قضايا

وهبة طلعت أبو العلا ونظرية الوجود المقلوب (5)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الخامس عن وهبة طلعت أبو العلا ودوره في صياغة نظرية الوجود المقلوب، حيث نتحدث عن الدور الأمريكي وفكرة ضرب اليابان وفي هذا يقول وهبة طلعت: كانت أمريكا تعلم تمام العلم أنه يستحيل عليها الانفراد بحكم العالم معتمدة في ذلك علي الأسلحة التقليدية وحدها؛ فالتجربة البشرية علي مر العصور قد علمتها أن التسليح التقليدي وحده يمكن أن يكون فعالا علي نطاق محدود فقط، ويستحيل أن يكون كذلك علي النطاق الشامل . كما أن تجربة الحربين بالذات قد كشفت لها صدق هذه الحقيقة. ومن ثم أضحت علي وعي تام بأن حكم العالم لن يكون ممكنا إلا إذا توافر إلي جانب الأسلحة التقليدية سلاح آخر تبلغ فعاليته حد الشمول الذي يعم الكل أو الجميع في لمح البصر. ولهذا سارت أمريكا في هذا الاتجاه منذ البداية إلي أن توصلت في نهاية المطاف إلي اختراع هذا السلاح الذي سمي باسم السلاح النووي أو القنابل الذرية أو وسائل التدمير الشامل .

ولكن اختراع هذا السلاح هو شئ، واستخدامه هو شئ أخر تماما؛ فقرب نهاية الحرب العالمية كانت أمريكا تمتلك بالفعل هذا السلاح كما يري وهبة طلعت، غير أنها كانت تفكر في طريقة لاستخدامه استخداما عمليا حتي يقتنع البشر أنها تمتلكه بالفعل، وأنها لن تتواني عن استخدامه مرات ومرات إذا كانت هناك ضرورة تحتم ذلك . وقد كانت أمريكا تدرك تماما أنها لن تستطيع أن تكتفي بمجرد التلويح باستمرار وإلي الأبد بأنها تمتلك هذا السلاح، وذلك لأنها تعلم تمام العلم أن أحدا من البشر لن يصدقها، وحتي إذا صدقتها سائر الدول، فسوف يشكون في قدرتها علي استعماله بالفعل منتهكة بذلك سائر الشرائع والقوانين الوضعية والإلهية، والأمر الذي يعني في هذه الحالة أن امتلاكها لهذا السلاح يساوي في حقيقة الأمر عدم امتلاكها له بمعني أنه لن يكون سلاحا رادعا بأي حال من الأحوال . لهذا استقر عزم أمريكا علي ضرورة بل وعلي حتمية استخدامه حتي نثبت للعالم أجمع أنها تمتلكه بالفعل من ناحية، وحتي تثبت لهم، من الناحية الأخري، أنها لا تتورع عن استخدامه في أي مكان إذا لزم الأمر وما دام في ذلك مصلحة أمريكا .

غير أن المشكلة الحقيقة التي كانت تواجه أمريكا لم تكن تكمن في استخدام هذا السلاح، بقدر ما كانت تكمن في أين، وفي أي مكان في العالم يجب استخدامه؟ لقد كان من المحال عليها في ذلك الوقت بالذات استخدام هذا السلاح علي أرض أوروبية .

فالأوروبيين هم أصلا أجداد الأمريكيين الذين تربطهم بهم روابط وطيدة تقف علي رأسها رابطة الدم أو العرق الأمر الذي يجعل إجراء مثل هذا العمل علي الأرض الأوروبية شيئا مستهجنا – وإن لم يكن مستحيلا لأن أمريكا علي استعداد لعمل أي شئ يحقق لها مصالحها – حتي بالنسبة لرجل الشارع في كل من أمريكا وأوروبا كما يري وهبة طلعت.

هذا بالإضافة إلي أن إجراء مثل هذا العمل علي أرض أوروبية سوف يجعل أمريكا تخسر كل أوروبا في ذلك الوقت، وستبدو في نظر العالم كما يري وهبة طلعت علي أنها دولة قامعة مكبلة للعالم لا دولة محررة له، وهذا شئ لم تكن أمريكا ترتضيه لنفسها في ذلك الحين لأنها لم تكن تمتلك بعد كافة الوسائل التي تمكنها من إحكام قبضتها علي العالم دون مساعدة أحد، ولهذا كان من المحتم عليها مهادنة الأوروبيين حتي تستخدمهم كأداة تستعين بها في إحكام قبضتها علي العالم إلي حين امتلاكها لكافة الوسائل التي تمكنها من الانفراد بحكم العالم دون مساعدة من أحد .

من هذا المنظور يقرر وهبة طلعت أنه علي الرغم من أن أمريكا كانت تملك كافة الوسائل لتدمير العالم في ذلك الوقت، إلا أنها لم تكن تمتلك بغد كافة الوسائل التي تمكنها من التحكم فيه معتمدة في ذلك علي نفسها – فهي مثلا لم تكن تمتلك بعد كافة الوسائل التي تمكنها من الانتشار السريع في كل مكان – ولهذا فضلت كسب ولاء الأوروبيين وبالتالي العالم أجمع حتي تضمن تقبل العالم لها باعتبارها دولة تريد نشر العدل والحرية والمساواة بين بني البشر، بدلا من النظر إليها علي أنها دولة دكتاتورية تريد قهر العالم أجمع واجهاضه لإرادتها الأمر الذي كان سيجعل مهمتها في حكم العالم مهمة صعبة في ذلك الوقت، حتي وإن كانت غير مستحيلة . لهذا فضلت كسب ولاء الأوروبيين .. ولكن إلي حين .

واستقر عزم الأمريكان علي اليابان باعتبارها الدولة غير الأوربية الوحيدة التي كانت تتمتع بشئ من التأثير الفعال في الحرب كما يري وهبة طلعت ؛ هذا هو السبب الذي جعل أمريكا تعمل عزل اليابان منذ دخولها الحرب وتؤخر أو تؤجل التعامل معها حتي أو لحظة وذلك حتي تنفرد بها انفراد بأحد أفراد القطيع – وبعد أن يكون الأوروبيون قد دمروا بعضهم البعض تماما- وحتي تجد أيضا سببا علنيا مزعوما تضحك به علي العالم وتجعله يتوهم أنها أقدمت علي ضربها لليابان اضطرارا علي طريقة مكره أخاك لا بطل .

وعندما وصلت الحرب إلي النقطة التي أيقنت عندما أمريكا أن أوربا قد انتهي أمرها، تحولت إلي اليابان ؛ واليابان كانت لا تزال تنبض بالطبع بشئ من القوة المزعومة بسبب عزل أمريكا لها لبعض الوقت عن دائرة الصراع كما يري وهبة طلعت. فعزلها لم يحدث بمحض الصدفة بل كان مدبرا من جانب أمريكا حتي توهم العالم بأن اليابان لازالت قوة خطيرة مدمرة يستحيل القضاء عليها بالأسلحة التقليدية ؛ وهكذا خلقت أمريكا الفرصة وأوهمت العالم أجمع أنها لا تستطيع الاستمرار في محاربة اليابان بالأسلحة التقليدية لأ، هذه الحرب سيطول مداها، ومن الأفضل للبشر وللبشرية الإسراع في إنهائها في أقصر وقت ممكن عن طريق عمل عسكري من نوع خاص لم تشهد البشرية مثله من قبل .

وقد كان وضربت اليابان بالقنابل الذرية تحت مسمع ومرآي العالم أجمع كما يري وهبة طلعت ؛ وفرح العالم بإنتهاء الحرب، وصفقوا لأمريكا لكونها أسرعت في إنهاء الحرب التي طال مداها وحاقت بالجميع – عدا أمريكا بالطبع – غير دارين أن ضرب أمريكا لليابان بالقنابل الذرية كان في حقيقة الأمر الخفية أو المقلوبة الشرك الذي وقع فيه العالم أجمع ولن يستطيع الفكاك منه إلي الأبد .

ولهذا يقول وهبة طلعت : لتعلم عزيزي الإنسان أن الاعتقاد الشائع الذي مؤاده أن ضرب أمريكا لليابان بالقنابل الذرية كان من أجل الإسراع في إنهاء الحرب هو اعتقاد زائف ؛ فالتاريخ يشهد أن اليابان كانت علي وشك الانهيار، إن لم تكن قد انهارت بالفعل، مثلما في ذلك مثل سائر أطراف الصراع، في الوقت الذي انفردت بها أمريكا . وحتي البقية الباقية من القوات اليابانية سرعان ما دمرتها أمريكا تماما معتمدة في ذلك علي قوتها التقليدية وحدها .

لقد ضربت طيرانها، وحطمت أسطولها، وقضت علي قوتها البرية من دبابات ومدفعية وغيرها، وأصبحت اليابان مفتوحة تماما وبلا أي غطاء جوي يحمي سماءها، وبلا قوات برية يمكنها أن تدافع عن برها كما يري وهبة طلعت، ولقد كان من السهل تماما علي أمريكا محو اليابان نفسها من علي خريطة العالم بواسطة الطيران التقليدي وحده الذي كان بإمكانه إنجاز هذه المهمة في أسرع وقت بأقل – إن لم يكن بدون – خسائر ممكنة . ولكن أمريكا لم تسلك هذا السبيل، لأن النية كانت مبيته والعزم كان موطدا علي استعمال القنبلة الذرية .

ولكن لماذا القنبلة الذرية بالذات؟، يقول وهبة طلعت : هكذا يجب أن نتساءل علي استحياء . إن الإجابة علي هذا السؤال هي أن أمريكا كانت تريد أن تقدم للبشرية برهانا عمليا علي امتلاكها لوسائل التدمير الشامل بدلا من مجرد الاكتفاء بالتلويح والتهديد به . هذا بالإضافة إلي أن ارادت أن توضح للعالم وبصورة عملية مدي حجم الخسائر التي تنجم عن استعمال هذ السلاح الفتاك . وعلاوة علي ذلك يمكن القول إن أمريكا أرادت أن تثبت للعالم أنها لا تتورع عن استخدام هذا السلاح في أي وقت تشاء وضد أي دولة كائنة ما كانت دون مبالاة حتي بأبسط القواعد والقوانين والشرائع المتعارف عليها ما دام في ذلك مصلحة أمريكا . وأهم من كل هذا وذاك أن أمريكا أرادت ردع العالم من خلال ضرب اليابان، وذلك علي نظام أضرب المربوط يخاف السايب، حتي تجبر العالم علي الامتثال لها والرضوخ لكل شروطها ومطالبها .

في ضوء كل ما سبق يمكن القول إن الحربين العالميتين هما حربان أوروبيتان أساسا – حتي وإن شارك فيهما العالم أجمع – كان الهدف منهما تقديم إجابة حاسمة علي السؤال: من يحكم العالم؟ وسائر هذه الدول لم تنجح في تقديم الإجابة لأن توازن ميزان القوي بين سائر الأطراف قد حال دون ذلك وأفضي في نهاية المطاف إلي تدمير سائر الأطراف لبعضها البعض كما يري وهبة طلعت .

وحكم العالم حسم في نهاية المطاف لصالح الولايات المتحدة الأمريكية التي نجحت في مهادنة الكل – يدخل في ذلك الهتلريون أنفسهم – مثلما نجحت في جعل الكل يحارب الكل، الامر الذي أدي إلي جعل الكل يدمر الكل لصالح أمريكا وحدها . لهذا يقول وهبة طلعت: أكرر من جديد إنني لا استبعد علي الإطلاق أن تكون أمريكا قد اتفقت مع هتلر – في الخفاء علي الأقل – علي أن ينفذ لها أهداف الخفية – أو قد تكون دفعته إلي هتلر دفعا سواء عن طواعية وطيب خاطر أو عن طريق التغرير به – أعني تدمير قوات الحلفاء، مثلما اتفقت في العلن مع قوات الحلفاء علي مساعدتها في تدمير قوات هتلر. وإذا كان الحلفاء قد رحبوا بانضمامهم لأمريكا في العلن، فليس من المستبعد أن يكون هتلر قد فعل نفس الشئ مع امريكا في الحلفاء – سواء بإرادته أو حتي رغما عنه – خاصة بعد أن ضاف الخناق عليه وأصبح أشبه بالفريسة السهلة في أيدي الحلفاء . لقد انقذته أمريكا من براثن الحلفاء لقاء رضوخه – بإرادته أو مرغما، عن وعي أو عن غير وعي – لمطالبها . هذا يفسر السر في عدم تمكن العالم حتي الآن من الوقوف علي حقيقة مصيره .

قد تكون هناك تكهنات حول هذا المصير، ولكن ليست هناك حقائق يقينية علي الإطلاق. والأمر كله لا يخرج في اعتقاد وهبة طلعت عن أيدي الامريكان الذين أصبحوا حراسا للعالم – أو حكاما له – في أعقاب الحرب العالمية الثانية . لقد أوهموا العالم أنهم جاءوا لإحلال العدل والسلام والحرية والمساواة بين سائر البشر، في حين أن حقيقة الامر الخفية أو المقلوبة هي أنهم جاءوا لحكم العالم – لحكم الحلفاء وحكم الهتلرين معا وفي نفس الوقت .....وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم