قضايا

التجارب الحاسمة ودورها في تطور النظريات العلمية (4)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الرابع عن التجارب الحاسمة ودورها في تطور النظريات العلمية، حيث نتحدث عن موقف بيير دوهيم من التجارب الحاسمة، وفي نقول: شهد القرن العشرين في فلسفة العلم ظهور مجموعة من الفلاسفة والعلماء أطلق عليهم دعاة المذهب "الأداتي - الاصطلاحي"، فقد نظروا إلى القوانين والنظريات والأنساق العلمية بوصفها أدوات أو اصطلاحات للربط بين الظواهر والتنبؤ بها والسيطرة عليها، توصف بالصلاحية أو عدم الصلاحية، وليست تعميمات استقرائية أو قضايا إخبارية ذات محتوى معرفي عن العالم التجريبي لتوصف بالصدق أو الكذب . فتقاس قيمة النظرية العلمية بقدرها على أداء وظائف العلم، وليس بقدرتها على التعبير عن الواقع بصدق .

بمعني أن القوانين العلمية والنظريات والأنساق العلمية ليس صورة عقلية طبق الأصل من الطبيعة، بل الأمر فى مجملة أشبه بصياد رمى بشبكة فى بقعة ما من البحر يريد صيداً، فهل ما تخرج به الشبكة يعبر عن حقيقة ما يوجد فى أعماق البحر، أم أن ذلك يتوقف على المكان الذى اختاره الصياد للصيد ونوع الشباك واتساع فتحاتها وغير ذلك، ولو تغير أحد هذه الأشياء لتغير لذلك الصيد كما وكيفا . وهكذا فمفاهيم وقوانين العلم عندهم كشبكة الصياد، أى اصطلاحات متعارف على معانيها بين العلماء، إنها مجرد وسائل مفيدة لفهم الطبيعة . فإذا صادفنا ما هو أفضل منها "وظيفياً" بادرانا بالتخلص منها كأي شئ استهلاكي عادي. بيد أن هذا لا يعنى أن قوانين الطبيعة هى قرارات عشوائية يتفق عليها العلماء اليوم ليختلفوا غداً . بل لها بالتأكيد مضمون واقعي .

كما أصر الأداتيون – الاصطلاحيون على أنه لا يمكن اعتبار القانون العلمى مشتقا من الاختبارات التجريبية، لأن القانون عام والتجربة جزيئه، والقانون محدد بدقة والتجربة تقريبية تحتوى على كثير من التعقيدات يستبعدها القانون . والتجربة منتهية والقانون قابل دائما للتطور والتقدم . فكيف تكون النظرية العلمية نتاجا للواقع التجريبي؟! إنها نتاج العقلية العلمية المبدعة وتكشف عن عمليات منطقية أكثر مما تكشف عن وقائع تجريبية . فقد تتكيف النظرية وفقا لمقتضيات التجربة التى لا تمثل أكثر من مرشد، فدورها استشاري فقط لتحديد أنسب الفروض العلمية والأكثر ملاءمة، أى الأدق فى التنبؤ والأوسع فى العمومية، من دون الزعم أن القانون حقيقة متمثلة فى الواقع التجريبي.

وقد جاء بيير دوهيم ليسحب التفسير الأداتي - الاصطلاحي على العلم بأسره، وذلك فى كتابه " هدف وبنية النظرية الفيزيائية " رأى أن النظرية العلمية تمدنا بنظام صوري عام لضم عدد كبير من القوانين الجزئية وهى بهذا بنية من كيانات مجردة، ليست وصفا ولا تفسيرا لوقائع العالم التجريبى، بل هى مجرد أدوات اصطلحنا عليها للتنبؤ، صيغت لتكون أكفأ وتنبؤاتها أدق، كل ما يبدو وصفا هو مجرد تعيين لعلاقات تجعل التنبؤ أسهل وأدق .أما التفسير فليس له قيمة ولا دور، مهمة العلم تنحصر فى تحديد العلاقات بين الظواهر .

كما يعتقد دوهيم إضافة لما سبق أن الفكرة الاصطلاحية في العلم قد أتت من تحليله لاستحالة التأييد العلمي . وهذا بالطبع، هو ما جعله يفكر في كون هذا الفرض صادقاً أو كاذباً . والسبب هو أن العالم منشغل – وبحرية في أن يغير أي الفروض الماثلة في مقدمات النظرية وهنا يأتي اصطلاح الفرض أي أن عملية الصدق والكذب ليست واردة هنا وبناء علية فإن دوهيم قال أن التجربة الحاسمة تبدو مستحيلة في الفيزياء .

A " Crucial Experiment " Is Impossible in Physics

وقد برهن علي ذلك من خلال عدة توجهات:

التوجه الأول: ويتمثل في التحفظات الخاصة بالتجربة الحاسمة التي أجرها فوكولت عام 1850 والتي حسم بها النظريتين الجسيمية والموجية، حيث تبين له أن سرعة الضوء أقل سرعة في الماء عنها في الهواء ومن ثم تأيدت النظرية الموجية وأهملت الجسيمية لم تكن تجربة حاسمة بالمعني الدقيق وإنما كانت إجراء فوري وهذا الإجراء لم يثبت علي طول الخط، فقد جاء العالم الألماني " ماكس بلانك Max Plank " ( 1858 – 1947 ) ليعلن أن النظرية الجسيمية للضوء لم تكن بالنظرية الفاشلة في تاريخ العلم، فلقد أثبت بلانك أن الضوء يتآلف من جسيميات هي الفوتونات وهذه الفوتونات تتكون من طبيعة جسيمية لا موجية . لقد اكتشف بلانك أن الفوتون يسافر عبر الخلاء في خطوط مستقيمة إستدل علي ذلك بتجربة بسيطة: حين يمر إشعاع في غاز ما فإن عدداً قليلاً من جزيئات هذا الغاز تتبعثر بينما لا يتأثر عدد كبير من الجزيئات بمرور الإشعاع: فإذا كان الإشعاع مؤلفاً من موجات تسير عبر الأثير كنا نري كل جزيئات الغاز تبعثرت، ومن ثم أيد بلانك نظرية نيوتن في النظرية الجسيمية في الضوء . وكان " أينشتين " متابعاٌ لنتائج أبحاث بلانك في " الفوتونات Photon "، فقد أعلن سنة 1905 أن الإشعاع يتألف من وحدات جسيمية منفصل بعضها عن بعض وهذه الوحدات تسمي بالفوتونات .

وهنا يعقب دوهيم بأنه إذا كان نيوتن قد قال أن الذرات والضوء من طبيعة جسيمية، وإذا كان هويجنز قد قال أن الذرات والضوء من طبيعة موجية . وظل الخلاف حاسماٌ حتي جاء فوكولت بالتجربة الحاسمة في صف النظرية مؤيداُ لهويجنز . لكن لما جاء القرن العشرون عاد بلانك وأيده ألبرت أينشتين إلي النظرية الجسيمية للضوء، وظل الأمر كذلك حتي جاء العالم الفرنسي " لوي دي بروي Louis de Broglie " المولود عام 1892 , والعالم النمساوي " إيرفين شرودنجر Erwin Schrodinger " ( 1887 – 1961 ) وعاد إلى النظرية الموجية للضوء والمادة وعاد الخلاف الحاسم بين النظريتين من جديد . لكن الأمر الآن استقر علي موقف تبناه العالم الألماني " فيرنر هيزنبرج V.Heisenberg " والعالم " بورن Born " ، وهو أن الذرة والضوء يمكن أن يفسرا بالتصور الموجي والجسيمي معاً – لكن ليس في لحظة واحدة، المادة والضوء يفسران تفسيراً جسيمياٌ في السرعات المحدودة لحركة المادة، ويفسران تفسيراُ موجياٌ حين تصل سرعة المادة إلي سرعة الضوء .

وأخيرا يختم دوهيم حديثه بأنه لا توجد ثمة تجربة حاسمة حقيقية في علم الفيزياء، قد تكون هناك تجارب حاسمة في علوم أخري مثل علم الفسيولوجيا، أما في الفيزياء فإن التجربة الحاسمة تكون مستحيلة . ذلك لأن – أي التجربة بدلاً من ذلك تبدو رحبة بحيث تقبل الأنساق النظرية   (فروض ونظريات) لنفس الظاهرة موضع التساؤل . فإذا كنا قد ركزنا اهتمامنا علي فرضين بصدد الضوء، فإن هذا ليس معناه أنه إذا وجد أكثر من ذلك فتكون غير مقبولة، بل علي العكس فإن الاصطلاحية تعلمنا كيف يمكننا طرح أكثر من فرضين متباينين ليغطي ذات الظاهرة، وليس لنا الحق في الحكم علي أحد من هذه الفروض بأنه هو الصادق دون الآخر طالما أن التجربة المرنة قد رحبت وأقرته باعتبارها مرشدا فقط .

التوجه الثاني: ويتمثل في التحفظات التي أبداها دوهيم في مسالة الفروض المساعدة، حيث طرح دوهيم هذا السؤال: ماذا نفعل عندما تتمثل أمامنا صعوبة تحول دون إتمام الاختبار الحاسم ؟ هل يتطلب الأمر دخول فروض جديدة تحل هذه الصعوبة أو تلك ؟ وإذا كان ذلك كذلك فما هي الفروض الجديدة، هل هي فروض مساعدة تخل بمعيار التكذيب وتبطل التجربة الحاسمة؟

يري دوهيم أن الفيزيائي حين يقوم بإجراء تجاربه لا بد له أن يخضع في عملية التجريب لقاعدة الفروض المتعددة Multiple hypotheses، أي أن العالم لا بد أن يضع أكبر عدد من الفروض، تظل كلها مائلة أمام الذهن أثناء التجربة، ونتائج التجربة وحدها هي التي تقرر الفرض في النهاية، علي حين تكذب نتائج التجربة الفروض الأخري، ومن ثم نستبعدها ويتضح لنا هذا المعني من نص " دوهيم " القائل: " إن الفيزيائي لا يمكنه أن يخضع فرضاً واحداً بمفرده للاختيار التجريبي، بل مجموعة كاملة من الفروض "، وهذا يعني أن التجارب الفيزيائية هي ملاحظة للظواهر مصحوبة بتأويل لها في ضوء النسق المعمول به، لذلك فإن الفيزيائي لا يخضع فرضاً منفرداً للتجريب، بل مجموعة فروض معا.

ومن ناحية أخري يري دوهيم أنه عندما تكون التجربة علي عدم وفاق مع تنبؤاتهم أو نتائج النظرية تخبرنا بأنه علي الأقل، واحداً من هذه الفروض المؤلفة لهذه المجموعة خطأ أو تحتاج إلي تعديل، ولكنها – وهذه هي المشكلة لا تخبرهم بالفرض تحديدا الذي هو موضع الخطأ الذي يجب تغييره ... ويستطرد دوهيم قائلاً " كلا، الفيزياء لم تكن ألة تضع نفسها في فوضي وتفكك... الفيزياء يجب أن تكون كائنا عضويا قائماً، في قطعة واحدة يستحيل أي عضوا في هذا الكائن أن يقوم بوظيفة دون الإجراءات الأخري، وبالتالي فإن ثوب أي نظرية فيزيائية يشكل كلاً غير قابل للتجزئة ... كما أنه لو افترضنا أن تأييداً تجريبياً لتنبؤ أو نتيجة من نتائج هذه النظرية أو تلك، فإن هذا الـتأييد لهذا التنبؤ أو ذلك لا يكون البتة برهاناً حاسماً للنظرية ... ولا يكون ذلك بمثابة تأكيد علي أن النتائج الأخري لهذه النظرية غير متناقضة عن طريق التجربة، وعندما يقول دوهيم أن ثوب النظرية كل متكامل، فهذا معناه أنه لم يكن ممكناً أن تخضع أجزاء النظرية علي انفصال لاختبار التجربة، ومن ثم نبعد التحقيق التجريبي المهلهل عن اختبار النظرية، وبالتالي لا يمكن أن يعد الدليل التجريبي في حد ذاته تكذيبا حاسما للفرض، وليس هناك تجربة حاسمة بصورة قاطعة .

خلاصة القول فإنه في هذا التوجه يتمسك دوهيم بضرورة أن تكون جميع فروض النظرية ماثلة أمام الذهن (وهو ما كان بفعله العلماء قبله) حين يقوم العالم بإجراء عملية حذف أو إسقاط بعض الفروض . بيد أن حذف فرض ما يعني الانتقال من هذا الفرض إلي الآخر، إلي أن يتم حذفها جميعاً . وهذا إن أدي إلي شئ، فإنما يؤدي إلي فشل التجارب تماماً، ومن ثم لا ننتهي إلي نتيجة ما في حينها , بل الأمر يتطلب تمثل الفروض جميعاً أمام الذهن مما يتيح لهذا العالم الفرصة في الكشف عن تفسير الظاهرة موضع التساؤل .

التوجه الثالث: ويتمثل في التحفظات التي أبدها دوهيم في مسالة صدق وكذب النظريات العلمية، حيث يتساءل: كيف نبني النظرية العلمية ؟

وهنا يري دوهيم أن النظرية العلمية تتآلف من نسق من القضايا الرياضية المستنبطة من عدد قليل من المبادئ التي تفضي بنا في النهاية إلي مجموعة من القوانين التجريبية ومن ثم فإنه يميز لنا أربع خطوات تتركب بمقتضاها النظرية العلمية: -

- انتخاب الخصائص الفيزيائية التي نجد أنها تمثل مجموعة المبادئ البسيطة، التي تتحكم في اختيار ما يليها من مبادئ . وعن طريق " القياس measurement يمكن أن نرمز لهذه المبادئ برموز رياضية Mathematical Symbols ليست بينها وبين الخصائص الفيزيائية (علاقات داخلية) Internal Relation، بل تستخدم كدلالات .

- إيجاد عملية الربط بين مجموعة في قليل من القضايا، التي نستخدمها كمادئ أساسية في استنباطتنا، وهذه المبادئ لا تمثل بدورها علاقات حقيقية بين الخصائص الأساسية للأجسام، بل أننا نتفق أولياُ علي صحتها، والاتفاق المنطقي يحكمها، وهذه المبادئ هي ما يسميه " دوهيم " بالفروض .

- التأليف بين هذه الفروض، وفق قواعد التحليل الرياضيMathematical Analysis  وهنا يتدخل المنطق والرياضيات، وتصبح عملياتها الأساسية هي التي يسير وفقاً للتحليل الرياضي .

والنتائج التي نستخلصها من الفروض يتم ترجمتها إلي قضايا، تعبر عن الخصائص الفيزيائية للأجسام . وعن طريق مقارنتها بالنتائج التي نحصل عليها من التجربة، يمكن لنا أن نتبين ما إذا كانت صادقة - إذا ما جاءت مطابقة للنظرية – أو كاذبة – إذا لم تتفق معها .

من خلال هذه الخطوات التي يحددها دوهيم، نجد أن الفرصة الحقيقية تقدم لنا بطريقة مقنعة، مجموعة من القوانين التجريبية . والاتفاق مع التجربة يعد بمثابة " المعيار الوحيد " Sole Criterion للصدق بالنسبة للنظرية .

لكن إذا افترضنا أن هدف العلماء يكمن في الاكتشاف في ضوء الوقائع المطردة في الجزء الملاحظ من العالم، فإن هذا يحتاج بالطبع إلي التجريب ... بيد أن هذه الاطرادات كثيراً ما نجدها معقدة، وهذا ما يجعل التصميم التجريبي في غاية الصعوبة والغموض . وهنا تأتي الحاجة إلي بناء نظريات ترشد البحث التجريبي . فالمعرفة مفترضة، فيما يري دوهيم، بحيث تكون الملاحظة العلمية نظرية محملة Theory Loaded – مثل القياسات، وقرارات الخبرة في أو لفهم الشئ علي العكس من الفكرة المطروحة عند التجريبية المنطقية وغيرها التي تؤكد علي أن الملاحظة – بدلاُ من ذلك – تبدو كافية للبرهان علي صدق أو كذب النظرية – أو بعبارة أخري، حل لمشكلة وليس إثارة . لكن المطلوب منها أن تكون السبب لمشكلات لا لحلولها . ومن منطلق أن نظرياتنا العلمية يستحيل أن نبرهن عليها بكونها صادقة أو كاذبة، ذلك لأنها غير مستنبطة من النتائج التجريبية . من هذا المنطق فإنه من غير الممكن أن يكون هناك تجربة تحكم علي الفرض من فروض النظرية أو النتائج منفصلاً ... والسبب أنه من الصعوبة بمكان أن نجد فرضاٌ بذاته يمتلك حيثياته من نتائج تجريبية ... فإذا رمزنا إلي فرض نظري بصدد نظرية بـ "ك" فإنه من غير الممكن أن يكون هذا الفرض أو ذاك قابلاً للتكذيب – مثلاً، وذلك عن طريق فصله عن كل الفروض الأخرى للنظرية بغرض اختياره ... الفروض النظرية ينبغي ألا تكون منفصلة لغرض الاختيار .

هذه أهم التوجهات والدواعي والتي جعلت دوهيم يصر علي أن التجربة الحاسمة مستحيلة في الفيزياء، ولا شك أن هذا الموقف قد كانت له ردود فعل واسعة النطاق، من قبل كثير من فلاسفة العلم، لنذكر منهم، موقف كارل بوبر، حيث رفض فكرة تجنب التفنيدات التجريبية والتملص من التكذيب، وذلك بأن نضيف للنظرية فروضاً مساعدة تتلافي في ضوئها مواطن الكذب أو بأن ننكر التجارب المفندة، وفي هذا يقول :" أما بالنسبة للفروض المساعدة، فإننا نقترح أن نضع القاعدة القائلة: إننا نقبل الفروض المساعدة التي لا يكون إدخالها مفضياً إلي تقليل درجة قابلية التكذيب، أو قابلية اختبار النسق موضع التساؤل، وإنما علي العكس من ذلك نقبل الفروض المساعدة التي تزيد من قابلية التكذيب أو قابلية الاختبار ... وإذا زادت درجة قابلية التكذيب، فقد أثر إدخال الفروض في النظرية فعلاً . لقد كان النسق الآن محكماً أكثر مما كان، ويمكن أن نوضح ذلك كما يلي: إن إدخال فرض مساعد يجب وأن ينظر إليه دائماً علي أنه محاولة لبناء نسق جديد، وهذا النسق يجب الحكم عليه دائماً في ضوء الاتجاه بأنه يؤلف تقدماً حقيقياً في معرفتنا عن العالم ".

وفي موضع آخر يصب جام غضبه علي المذهب الاصطلاحي ورواده بما فيهم دوهيم، فيقول " لقد أدرك كل من بوانكارية ودوهيم استحالة تصور نظريات علم الطبيعة علي أنها قضايا استقرائية . وقد تحقق لهما أن المشاهدات القياسية التي قيل أن التعميمات تبدأ منها، هي علي العكس من ذلك، تأويلات في ضوء نظريات .. ومن ثم فالنظرية العلمية لا تحوي معرفة صادقة أو كاذبة، فهي ليست إلا أدوات لنا أن نقول عنها فقط إنها ملائمة أو غير ملائمة، مقتصدة أو غير مقتصدة، مرنة، دقيقة أو جامدة، لذلك نجد دوهيم يقول انه لا توجد أسباب منطقية تمنعنا من أن نقبل في وقت واحد نظريتين متناقضتين أو أكثر ... وعلي الرغم من أنني أوافقهما علي ذلك، إلا أنني أختلف معهما عندما اعتقدا باستحالة وضع الأنساق النظرية موضع الاختبار التجريبي، فلا بد أن تكون قابلة للاختبار – أي قابلة للتفنيد من حيث المبدأ وليست أدوات.

ومن ناحية أخري يؤكد بوبر في كتابه براهين وتفنيدات أنه:" إذا كان فرنسيس بيكون قد أعتقد أن التجربة الحاسمة يمكن أن تؤسس أو تثبت النظرية، أما نحن فنقول بأنها يمكن أن تفند أو تكذب النظرية ثم يعلق بوبر بأن " دوهيم في نقده المشهور للتجارب الحاسمة نجح في توضيح أن التجارب الحاسمة لا يمكن بحال أن تؤسس النظرية، ومن ثم فقد أخفق في توضيح أنها لا يمكن أن ترفض النظرية" .

ومن جانب آخر، يري "وارتوفسكي أن التجارب الحاسمة في رأي "دوهيم " ليست ممكنة، وهذا ما جعل "دوهيم" يشبه الفيزيائي النظري بالطبيب بدلا من صانع الساعات .

إلا أن فليب كواين يفند دعوي "بوبر" في ثلاثة أدلة متصلة توضح فساد رأيه في نقد "دوهيم". فالحجة الأساسية التي يستند إليها "دوهيم " تقوم علي أن التجربة الحاسمة لم توضع لتحقيق فرض نظري واحد، بل لاختبار مجموعة من الفروض، هذا من جهة . كما أن "دوهيم " كان معنيا في المقام الأول بتوضيح أنه لا يمكن أن نبطل فرضاً نظرياً واحدا عن طريق الملاحظات هذا من الجهة الثانية . وأخيرا فإن "دوهيم " اهتم في الجزء الثاني من كتابه هدف وبنية النظرية الفيزيائية ببيان أنه يمكن عن طريق التجربة إبطال الفروض النظرية، ومن ثم فإن حديث "دوهيم " عن التجارب الحاسمة يعني أنه بالإمكان رفض النظرية والفروض كلها عن طريق التجربة وللحديث بقية!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم