قضايا

التجارب الحاسمة ودورها في تطور النظريات العلمية (1)

محمود محمد علييرجع مفهوم التجارب الحاسمة إلي الأصل اللاتيني Experimentum Crucis ؛ حيث Experimentum تعني تجربة ، Crucis وتعني  حاسمة  أو فاصلة أو قاطعة، ومنهما اشتقت الكلمة الإنجليزية Crucial Experiments، وتعني أنه عندما يكون لدينا فرضان أخضعا للاختبار عن طريق التجربة، فإن التجربة وحدها تنفي أحدهما وتثبت الآخر، عندئذ يقال إنها  تجربة حاسمة ، فحيثما توجد تجربة من هذا النوع، فذلك يفهم منه أن  أحداً يمكن له التحقق من فرض نظري، وذلك بحذف حاسم لكل المنافسين له – أي الفروض ، وبهذا فإن التجربة الحاسمة هي التي يمكن أن تحسم في لحظة بين عدة نظريات متنافسة، ووضع بدلاً من ذلك نظرية لفحص وفرز نتائج سابقة لنظريات متنافسة، ليري ما إذا كانت فاسدة أو متقدمة .

ويمكن توضيح ذلك بهذا المثال الذي ذكره الفيلسوف الوضعي كارل همبل Karl Hemple ؛ حيث يقول: إذا افترضنا أن ق1، ق2 فرضان متنافسان بخصوص موضوع معين، وأنهما صمدا إلي حد بعيد وبقدر متساو في الاختبارات الامبريقية لدرجة أن البينة التي في متناول أيدينا لا تفصل أحدهما عن الآخر . ويمكن التوصل إلي اتخاذ قرار بشأنهما إذ أمكن تحديد اختبار للفرضين عن طريق التنبؤ بنتائج متضاربة، أي إذا كان بالنسبة لنوع معين من شروط الاختبار  ط  أنتج الفرض الأول اللزوم الأختباري القائل  إذا كان ط إذن هـ 1 حيث هـ 1، هـ 2 نتيجتان استبعاديتان بالتبادل . هنا إجراء الاختبار الحاسم من المفترض أن يدحض أحد الفرضين ويؤيد الآخر .

ويمكن تطبيق ذلك علي تلك التجربة الحاسمة التي أجراها فوكولت Foucault 1819- 1868 لإتخاذ قرار بصدد تصورين متنافسين عن طبيعة الضوء . أحد التصورين قدمها العالم الهولندي  هويجنيز Huyghens 1629-1695 وطوره فيما بعد كل من العالم الفرنسي  فريزنيل Fresnel 1788 – 1827 والطبيب الإنجليزي يونج Yong  1773 – 1829 اللذان قالا بأن الضوء يتألف من موجات عرضية منتشرة في وسط أثيري، وكان التصور الثاني لطبيعة الضوء، هو تصور  أسحاق نيوتن Isaac Newton  1642-1727، القائل بأن الضوء يتألف من جزئيات صغيرة للغاية متطايرة بسرعة عالية . فقد ترتب علي كلا الفرضين أنه أصبح بالإمكان استخلاص النتيجة القائلة بأن أشعة الضوء تتطابق مع قوانين الانتشار للأشعة الضوئية في خطوط مستقيمة من جانب وتتطابق أيضاً مع قوانين الانعكاس والانكسار الضوئية. ولكن التصور الموجي أدي إلي اللزوم الاختباري القائل بأن الضوء يسير في الهواء أسرع منه في الماء، بينما التصور الجسيمي يؤدي إلي نتيجة مضادة . وفي سنة 1850 نجح فوكولت في إجراء تجربة قارن فيها بين سرعة الضوء في الهواء مباشرة فأنتجت صورتين لنقطتين ضوئيتين منبعثتين بواسطة أشعة الضوء المارة عبر الهواء والماء علي التوالي، ثم تعكسان في مرآه تدور بسرعة فائقة، واعتماداً علي أن سرعة الضوء في الهواء أعظم أو أقل منها في الماء تظهر صورة المصدر الضوئي الثاني . ولذلك أمكن أن توضع بإيجاز اللزومات الاختبارية المتضاربة التي تضبطها هذه التجربة علي النحو التالي: إذا أجريت تجربة فوكولت تظهر الصورة الأولي إلي يسار الصورة الثانية وقد أبانت التجربة عن أن اللزوم الاختباري الأول كان صادقاً . واعتبرت هذه النتيجة دحضاً وعلي نطاق واسع للتصور الجسيمي للضوء وانتصاراً حاسماً للتصور الموجي .

وقد ظهرت فكرة التجربة الحاسمة في القرن السابع عشر، وذلك من خلال  فرنسيس بيكون  Francis Bacon 1561-1626  في كتابه  الاورجانون الجديدNovum Organum ، حيث استخدم فكرة الشواهد الحاسمة Instantiae Crucis، وهي التي تبين لنا عندما نتردد بين صورتين لتفسير طبيعة معينة أن اتحاد احدي هاتين الصورتين بهذه الطبيعة اتحاد ثابت غير منفك، وأن اتحاد الأخرى متغير – هذه الشواهد يمكن إدارج الصورة المتغيرة منها في قائمة الغياب .

ومن الشواهد التي استخدمها بيكون ليعبر بها عن التجربة الحاسمة هو مثال  الإشارة بالأصابع Instance of the Fingerposts  ليعبر به عن مفترق الطرق ؛ حيث يذكر أن هناك نظريتين للمد والجزر، النظرية الأولي تقول إن المد والجزر يرجع إلي حركة المياه جيئة وذهاباً علي شواطئ الأرض، بينما النظرية الثانية تثبت أن المد والجزر يرجع إلي حركة الصعود والهبوط الدوري للمياه، وهنا يتساءل بيكون: أياً من هاتين النظريتين صادق وأيهما كاذب؟  وهنا يجيب بيكون بأنه اكتشف من خلال ملاحظاته أن شخصاً ما ممن يجيدون السباحة إذا ألقي نفسه من مكان عالي ليسقط علي حمام السباحة، فإن المياه تندفع في الجزء المقابل للحمام، فيحدث هبوط للمياه أثناء لحظة السقوط وصعود في الجزء المقابل هذا من ناحية، ومن ناحية أخري يذكر بيكون أن أحد الباحثين اكتشف أنه في حالة وجود فيضان علي شواطئ فلوريدا هناك ارتفاع وانخفاض وقتي للمياه ، وفي نفس الوقت واللحظة لا يكون هناك ارتفاع وانخفاض للمياه على شواطئ إسبانيا وأفريقيا . ونفس الشيء كذلك أنه في حالة وجود فيضان علي شواطئ بيرو فإن هناك ارتفاع وانخفاض وقتي للمياه ، وفي نفس الوقت واللحظة فإن المياة علي شواطئ الصين لا يكون هناك ارتفاع وانخفاض للمياه . وهنا توصل بيكون إلي أن النظرية الثانية أصدق من النظرية الأولي، فقد كشفت النظرية الثانية أن المد والجزر ظاهرتان طبيعيتان تحدثان لمياه المحيطات والبحار بتأثير من القمر، فالمد هو الارتفاع الوقتي التدريجي في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر، والجزر هو انخفاض وقتي تدريجي في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر .

وفي القرن الثامن عشر أستخدم نيوتن  لأول مرة لفظ Experimentum Crucis في سنة 1672، وذلك من خلال الخطاب الذي أرسله للجمعية الملكية للعلوم يخبرها عن اكتشافه الجديد في الضوء واللون، وهذا الاكتشاف يرد فيه نيوتن  علي التفسير الميكانيكي - الديكارتي للألوان، والذي يعول فيه  ديكارت Descartes 1596-165  أن  الألوان ميكانيكية، وأن المنشور هو الذي يحول الضوء الأبيض إلي ألوان . لكن هذه النظرية في نظر  نيوتن  لم تكن كافيه، بل غامضة أيضاً، وهنا قام بإجراء تجربة حاسمة للكشف عما يحدث عندما يمر ضوء الشمس الأبيض خلال منشور، وقد عمد نيوتن إلي عمل ثقب صغير في النافذة حصل بوساطته علي حزمة ضيقة من ضوء الشمس، فاعترض سبيلها بمنشور قبل أن تسقط علي ستارة بيضاء أو حاجز خلفه علي قرب منه . فبدلاً من أن يشاهد صورة مستديرة كالتي يحصل عليها من ألة التصوير ذات ثقب الدبوس للشمس علي الحاجز كما هي في الحالة من غير المنشور، رأي صورة مستطيلة ذات لون خفيف من الزرقة في قمتها، ولون خفيف من الحمرة في القاعدة . ولقد ألهمته هذه النتيجة وقادته إلي فكرة أن ضوء الشمس الأبيض يمكن أن يتكون من أشعة مختلفة الألوان: من الأشعة الزرقاء الأكثر قابلية للانكسار، إلي أقلها قابلية للانكسار، وهي الأشعة الحمراء، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من أن تتكون الصورة المستطيلة التي علي الحاجز من عدة صور متداخلة للشمس له ألوان مختلفة، فلا يبقي غير أحد طرفيها النهائيين أزرق خالصاً، كما يبقي الطرف الآخر أحمر نقياً . ولكن لكي يتخلص من تداخل صور الشمس علي الحاجز أدخل نيوتن علي حزمة الضوء عدسة تعمل علي تجميع صورة الثقب الصغير الذي بالنافذة علي الحاجز، وعند ذلك قنع برؤية حزمة رأسية ذات ألوان ناصعة: الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، الأزرق، والبنفسجي، مع جميع الظلال المتخللة أو المتوسطة بين كل زوج منها، وكان هذا أول جهاز من أجهزة المطياف أو  سبكتر وسكوب ، وأول برهان حاسم علي الحقيقة القائلة إن الضوء الأبيض يتكون من أشعة ذات ألوان مختلفة وتتباين قابليتها للانكسار.

وفي هذه التجربة تمكن نيوتن من أن يوجد برهاناً حاسماً يثبت أن رواية  ديكارت حول أصل اللون محض كذب وهراء، فقد أعتمد علي سؤال هو: هل أصل الضوء الأبيض صاف وهل المنشور يصنع الألوان بأن يعدلها كما أدعي ديكارت ؟ أختبر نيوتن هذا التوكيد بأن حفر ثقباً في شاشة مجيزاً لجزء الطيف الأحمر فقط من المرور من خلاله، وقد شكل ذلك لحظة الحقيقة ؛ بمعني إذا كان  ديكارت محقاً، فإن المنشور ثانياً قد يتسبب بتعديل الضوء الأحمر، وينتج عن ذلك ألوان جديدة ؟ أما كان  نيوتن محقاً فإن الضوء الأحمر يبقي كما هو ولا يتبدل ؟ ولأن الضوء الأحمر مر عبر المنشور الثاني من دون أي تعديل، فإن اختبار  نيوتن الحاسم برهن أن المنشور لا يعدل الألوان، وأثبت أن الألوان كالأحمر علي سبيل المثال هو لون أساسي، وأن الضوء الأبيض قد تشكل نتيجة دمج الألوان المختلفة لأنه يحتوي علي كل ألوان قوس قزح . كما كان نيوتن أول من أثبت من خلال تلك التجربة الحاسمة أن الضوء الملون يمكن تركيبه ليكون ضوء أبيض، كما أدرك نيوتن أن الأشعة الضوئية ذاتها ليست ملونة، ولكن الإحساس باللون ينتج في الدماغ، باستنتاجه هذا تمكن نيوتن تمكن من اختراع التلسكوب العاكس ليتغلب علي مشكلة الألوان التي تظهر في التلسكوبات المعتمدة علي الضوء المنكسر.

ومن هذا المنطلق دخلت فكرة التجربة الحاسمة أدبيات فلسفة العلم، حيث استقبلها فلاسفة العلم المعاصرون ما بين مؤيد ومعارض ؛ فالمؤيدون ويمثلهم  التجريبيون المناطقة ، قد أكدوا علي أهمية ودور التجارب الحاسمة في تاريخ العلم، وهي لديهم نتيجة امبريقية المعرفة العلمية، لذا قد تظهر في صورة صاحبة الدور العبقري الذي يقدم معايير لتأييد أو تفنيد النظريات العلمية في الحال.

ومن المؤيدين أيضاً الفيلسوف النمساوي  كارل بوبر Karl Popper 1902-1994، والذي يري أن التجربة الحاسمة عليها عامل كبير في التكذيب، وبالتالي نمو المعرفة العلمية، فهي ضرورية من أجل تكذيب النظريات العلمية أو تعزيزها . فالنظريات التي تم تكذيبها بتجربة حاسمة، يجب نبذها واستبدالها بأخري في الحال، يطلق عليها فرضية تكذيب . فالعلم لا ينمو إلا بواسطة التكذيب القائم علي التجارب الحاسمة، وبالتالي فإن الرؤية العلمية الصحيحة في العلم كما يري بوبرهي أن تتخذ النمط النقدي صوب قوانينه ونظرياته ؛ أي أن علي العالم أن ينظر إلي القانون والنظرية من زاوية تقبل النقد، مما يجعل كل الاختبارات الحقيقة محاولات لتفنيدها، وإذا تجاوزت بنجاح هذه التفنيدات، فإنها تصبح معززة عن طريق التجربة الحاسمة .

وأما المفندون والمعارضون للتجارب الحاسمة وهم كُثر، فقد أداروا ظهورهم لمنطق اليقين التجريبي، واستحدثوا معايير أخري غير المعايير التي اعتادوا عليها في ظل فيزياء نيوتن التي سيطرت علي العقل العلمي بسبب اكتشاف زيف فرض الاثير وأنه فرض ميتافيزيقي ولا يمكن أن يبني منطق التحقق المعاصر علي ردود الأفعال، بل علي الفهم الصحيح لمنطق العلم . إذ كيف أتحقق مما لا أراه. إذن في ظل التطورات العلمية المعاصرة ليس هناك تجارب حاسمة فورية ذات واقع تجريبي في تاريخ العلم، فهل عندما نادي ديراك بنظريته عن الوجود السالب البوزيترون Positron كان يتكلم عن الواقع التجريبي، أو بالأحرى عن عالم ما وراء الخبرة .فلنقارن مثلاً بين تجربة  جاليليو Galileo  1564 – 1642 من فوق برج بيزا  عن السقوط الحر للأجسام، وبين تجربة المصعد عند  أينشتين Einstein  1879 – 1955 ، نجد أن الفرق شاسع، لأنه فرق بين عصرين، عصر كان يعاني من أزمة قديمة، فألقي بكل ثقله علي التجربة الحسية الحاسمة المباشرة، ورأي فيها القول الفصل في صدق أية قضية علمية، وعصراً آخر لا يري بأساً من الاعتماد علي التجربة التخيلية بعد أن أفلت الواقع من مصداقية الخبرة.

لكل ما سبق قصدت إلي إنجاز تلك المقالات عن  التجارب الحاسمة ودورها في تطور النظريات العلمية، وقد أخترنا أهم ممثلي التأييد: التجريبية المنطقية، وكارل بوبر، كما أخترنا أهم ممثلي التفنيد: العالم والفيلسوف الفرنسي  بيير دوهيم  Pierre Duhem 1861-1916 والعالم والفيلسوف المجري  أمري لاكاتوش  Imre Lakatos 1922-1974 . وللحديث بقية!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم