي نفسها والذي يفيد بأنها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس)، فهتلر كان الواجهة العلنية التي اتخذها أعداؤه لتبرير اشتراكهم في الحرب، أما أصدقاؤه فكانوا يرون فيه شخصاً محبا للخير وللسلام وللبشر وللبشرية شصا سيقيم العدالة والمساواة بين سائر الشعوب .

والعكس صحيح أيضاً ؛ بمعني أن الهتلريين كانوا يصورون أعداءهم من الحلفاء علي أنهم رمز القهر والإذلال لكافة البشر، علي حين كانوا يجدون في أنفسهم المعني الحقيقي للخير والعدالة والسلام . وهكذا قامت الحرب وكل دولة تزعم أنها قامت لإحلال السلام، في حين أن حقيقة الأمر هي أن كل دولة دخلت الحرب وهي تمني نفسها بتحقيق حلم الانفراد بحكم العالم .

وهكذا أيضا نجحت الدول الأوربية في خلق زرائع وهمية لجر العالم أجمع – باعتبار أن كل دولة أوربية أجبرت ما تسيطر عليه من دول العالم النائم علي الدخول معها في الحرب – إلي حرب ضروس لم تكن دولة واحدة منها تعلم سلفا ما ستنتهي إليه، وذلك علي أمل تحقيق الحلم القديم بمعني أن تتمكن واحدة منها من الانفراد في نهاية المطاف بحكم العالم.

ولكن الحرب العالمية الأولي كما يري وهبة طلعت بدأت مثلما انتهت . فلم تتمكن دولة واحدة بعينها، أو حتي حلفا من الحلفين لكبيرين، من حسم الحلم لصالحه، وذلك لنفس السببيين الذين سبق ذكرهما أعني أن مقومات تحقيقه لم تقتصر علي دولة بعينها أو حتي علي حلف من الحلفين، وأن التسليح التقليدي بالذات باعتباره أهم المقومات في نظر الدكتور وهبة طلعت لم يكن وقفا علي دولة بعينها، علي حلف بعينه . ولهذا انتهت الحرب مثلما بدأت . فتوازن ميزان القوي حال دون حسمها لصالح أحد، مثلما أفضي إلي إلحاق الدمار والخراب والتحطيم بالجميع، الأمر الذي اضطر الكل إلي وقف الحرب اضطرارا.

غير أن توقف لم يكن يعني علي الإطلاق تخلي هذه الدول عن الحلم القديم؛ فهذه الدول كما يري وهبة طلعت كانت دخلت آنذاك في مرحلة اللاعودة . فإما أن يتحقق الحلم علي أي نحو من الأنحاء، أو الطوفان . والأمل كان يسير في أعقاب الحرب في اتجاهين الأول يكمن في حشد المزيد من المقومات اللازمة لتحقيق الحلم والتي يقف علي رأسها العنصر الخاص بالتسليح التقليدي، باعتباره العنصر الساسي الوحيد المتاح أمامهم في تلك اللحظة التاريخية، الذي يمكنه أن يلعب أهم الأدوار علي الإطلاق في حسم الحرب لصالح طرف من الأطراف . أما الآخر فيكمن في السير في طريق إنتاج نمط آخر من التسليح يتمتع بقوة تدميرية شاملة تفقد التسليح التقليدي كل ما له من قيمة مع السير في نفس الوقت في طريق إنتاج تكنولوجيا أخري أكثر تطورا عساها تسرع في حسم الحرب لصالح دولة من هذه الدول.

وفي غضون سنوات قليلة تمكنت الدول الأوربية من إعادة تسليح وتنظيم نفسها بعدما حشدت لذلك كل طاقاتها كما يري وهبة طلعت، وسرعان ما أصبح لكل دولة من هذه الدول ترسانة رهيبة من الأسلحة التقليدية، ومن ثم راحت كما يقول وهبة طلعت كل واحدة منها تمني نفسها من جديد، وفي ضوء ما تملكه من ترسانة مدمرة، بقرب نهاية تحقيقها للحلم . ولكن هيهات! هيهات؟! لقد عادت طبول الحرب تدق من جديد في سائر الدول الأوربية التي استطاعت أن تجر مها مرة اخري سائر دول العالم النائم الذي كان يقع تحت سيطرتها، وكل ما تملكه هو كم هائل من الأسلحة التقليدية – فالسلاح النووي (أو وسائل التدمير الشامل)، الذي كان هو الأخير بمثابة حلم جديد يراود كل دولة من هذه الدول، ثم لم يكن قد اخترع بعد . وسرعان ما اندلعت الحرب، التي سميت باسم الحرب العالمية الثانية، من جديد، ولكن تحت نفس الستار القديم تقريبا .

الكل يزعم في العلن أنهم دخلوا الحرب ضد بعضهم البعض من أجل إحلال السلام والحرية والعدالة والمساواة بين البشر، في حين أن حقيقة الأمر الخفية أو المقلوبة هي أنهم جميعا يحاربون علي أمل حسم الحلم الدفين والإجابة علي السؤال الملح باستمرار: من يسود العالم ؟ وهكذا انخدع الشعب الأوربي البرئ – معه العالم أجمع – من جديد وانساق إلي ساحة الوغي – مثل القطيع – وهو لا يعلم لم وإلي أين المصير !! لقد كل ساسة كل دولة من الدول يحركون شعبهم البرئ بشعارات زائفة تقدف بهم في المصير المحتوم، كانوا يحركونهم تحريك الدمي أو العرائس من وراء ستار في الخفاء . والشعب – أي شعب – برئ بطبعه ينخدع بالشعارات العلنية الزائفة – الفارغة التي تخلو في العادة من أي مضمون فينساق في ضوئها غير دار أن كل ستار علني يخفي تحته حقيقة خفية مقلوبة تكون دوما وفي غالبية الأحيان هي المقصودة.

في ضوء ذلك يقول وهبة طلعت أنه لا يهم في نظر الدكتور طلعت من بدا الحرب ولم؟ فهذه التساؤلات هي تساؤلات يستحيل أن نجد لها إجابة كما يقول الدكتور وهبة طلعت في عصرنا هذا . فالإجابة لا تكون إلا عند أولئك الذين  يملكون خيوط  لعبة الحرب والذين تجدهم في العادة يقبعون في الظل أو في الخفاء بحيث يستحيل عندك أن تتعرف عليهم .

هذا بالإضافة إلي أن طابع الحرب الحديثة كما يري وهبة طلعت كلها يجعل من المحال عليك التفرقة بين المعتدي والمعتدي عليه، فكل طرف من طرفي – أو أطراف – الحرب يزعم أنه الطرف المعتدي عليه، وأنه يقوم برد العدوان وبالدفاع عن نفسه ! كل هذا يحدث من خلال أبواق الدعاية الخاصة بكل طرف، والتي يوظفها علي أكمل وجه بحيث تكون بكاملها تحت تصرفه .

أما الشعب البرئ – الذي يدفع دوما الثمن – فلا يحق له أن يسأل ولا يملك حتي حق الاعتراض، لأن في ذلك خيانة للوطن !! وكل ما عليه أن يفعله هو أن يذهب إلي الحرب دون أن ينبس حتي بكلمة تبرم واحدة، ودون أن يتعلم لغة خلاف هذه: إما أن تَقتل، أو تُقتل، لأن الألسنة قد انعقدت ولم تعد هناك لغة سوي لغة الرصاص!! ولهذا فإن فكرة من بدأ الحرب ولم؟ هي فكرة كما يقول الدكتور وهبة طلعت:" ليس في قاموسي علي الإطلاق، مثلما يجب أن تكون في قاموسك أنت عزيزي الإنسان، سواء للحروب الحديثة عامة أو بالنسبة للحربين العالميتين بصفة خاصة، حتي وإن كنت أتفهم الدوافع والأسباب التي أدت إلي قيامهما .

فحقيقة الأمر في اعتقاد وهبة طلعت هي، باختصار، أن جميع الأطراف كانت مهيأة تماما للحرب وعلي استعداد خوضها تحقيقا لحلمها القديم، ولهذا اشتركوا جميعا في إشعال نارها. هذه المسألة أخذت أبعادا أخري جديدة بعد الحربين كما سنري فيما بعد في الحرب العراقية بصفة خاصة".. وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم