تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

طه جزّاع: معنى أن تكون صوفياً

من سمات التجربة الصوفية انها ذوقية فردية خالصة، لا يمكن نقلها إلى الآخرين بالشرح والتدريب والتعليم، فمن الصعوبة أن تتحدث عن طعم العسل لشخص ما دون أن يتذوقه بنفسه، هكذا هي بالضبط حالة التذوق الصوفي التي تتطلب استعداداً وموهبة في المريد لكي يكون قادراً على أداء مقامات التصوف وما تتطلبه من زهد وترويض للجسد، وتحمل الأحوال الوجدانية والنفسية المرافقة لتلك التجربة الروحية الفريدة. لذلك فإن الباحث المصري خالد محمد عبده يحاول أن يقدم في كتابه " معنى أن تكون صوفياً " مقالة دلالية باللغتين العربية والإنجليزية لمن يريد أن يسلك طريق التصوف، وهي واحدة من عشرين مقالاً ضمها الكتاب الذي بحث في معنى التصوف ومعنى الدرويش والشيخ والمريد والطريق إلى مقامات الأولياء، فضلاً عن تسليطه الضوء على شخصيات صوفية غربية، ومقالة عن مكانة الفيلسوف والشاعر الباكستاني محمد إقبال في الفكر الصوفي الإسلامي .

والمؤلِف ليس مجرد باحث نظري في التصوف ومدارسه ومعانيه وتاريخه واقطابه، إنما صاحب تجربة خاصة مع التصوف نتجت عن مخالطته ورؤيته لمشايخ الصوفية المعاصرين ورجالهم، وهو أيضاً مسؤول مركز "طواسين" وله العديد من المحاضرات عن التصوف الإسلامي في كل من مصر والمغرب والسنغال وعُمان والبحرين ولبنان وتركيا، كما انه محقق للتراث الكلامي والصوفي، ومنها تحقيقه لكتاب "روضةُ المريدين" وهو نص من مخطوط في جامعة برنستون لم تنشر من قبل لصوفي فارسي يدعى ابن يزدانيار الأرموي توصل اليها من خلال إشارة قدمها المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، وفيها يكتب بن يزدانيار ان أحد الإخوان سأله أن يجمع له فصولاً في معنى آداب الصوفية وأحكامهم وطريقتهم وأحوالهم وأخلاقهم، فأجابه إلى ملتمسه، وأختصر له طرفاً مما سمعه من المشايخ، وجعله كتاباً موجزاً لطيفاً سماه "روضةُ المريدين" يتكون من ثلاثةٌ وأربعين باباً، وقد نشر الباحث الباب السابع منه والمعنون "ذاتية التصوف" ضمن صفحات كتابه الذي وضعه في مستويات ثلاث " الأول منها ما يتوجه إلى الخاصّة وأرباب التفكّر العميق الذين يدركون ما ترمز إليه الكتابات الصوفية من معانٍ جليلة، والثاني يخاطب ذوي التفكير المتوسط، والثالث يخاطب طبقة العوام الذين لا يعرفون إلا القليل عن هذا العلم وأفكاره ونظرياته ومسالكه ". يحكي عبده عن حضور التصوف في حياته، وكان ذلك في أول تعرفه على كلمات الرومي التي مر عليها مرور الكرام وهو يقرأ بعض ترجمات المستشرق الإنجليزي نيكلسون، مدونة في كتاب ترجمه تلميذه أستاذ الثورة الروحية في مصر أبو العلا عفيفي : " ولم يكن هناك فرق بين ما قاله الجنيد أو ما قاله ابن عربي أو الرومي أو البسطامي أو الحلاج، الكلُّ يقول كلاماً جميلاً أكتشفه للمرة الأولى، ولا يمكن في حال من الأحوال أن أدرك ما في باطنه أو ما وراءه من عوالم ".

معنى أن تكون صوفياً، أن تكون إنساناً أولاً وقبل كلَّ شيء، ان تحقق معنى" وفيك انطوى العالمُ الأكبر"، ثم يسترسل في ذكر عدد من الصفات آخرها: أن تكون صوفياً، لا تقلّك أي أرض ولا تظلك أي سماء!.

وينهي عبده ذكره لصفات المتصوف بالقول: أن تكون صوفياً.. ألا تذكر كلّ ما كتبته هنا!. وفي ذلك إشارة إلى خصوصية التجربة الصوفية الفردانية الذوقية التي لا يمكن نقلها إلى الآخرين .

***

د. طه جزّاع  - كاتب اكاديمي

في المثقف اليوم