قضايا

التجارب الحاسمة ودورها في تطور النظريات العلمية (3)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الثالث عن التجارب الحاسمة ودورها في تطور النظريات العلمية، حيث نتحدث عن موقف كارل بوبر من التجارب الحاسمة، وفي نقول: يعد كارل بوبر واحداً من أهم فلاسفة العلم المعاصرين . فقد أثرت مؤلفاته علي غالبية الدارسين لفلسفة وما زالت تؤثر عليهم حتي اليوم. ومن المعروف أن بوبر كان من أوائل الفلاسفة الذين انتقدوا حركة التجريبية المنطقية منذ بدايتها، واتسمت انتقاداته بالقوة والتأثير إلي درجة أنها مهدت في نهاية الأمر إلي ثورة شاملة علي التجريبية المنطقية، ولم يكتف بوبر منفذ هذه الحركة، بل قدم نظرية جديدة عن العلم تتفادي الصعوبات التي واجهتها . ولذا شكلت نظريته المنافس الرئيسي لحركة التجريبية المنطقية، كما أنها المدرسة – إن جاز هذا التعبير – التي تخرج منها معظم فلاسفة العلم المعاصرين  .

إن مفهوم بوبر للتجارب الحاسمة يقوم علي أساس مبدأ التكذيب، وليس مبدأ التحقيق والتأييد؛ بمعني أنه إذا كان دور التجربة أو الخبرة عند التجريبين المناطقة قائم علي فكرة أن العلم يبدأ بمشاهدات أو ملاحظات ويشتق عنها قوانينه ونظرياته بطريقة استقرائية، وأن دورها بالإضافة إلي ذلك – يؤيد القوانين والنظريات، فإن بوبر يري أن منهج العلم عكس ذلك فهو قائم علي التخمينات والمحاولات المتكررة بوصفها صيغة لـ " منهج المحاولة واستبعاد الخطأ " Method of Trial and Error. ومن ثم فإن نمو المعرفة يتقدم ابتداء من حذف الخطأ Elimination of Error ، ويمكن الإشارة إلي هذه العملية بصيغة بوبر الآتية:

P1--------TT-------EE--------P2

حيث نبدأ بمشكلة ما، ونصيغ حلاً مؤقتاً، أو نظرية مؤقتة، ثم نعرضها بعد ذلك لكل الاختبارات الشاقة الممكنة في إطار عملية حذف الخطأ الذي يقودنا لصياغة مشكلات جديدة، وهذه المشكلات تنشأ من نشاطنا الخاص المبدع، يقول بوبر:" يستند التقدم في العلم أو في الكشف العلمي إلي الاستخدام الثوري لعملية المحاولة النقدية وحذف الخطأ التي تتضمن بدورها البحث عن اختبارات تجريبية عديدة أو محاولات ممكنة لضعف النظريات العلمية أو تفنيدها " .

والموقف الذي اتخذه بوبر هنا من العلم قائم علي أن هناك سمة أساسية في ضوئها تميز بين ما هو علمي وما هو غير علمي هذه السمة هي " القابلية للتكذيب Falsifiability "، حيث أن ما يشغل خيالنا بل ويشده فيما يري بوبر هو تفنيد نظريته المبكرة عندئذ يكتسب العلم دلالته وخصوصاً عندما يكون واحداً من المغامرات الفكرية التي يسعي إلي ممارستها الانسان . وبوبر هنا يري أن مبدأ القابلية للتكذيب يقرر ما إذا كانت النظرية تعطينا محتوي اخبارياً أم لا،  وذلك في ضوء حجج تجريبيه وملاحظات .... فمهمة العلماء هي أن يحكموا النظريات في ضوء اختبارات قاسية .

إذا ما تم لنا اختبار النظريات، فإننا نقبل النظرية الأكثر قابلية للتكذيب، والأكثر قابلية للاختبار، والأكثر في المحتوي (سواء المحتوي التجريبي أو المحتوي المنطقي). وعندما نتعرض للعلاقة بين القابلية للتكذيب وبين المحتوي المعرفي للقوانين والنظريات، نجدها علاقة وطيدة، إذ أن المستهدف من وراء ذلك هو محاولة تكذيب أو تفنيد المحتوي المعرفي لأي قانون أو نظرية . والواقع أن سبب هذه العلاقة القوية بينهما هو أن التحليل الدقيق لنظرية القابلية للتكذيب يظهر لنا أنه من الضروري أن نبحث عن النظريات الأكثر في محتواها المعرفي، النظريات الجسورة أو الجريئة متذكرين دائماً أن النظرية الأفضل هي التي تخبرنا أكثر، أو ذات محتوي معرفي أكثر، وهي بالتالي الأكثر قابلية للتكذيب. في ضوء هذه العلاقة، يمكننا تفضيل نظرية أينشتين – مثلاً عن نظرية نيوتن، والسبب هو أن دلالة النظرية الأولي – النسبية – فيما يري بوبر دائماً ما تظهر في اعتمادها علي السياقات الأكثر شمولاً.

والمحتوي المعرفي يتضمن الحديث عن المحتوي التجريبي Empirical Content والمحتوى المنطقى Logical Content  . والمحتوى التجريبى يعول على أن النظرية التى تخبرنا بالكثير عن الوقائع المشاهدة هى التى تمنع الكثير أيضاً من الوقائع وتحرم حدوثها، بحيث اذا صدقت من هذه الوقائع المحرمة والمناهضة للنظرية تم تكذيب النظرية على الفور، ولا يعنى ذلك أن "بوبر" يطالبنا بأن نتفرغ لتكذيب كل النظريات العلمية القائمة وإنما يطالبنا بالبحث الدؤوب عن الأمثلة السالبة للنظرية القائمة . ونجد عند " كارناب " قضايا من نفس النوع وإن اختلفت مشاربه عن "بوبر"، حيث يذكر، " كارناب " أن القوة الحقيقية للقضية تتمثل فى استبعادها بعض الحالات الممكنة . ويؤكد " بوبر " قائلاَ: إن ما يشير اليه "كارناب "، بالحالات الممكنة يعنى طبقاً لتصوره عن العلم نظريات أو فروض ذات درجة عالية أو ذات درجة منخفضة من العمومية .

وإذا كان المحتوى التجريبي هو فئة المكذبات المحتملة التى تجعل النظرية قابلة للتكذيب، فإن محتواها المنطقي هو فئة النتائج التى يمكن أن تستنتج من القضية العلمية سواء كانت قانوناً أو نظرية فى ضوء ذلك، فإن ما يميز هذه النظرية عن تلك أو هذا القانون عن ذاك إنما هو القابلية للاشتقاق، بحيث نتأكد أنه كلما أمكن اشتقاق أكبر عدد من القضايا منها كانت أكثر قابلية للتكذيب، وكانت بالتالي النظرية علمية أكثر من غيرها .

والسؤال الآن ماذا نفعل إذا وجدنا أنفسنا بمواجهة أكثر من نظرية تتوافر فيها شروط القابلية للتكذيب، القابلية للاختبار والمحتوى المعرفى؟ كيف نفاضل بين النظريات ونختار؟

يذهب بوبر إلى أننا نختار من بين النظريات المتكافئة أو المتنافسة، تلك التى تقدم حلولاً عدة لمشكلة واحدة، نختار أكثرها قابلية للتعزيز، ويتسنى لنا هذا باختبار النظرية فى المواضع التى تتعارض فيها مع بقية النظريات المتنافسة، ونسترسل فى إجراء الاختبارات بين هذه النظريات حتى نضع أيدينا على أكثرها موجبة في التعزيز Corroboration.

ودرجات التعزيز عند بوبر هي تقرير موجز لبيان حالة البحث النقدي لنظرية ما في زمن معين، في ضوء طريقة النظرية في حل المشكلات، ودرجة قابليتها للاختيار، وصرامة الاختبارات التي تمر بها النظرية وطريقتها في مواجهة تلك الاختبارات .

لكن التعزيز هو فقط بالنسبة للقضايا المختبرة، هي مرة أخري، اختبارية، وموضع بحث دائماً وما أن تنتهي عملية اختبار القوانين أو النظريات إلا ونجد نتيجتين مختلفتين . هاتان النتيجتان من المحتمل وقوعهما، لكن ليس معاً وهما أن تكون النظرية كاذبة أو معززة . فالأولي تحدث عندما تناقض التنبؤات المستنبطة مع الواقع التجريبي أو العبارات الأساسية . أما إذا تعرضت النظرية أو القانون إلي اختبار القابلية للتكذيب واستنبطنا منها تنبؤات جديدة، وكانت هذه الأخيرة متوافقة مع الواقع أي مع العبارات الأساسية، فقد تم تعزيز النظرية أو القانون والتعزيز هنا يعني أن القانون خضع لاختبار قاس، وقد   اجتازه .

ويري بوبر أن النظرية التي تجتاز هذه الاختبارات القاسية يمكن القول بأنه تم تعزيزها . لكن التعزيز لا يثبت صدق النظرية، بل يعني فحسب قبولها بصورة مؤقتة ثم القيام بمحاولات أخري لنقدها وتكذيبها . وعلي هذا لا يوجد شيء يقيني في العلم، إذ أن كل النظريات تقبل المراجعة المستمرة . لكن الفكرة الأساسية التي تكمن وراء التعزيز هي أن النظرية الجديدة لا بد أن تتجاوز نطاق النظريات القديمة وتتنبأ بوقائع جديدة، أو أن الاكتشافات الجديدة تؤيد النظرية الجديدة في حين تكذب وتفند النظرية القديمة . ولذا يستشهد بوبر ببعض الاكتشافات، مثل اكتشاف كوكب نبتون  Neptune أو الموجات الكهروماغنيطيسية  Electromagnetic ، ثم يقول: كل هذه الاكتشافات تمثل تعزيزات أدت إليها الاختبارات القاسية، أي تنبؤات كانت غير محتملة في ضوء معرفتنا السابقة، أي تلك المعرفة السابقة علي النظرية التي تم اختبارها وتعزيزها .

ويطور بوبر تلك الفكرة من خلال فكرة التجارب الحاسمة التي نستخدمها عندما نقارن بين نظريتين علميتين متنافستين . فهو يلاحظ أن بعض النظريات العلمية لم يتم تفنيدها قبل ابتكار النظرية الجديد، فلم يتم تفنيد نظرية كبلر أو جاليليو قبل ظهور نظرية نيوتن، ولم يتم تفنيد نظرية بطليموس قبل ظهور نظرية كوبرنقوس . وبناء علي هذا يقول بوبر: " في حالات مماثلة لهذه تصبح التجارب الحاسمة  مهمة علي نحو قاطع أو فاصل، فليس ثمة ما يدعونا لاعتبار النظرية الجديدة أفضل من النظرية القديمة .... حتي نشتق من النظرية الجديدة تنبؤات جديدة لم يكن من الممكن الوصول إليها عن طريق النظرية القديم ... وهذا النجاح وحده هو الذي يبين أن النظرية الجديدة لها لزوميات صادقة، أي محتوي صادق، في حين أن النظريات القديمة لها لزوميات كاذبة، أي محتوي كاذب .

ونستطيع انطلاقاً من مفهوم التعزيز والتجارب الحاسمة، أن نعيد بناء تصور بوبر لتقدم العلم . فيبدو أننا نستطيع أن نميز بين حالتين يمكن أن تظهر النظرية الجديدة أو علي وجه أدق تحدث بها الثورات العلمية . ونبدأ في الحالة الأولي من نظرية واحدة، ثم نخضعها للاختبارات التجريبية، ونحاول نقدها ورفضها في نهاية الأمر . ويرغم التفنيد التجريبي العلماء علي أن يبحثوا عن نظرية أخري أفضل .ونبدأ في الحالة الثانية من فرضين – متنافسين أو أكثر – موجودين في ذات الوقت، أي في فترة زمنية قصيرة جداً . وأثناء سياق النقاش النقدي الذي ينتج عن ذلك مباشرة، يتصور العلماء تجربة تقوم بتفنيد أحد الفرضين المقترحين وهذه التجربة كما يقول بوبر هي التجربة الحاسمة  .

وهنا علي العالم أن يجري تجارب حاسمة تساعد علي تكذيب واستبعاد بعض هذه النظريات . علي أننا قد نجد أنفسنا في مواجهة نظريات متكافئة ؛ بمعني أنها تقدم حلولاً لبعض المشكلات الفرعية لمشكلة أساسية واحدة، بحيث لا تشارك كل نظرية النظرية الأخرى في هذه الحلول الفرعية، وهنا يقترح علينا بوبر بأن نختار النظرية التي تتميز بأنها تحل المشكلة الأساسية وتعطي أكبر قدر ممكن من حلول المشكلات الفرعية والتي تفشل بقية النظريات المنافسة في تقديم حلول مماثلة لها .

ووصولنا إلي هذه النظرية لا يعني نهاية المطاف – فالبحث النقدي لا يتوقف، وإنما علي الباحث أن يخضع النظرية في أي وقت لاختبارات جديدة، وكلما تخطت النظرية من هذا النوع ظلت هي الأعظم في المحتوي المعرفي ومن حيث قوة تفسير، وأبقينا عليها مؤقتاً، فهي أفضل ما لدينا من نظريات حتي     الآن .

ومن ناحية أخري فلم تعد التجربة الحاسمة بمثابة تأييد لأحد الفروض كما كان متبعاً، وإنما أصبحت التجارب بمثابة اختبارات للنظريات القائمة ومحاولات من جانبنا للبحث عن الخطأ في النظريات، ومن ثم استبعادها . وإذا كان " التجريبيون المناطقة " قد اعتقدوا أنه يمكن الأخذ بالتجربة الحاسمة وذلك عن طريق التحقق من صدقها، فإنها عند بوبر يؤخذ بها لكونها ترفض النظرية بتكذيبها .

لكن ألا تؤدي التجربة أي دور إيجابي للنظرية ؟

إن هذا الدور الإيجابي يتمثل في نجاح النظرية وفشل التجربة، بمعني أنه إذا لم تنجح التجربة في رفض نظرية معينة، فإن النجاح يكون من حظ النظرية، وعندها نقول أن النظرية أصبحت معززة عن طريق التجارب، وكلما تخطت النظرية تجارب جديدة كلما زادت درجة تعزيزها . ودور التجربة هنا وثيق الصلة بتصور بوبر للمعرفة، فكلما نجحت تجربة واستبعدنا نظرية كان علينا أن نبحث عن نظرية بديلة أكثر سعة وشمولاً طبقاً للمنهج البوبري.

إننا نستطيع أخيرا أن نعترض علي فكرة التجارب الحاسمة علي أساس أن تلك الفكرة تفترض ثبات معني الحدود العلمية المتعاقبة . لكن إذا كانت تلك الحدود نظرية فما الذي يضمن لنا أن تقرير ملاحظة لإحدي التجارب الحاسمة سيمكننا بالفعل من الفصل بين النظريتين؟ فلو سلمنا بأن الحدود تتغير معانيها تبعاً لتغير النظريات العلمية، فسينتج عن ذلك أن عبارات الملاحظات المستخدمة في التجارب الحاسمة لا تستطيع أن تعزز نظرية أو أن تكذب أخري .

إننا نعتقد مع بعض الباحثين أن فكرة التعزيز لا تتجاوز كثيراً فكرة التأييد عند كارناب، ذلك لأن كلتا الفكرتين تقوم علي أساس تحليل النظريات العلمية في إطار النسق الفرضي – الاستنباطي، فالتأييد يقوم علي أساس أن النظرية تستلزم تنبؤات أو عبارات ملاحظة . وإذا كان التنبؤ كاذباً، فإن النظرية تكذب، أما إذا كانت هناك تنبؤات عديدة صادقة، فإن النظرية يتم تأييدها . يقول هيلاري بوتنام " ورغم كل الهجوم الذي شنه بوبر علي المذهب الاستقرائي، فالشكل الذي يقدمه لا يختلف اختلافاً كبيراً، وأية هذا أن النظرية تستلزم تنبؤات، أي عبارات أساسية . وإذا كان التنبؤ كاذباً فإن النظرية تكذب .أما إذا كانت هناك تنبؤات عديدة صادقة بدرجة كافية، مع استيفاء شروط إضافية معينة، فإن النظرية يتم تعزيزها بدرجة كبيرة . .... وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم