قضايا

التجارب الحاسمة ودورها في تطور النظريات العلمية (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الثاني عن التجارب الحاسمة ودورها في تطور النظريات العلمية، حيث نتحدث عن موقف التجريبية المنطقية من التجارب الحاسمة، وفي نقول: تعد التجريبية المنطقية من أهم تيارات فلسفة العلم المعاصرة، فقد تسيدت إلي حد ما المسرح الفلسفي في الربع الثاني من القرن العشرين، ويمكننا القول أنه حتي عام 1960 كانت التجريبية المنطقية هي فلسفة العلم الأنجلو – أمريكية، وبدون منافس يمثل خطراً حقيقياً . فقد قدمت المشكلات الأساسية التي ينبغي علي فلسفة العلم أن تعالجها، والمناهج الملائمة لحلها، والأهداف التي ترمي الوصول إليها . وكانت مبادئها من القوة والوضوح بحيث أثرت علي كل دارس لفلسفة العلم .

إن موقف التجريبية المنطقية المؤيد للتجارب الحاسمة يقوم علي أساس عدة مفاهيم جوهرية، أهمها " معيار التحقيق"، وهذا المعيار الهدف منه هو وضع حد فاصل بين القضايا التي لها علاقة بالوقائع، والتي ليست لها علاقة بها، وبالتالي لا بد من الربط بين المعني الواقعي للعبارات، وبين الخبرة – أي محاولة تثبيت حكم ما حول صحتها وكذبها عن طريق اختبارها بالملاحظة.

ويعد " مورتس شليك" Murtiz Schlick (1882 – 1936 ) أول من قام بصياغة هذا المبدأ صياغة محددة في عبارته المشهورة التي يقول فيها أنه حتي نفهم قضية ما ينبغي أن نكون قادرين علي أن نشير بدقة للحالات الفردية التي تجعل القضية صادقة، وكذلك الحالات التي تجعلها كاذبة، وهذه الحالات هي وقائع الخبرة . فالخبرة هي التي تقرر صدق القضايا أو كذبها، فالقضية توصف بالصدق أو الكذب، عن طريق إحالتها للخبرة مباشرة، لنري هل هناك في الواقع الخارجي واقعة تشير إلي ما تقوله القضية أم لا .

أما " نيراث" Neurath  ( 1882 -1945 ) فله رأي مختلف في معيار التحقيق عن رأي شليك، فهو يري أن القضايا تقارن بقضايا مثلها، لا بالخبرة أو الوقائع، أو بأي شئ آخر فالخبرة أو الوقائع أمور بلا معني وتنتمي للميتافيزيقيا، وبالتالي لا بد من رفضها، والبحث عن الأصل الذي يخلو من الميتافيزيقيا . ومن ثم فإنه يري أن القضايا لا بد وأن تجيئ صياغتها متفقة مع نوع من القضايا التي يطلق عليها قضايا البروتوكول Protocol Propositions، وقضية البروتوكول تحتوي علي اسم علم أو وصف معين لشخص ما يلاحظ شيئاً محدداً أو تحتوي علي كلمات تشير إلي فعل الملاحظة . وفي قضايا البروتوكول نشير إذن إلي أن الشخص فلان يدرك كذا وكذا من المعطيات في زمان محدد تحديداً تاماً .

والواقع أن معيار التحقق قد أثار جدلاً واسع النطاق، فقد كان قد أوقف علمية القضية علي التحقق فعلا سواء عن طريق الخبرة كما قال شليك أو بمقارنة قضايا البروتوكول بقضايا مثلها كما قال نيراث، فماذا يُري بشأن قضية لا تقبل التحقق الآن لأسباب فنية ربما قد ترجع إلي قصور أو قلة الامكانيات أو لأسباب أخري ؟

ولاشك في أن هذه هي الأزمة التي واجهت التجريبية المنطقية بعد ظهور علم الفيزياء النظري وضرورة تطوير الموقف، فهل تغلبت علي الأزمة ؟

الحقيقة لم تتغلب عليها تماماً، لكن حاول كبار التجريبين المناطقة وضع مسكنات لتفادي الأزمة، فقد نزع " أير " إلي استبدال مصطلح " مبدأ التحقيق" بـ " مبدأ إمكانية التحقيق"، وهو يستند إلي افتراض مسبق يقرر " أنه بالنسبة لكل قضية ينبغي أن يكون ممكناً، حتى أن لم يكن عملياً، إقرار ما إذا كانت القضية صادقة أو كاذبة .

وقد أتفق " أير Ayer" ( 1910 – 1989 ( مع " هيوم  Hume" ( 1711 – 1776 ) في أنه يمكننا تصنيف القضايا التي لدينا إلي مقولتين أساسيتين : الأولي تنطوي علي القضايا التي لها معني وتشمل القضايا القبلية مثل قضايا الرياضيات والمنطق التي لا يتوقف صدقها علي إجراء تحقيق تجريبي لأنها لا تتعلق بعالم الخبرة ولا تقدم اخباراً عنها . ومن فإنها صادقة صدقاً مطلقاً . والثانية تتضمن القضايا التجريبية التي تتصل بالواقع التجريبي، ويتوقف صدقها بالتالي علي عالم الخبرة . والقضايا التي لا تندرج تحت أي من المقولتين تتسم بكونها قضايا ميتافيزيقية فارغة من المعني .

ويقدم لنا " أير " تمييزاً بين نوعين من التحقيق في أطار تصنيفه للقضايا إلي قبلية وتجريبية، حيث يميز بين التحقيق بمعناه القوي والتحقيق بمعناه الضعيف . التحقيق بمعناه القوي توصف به القضية إذا كان من الممكن إثبات صدقها إثباتاً حاسماً، وهذا المعني للتحقيق تتمتع به القضايا القبلية، أي قضايا المنطق والرياضيات والقضايا الأولية وهي القضايا الوجدانية والقضايا التي تعبر عن الاحساسات والانفعالات الشخصية، ويكون تحقيقها بالرجوع إلي الوقائع مباشرة من حيث تمثل الخبرة الراهنة . أما القضية التي تتصف بأنها ممكنة التحقيق بالمعني الضعيف فهي تلك التي إذا كان من الممكن للخبرة أن تجعل لتلك القضية صدقاً احتمالياً، بمعني الميل للتصديق، وهذا المعني ينسحب علي قضايا العلوم التجريبية مثل الفيزياء.

وأما كارناب ( 1891 – 1970 )  فقد استعاض عن مبدأ إمكانية التحقيق بمبدأ القابلية للتأييد أو الإختبار Conformability or Testability  حيث ميز كارناب بين نوعين من القضايا القابلة للتأييد بواسطة الملاحظات . أما النوع الأول : فيتمثل في القضايا القابلة للتأييد والاختبار مباشرة . أما النوع الثاني :  فيتمثل في القضايا القابلة للتأييد والاختبار بصورة غير مباشرة . بالنسبة للنوع الأول ويتمثل عندما تكون الظروف متاحة بحيث تجعلنا بكل سهولة نقول أنها مؤيدة أو غير مؤيدة بناء علي عدد قليل من الملاحظات التي تفصل الموافقة أو الرفض . فعندما أقول مثلا " هناك مفتاح في درج مكتبي " . هنا لكي تكون العبارة مؤيدة، أن تتوافر الشروط اللازمة للاختبار : أن أقف قريبا من درج المكتب، أن تكون الإضاءة متوافرة بحيث تتيح الفرصة للرؤية. أما شرط التوافق هو أن أري بنفسي المفتاح في درج مكتبي . النوع الثاني يكمن في اختبار وتأييد قضايا مستنتجة من القضايا الكلية موضع التساؤل، ولما كانت القوانين العلمية قضايا كلية، كان من الممكن أن تؤيد بدرجة أعلي أو أقل في ذلك من خلال توافق القضايا المشتقة من هذه القوانين، ومن ثم يمكن قبولها .

إن فهم القضية العامة أو القانون العلمي يتطلب في واقع الأمر أن لدينا القدرة علي أن نشير إلي الحالات الجزئية التي تجعل هده القضايا صادقة، وكذلك الحالات التي تجعلها كاذبة  وهذا لا يكون إلا من خلال وقائع الخبرة، فالخبرة هي التي تقرر صدق القضايا وكذبها، وفيما يتعلق بصدق القضايا وكذبها، فقد حرص كارناب علي أن يميز بين الصادق والمؤيد، والصادق هو الذي يستخدم دون تقيد بالتحديد الزمني، في حين أن المؤيد يستند إلي عنصر الزمن، فعندما يقول شخص ما : إن هذه العبارة أو تلك مؤيدة  بدرجة أعلي، وذلك عن طريق الملاحظات، فإنه من الضروري أن نضيف إلي هذه العبارة "  في هذا الوقت أو ذاك ".

وهنا يحاول كارناب أن يبرز فكرة أن الخبرة أساس قوي للاختبار في تأييد القانون العلمي، كما أنه ليس هناك اختلاف نوعي بين القضايا الكلية والقضايا الجزئية، بل كل ما هنالك اختلاف في الدرجة وحسب، فإذا أخذنا القضية " هذا المعدن يتمدد بالحرارة "، فإنه يمكننا التثبت منه بواسطة بعض الملاحظات، أما في حالة القضية العامة الكلية " كل المعادن تتمدد بالحرارة"، فإننا نختبر القضايا التي نشتقها منها علي أساس أن القانون العلمي أو العبارة العامة تقدم استنتاجات أو تنبؤات، ولما كان عدد هذه التبؤات أو الحالات التي يمكن اشتقاقها منه هو عدد غير محدود ولانهائي، لذلك لا يمكن التحقق منه بصورة تامة وقاطعة . ومن الناحية العملية لن نستطيع الوصول إلي يقين كاف بعد إجراء عدد قليل من التجارب . ومن ثم يمكننا أن نقف بعملية التجريب عند بعض الأمثلة الإيجابية، فليس هنالك تحقق كامل وتام، بل كل ما هنالك هو تأييد متزايد وباستمرار.

ومن جهة أخري فقد حاول كارناب ربط الفهم الوظيفي للقانون من وصف وتفسير وتنبؤ بالقابلية للتأييد للقانون موضع التساؤل ؛ فعندما حاول وضع الطريقة التي يتأيد بها القانون في ضوء البينة المتوفرة لدينا، كان في واقع الأمر، لا يريد سوي تحديد أو معرفة الأسس التي يمكن الاعتماد عليها للتنبؤ بوقوع أحداث مستقبلية أو أحداث لم يتم معاينتها بعد، الأمر الذي يجعل القانون العلمي يقوم بمهامه.

ننتقل إلي نقطة أخري وهي : كيف يمكن التحقق من النظرية في ضوء ملاحظات التجربة؟

كانت البداية التي انطلق منها كارناب بشأن التأييد أو عدم التأييد هو أن " العلم يبدأ بملاحظات مباشرة لوقائع مفردة، ولا شئ آخر يمكن ملاحظته بالتأكيد لا يمكن ملاحظة الانتظام بشكل مباشر، وإنما يتم اكتشاف الانتظاميات عندما نقوم بمقارنة العديد من الملاحظات الواحدة بالأخرى . يتم التعبير عن مثل هذه الانتظاميات بقضايا تسمي " قوانين"  ؛ ومجموع القوانين يشكل النظرية، والنظرية بحسب مفهوم كارناب لها  تتألف من حساب مجرد مقترن بتأويل تجريبي"  ؛ أي تتألف من قوانين نظرية وقواعد للتطابق مهمتها " ربط النظريات بالوقائع أو معطيات الملاحظة ". وعندئذ تكون " النظريات انساقا ذات محتوي تجريبي "، مما يجعل أمر اختبارها سهلا يسيرا، وذلك عن طريق الملاحظات والوقائع التجريبية .

وإذا كانت هذه القاعدة عند كارناب تجعل اشتقاقات النظرية قابلة للاختبار تجريبيا من خلال ربطها بأقوال الملاحظة والتجربة، فإن أي اشتقاق منها لا يكون، في واقع الأمر، ذا أهمية ما لم يكن قابلا للاختبار التجريبي ولو مبدئيا، وبالتالي فإن أي نظرية لا تكون مثمرة لتنبؤات أو استنتاجات أو اشتقاقات غير قابلة بدورها للاختبار لا تقبل التأييد أو عدم التأييد تجريبيا. وبعبارة أخري تتلقي النظريات التأييد عندما تمتلك الإمكانية في أن تنتج تنبؤات أو نتائج دقيقة . والتنبؤ يشير دائما إلي حادثة ممكنة . لكن لكي يكون هذا التنبؤ سليما بغض النظر عن كونه صادقا أو كاذبا ينبغي أن يكون محسوبا بدقة .

في هذا الضوء يكون هذا التنبؤ كافيا للعالم أو لفيلسوف العلم لأن يقول بصدده : إنه – أي التنبؤ – ممكن استنباطه . وهنا يظهر دور الملاحظات والتجربة في تأييد النظرية أو فشلها . هذا معناه أنه في ضوء التجربة يمكن مواجهة التنبؤات الخاصة بالنظرية بحالات الملاحظة ... فإذا نجحت التنبؤات هذه كانت النظرية مبررة، وإذا كذبت كانت مفندة أو كاذبة أو غير مبررة . أي أن اختبارات الملاحظة للنظرية العلمية موضع التساؤل تمدنا بإشارة نعم أو لا لتنبؤاتها  - أي تنبؤات النظرية. لكن نتساءل : كيف يمكن لنا نختبر نظرية علمية في ضوء فلسفة كارناب :-

1- لابد أن يكون لدينا نظرية قابلة للاختبار التجريبي .

2- أن نستخدم المنهج الفرضي الاستنباطي حيث يتم اشتقاق نتائج النظرية أو تنبؤاتها.

3- إعداد إجراء تجريبي أو الملاحظات الخاصة بهذه النظرية، وذلك لتأييدها أو رفضها .

4- وبعد التوصل إلي تأييد النتائج التجريبية المستنبطة منها يمكن للشخص الحكم علي النظرية وصحتها، كما يمكنه أيضاً معرفة أن حالات التأييد الكثيرة والمتنوعة لا شك في أنها ترفع من قبول النظريات والعكس صحيح.

وينتهي كارناب إلي القول بأن التطور العلمي إنما يتم عن طريق "تأييد" المشاهدة المستقاة من التجربة للنظرية المقترحة من العقل وكلما ظهرت نتائج جديدة لتجارب مختلفة حول نظرية ما كلما تأيدت صدقية هذه النظرية، وعلى ذلك فالتقدم إنما يتم بتراكم المعرفة شيئا فشئياً الأمر الذي يستشهد فيه عادة بمقولة إسحاق نيوتن الشهيرة: "إنني لم أستطع أن أرى أبعد من الآخرين إلا عندما صعدت على أكتاف من سبقوني". ورغم الجهد الذي بذله كارناب في تنقيح وتعديل "التجريبية المنطقية" لإنقاذها من النقد الشديد الذي وجه إليها، إلا أنها لم تستطع أن تحافظ على بريقها القديم فنشأت بعدها تيارات فلسفية أخرى، كان من أشدها عليها المنهج التكذيبي الذي تبناه كارل بوبر.

وخاتمة القول فإن التجريبية المنطقية برغم اختلاف أصحابها حول معيار التحقيق، إلا أنهم أجمعوا جميعاً علي ضرورة الأخذ بالتجربة الحاسمة للمفاضلة بين النظريات، وذلك لأنها بالنسبة لهم تمثل نتيجة امبريقية المعرفة العلمية، لذا قد تظهر في صورة صاحبة الدور العبقري الذي يقدم معايير لتأييد أو تفنيد النظريات العلمية في الحال.

وللحديث بقية!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم