قضايا

الثابت والمؤقت في إشكالية الهوية العراقية

ميثم الجنابيإن احد المؤشرات الجوهرية على الأثر المدمر لزمن التوتاليتارية والراديكالية السياسية هو صعود فكرة المؤقت بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية. إذ برزت بصورة قوية وسريعة مختلف كوامن الخلل الفعلي في بنية الدولة والمجتمع والثقافة. ولعل أشدها وضوحا هو خلل الفكرة الوطنية والهوية العراقية. وليس مصادفة أن تطفو إلى السطح ظاهرة المؤقتين، بوصفها الصيغة الأدبية للطفيلية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية. وهي ظاهرة ملازمة في الأغلب لحالة التفكك الاجتماعي والوطني في مراحل الانتقال الراديكالي. وهي ظاهرة دائمة في تاريخ المجتمعات والدول. لكنها تتخذ في مراحل الانتقال طابعا فجا وفاجعا بسبب انهيار مؤسسات الدولة الرادعة وتشتت المجتمع في صراعات جزئية هائلة مع ما يترتب على ذلك من ضعف للتكامل الاجتماعي والوطني. وهو الأمر الذي يجعل منها قوة عابرة، أي مؤقتة بكافة المعايير. وليس هناك من شيء يحكم وجودها غير الاعتياش الدائم على حالة المؤقت في النظام والحقوق. وبهذا المعنى تشكل "الوريث" الفعلي لبقايا الماضي

فمن المعلوم أن الرشوة والابتزاز كانتا تشكلان الأدوات العملية لآلية فعل وبقاء وعمل الأجهزة المتعددة والسائبة للمرحلة السابقة. فقد  كانت الرشوة والابتزاز أدوات الربط الفعلية لأجهزة السلطة والداعمة لديمومتها. وهو واقع جعل من العراق في المرحلة الدكتاتورية جمهورية الرشوة والابتزاز. وفي هذا الواقع وبقايا استمراره ينبغي البحث عن آلية التحكم والتسلط. وفيه أيضا ينبغي رؤية ارث الموروث في ظهور واستفحال المؤقتين. وذلك لان الإرث الأكبر للتوتاليتارية بهذا الصدد يقوم في إفراغها الفرد من وسطه الاجتماعي، بحيث جعلت منه مجرد أداة فارغة لا هم لها سوى الهموم الصغيرة، وحاصرته بالشكل الذي جعلته مستعدا لاقتراف الرذيلة مهما كان حجمها دون أي شعور بالذنب في الوقت الذي يصلي فيه ويصوم. وهي حالة أكثر تخريبا وتدميرا لأنها تجعل من "الروحي" عاملا إضافيا في تزييف أفعاله. مما أدى في النهاية إلى إفراغ الإنسان من محتواه الاجتماعي والوطني وجعله كيانا سائبا ومؤقتا في الأقوال والأفعال والهواجس والأحاسيس والعقل والضمير والشك واليقين.

بينما تفترض الدولة والمجتمع والثقافة والفرد والجماعات نوعا مناسبا من الثبات. فالدولة تفترض ثبات مؤسساتها، والمجتمع يفترض ثبات قواعد العيش والعمل بموجبها، والثقافة تفترض ثبات مرجعيات الإبداع الحر، ووجود الفرد يفترض ثبات كينونته الاجتماعية، كما يفترض وجود الجماعة ثبات قدرتها واستعدادها على التطوع والاختيار. بينما كان الثابت، أو مطلق التوتاليتارية والدكتاتورية هو المؤقت في كل شيء. مما جعل منها مجرد آلة مخربة لكل شيء وفي كل شيء. من هنا انتقال نفسية وذهنية وآلية المؤقت بكامل عتادها، كما نراه بوضوح في عمل الإدارات الموروثة. فهي نموذج للفساد والإفساد والخراب والتخريب، يستحيل معها بناء العراق الجديد. كما يستحيل بناء دولة  قوية على أسس هشة وإرساء أسس الفضيلة على الرذيلة.

فقد جعلت هذه المقدمة  أغلب الأحزاب السياسية "الكبرى" والناشئة حديثا أسيرة نفسية المؤقت، كما نراها بوضوح في "النشاط المحموم" لجميع القوى السياسية، المكونة في بداية الأمر لمجلس الحكم الانتقالي في ممارسة "تداول السلطة" و"المحاصصة". وإذا كان لهذه الظاهرة ما يبررها من الناحية التاريخية والسياسية، فان تحولها إلى أسلوب "المساومة السياسية" كان الخطوة الأولي وغير المرئية لترسخ وتوسع وتعمق وتأسيس نفسية وذهنية المؤقتين الجدد في عراق ما بعد الدكتاتورية الصدامية. وليس غريبا أن تتفاقم منذ ذلك الوقت ظاهرة النهم "غير الطبيعي" عند النخب والأحزاب السياسية "الكبرى" كما لو أنها قوة غازية خارجية. وهي حالة لا تصنع في الواقع شيئا غير حالة المؤقت في كل شيء، كما نراها بجلاء في النخبة السياسية السائدة حاليا. وفي هذا تكمن طبيعتها المفارقة بشكل عام وفي حالة العراق بشكل خاص.

إن المفارقة الذاتية للمؤقتين، أي لأولئك الذين لا تربطهم بالماضي سوى علاقة الاستلاب المعنوي، وبالحاضر سوى علاقة السرقة المادية، وبالمستقبل سوى علاقة اللامبالاة المطبقة، تقوم في كونهم يجهلون حقيقة التاريخ، مع أنهم أكثر من يتطفل على مسرحه السياسي العلني. وهي مفارقة عادة ما ترميها إلينا مجريات وأحداث المراحل الانتقالية. فهي "الحلقة" المفقودة من تاريخ الأمم، لأنها عادة ما تتخذ صيغة الزمن الضائع، أو الزمن الذي تتداخل فيه الرؤية التاريخية المتفائلة ومصالح الأحزاب السياسية والكتل الاقتصادية الضيقة.

وهو قدر عانت وتعاني منه الشعوب والأمم والدول جميعا حالما تمر بمرحلة الانتقال. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار طبيعة ونوعية وأسلوب الانتقال العاصف الذي يمر به العراق حاليا، فسوف يتضح حجم وسعة القوى المستعدة لان تكون مؤقتة، أي عابرة في مجراه، ككل أولئك الذين يجرون يوميا مثلهم مثل عابرو السبيل في طرقات تعادل كمية وحجم المطامع والمصالح ومتطلبات الحياة أيضا. غير أن للحياة كما هي، والسياسية كما هي، مقدمات ونتائج مختلفة، مع أنهما يلتقيان في نهاية المطاف فيما ندعوه بالمصير التاريخي للأمم.

ويقف العراق الآن أمام هذا المصير، بمعنى وقوفه أمام كيفية عبور مرحلة الانتقال بالشكل الذي يجعل من حياته وحياة أفراده وجماعاته وطوائفه وقومياته جزءا فعالا وعضويا في صنع قواعد الثبات الضرورية في الدولة والمجتمع والثقافة. الأمر الذي يجعل من مرحلة الانتقال هذه مرحلة صراع عنيف. وذلك بسبب كونها المرحلة التي تطرح فيها للمرة الأولى في تاريخ العراق الحديث إشكالية "المؤقت" و"الثابت" تجاه فكرة الدولة والسلطة والمجتمع والقانون والدستور. ذلك يعني أنها المرة الأولى التي تطرح فيها قضية الثابت والثبات في كل ما هو ضروري لجعل الزمن تاريخا. ومن ثم تحرير التاريخ من أن يكون مجرد تيار عابث في المصير. لاسيما وأنها حالة ليست غريبة أو مستغربة.

فالتطور التاريخي للأمم يجبرها بالضرورة على أن تقف أمام إشكالية الثبات والؤقت في مكونات وجودها. كما أن تجارب التاريخ ومصير الأمم والحضارات تبرهن على أن عدم الإجابة على هذا السؤال في الوقت المناسب يؤدي بالضرورة إلى انقراض الدولة وخمول الأمة أو غيابها من مسرح التاريخ العالمي. وهي حقيقة تعطي لنا إمكانية رؤية تاريخنا الذاتي بمعاييرها. لاسيما وأنها ليست المرة الأولى التي يقف أمامها العراق، شأن كل تاريخ عريق في المدنية. فهي الحالة التي شقت لنفسها الطريق في كل تاريخنا القديم والمعاصر كما هو الحال بالنسبة لتاريخ الأمم جميعا. وفيها وحولها تتكتل القوى المؤقتة والدائمة، التي يتحصن كل منها بيقينه الخاص. المؤقت يعتقد بأنه لا شيء غيره وأن ماله وسلطته هو الشيء الوحيد الحق. بمعنى أنه يعيش بمعايير ومقاييس المؤقت أو الرؤية "الجاهلية". وهي رؤية لا تصنع في نهاية المطاف غير منظومة العبث، التي شكل تاريخ العراق الحديث، و بالأخص في مجرى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين نموذجها التام. كما برهن في الوقت نفسه على أنها مجرد هباء. وفيه نعثر أيضا على اعتراف وتقرير ضمني بان الشيء الوحيد الباقي هو الحق، بوصفه المرجعية المتسامية عن الابتذال مهما كان شكله ولونه ومعتقده. وسبب ذلك يقوم في أن "المؤقت" لا يصنع تاريخا. ومن ثم فهو عرضة للزوال المحكوم أما بعقاب النسيان وإما بعقاب القانون. وكلاهما من أصل واحد ونتيجة واحدة تؤدي بالضرورة إلى رميه أما إلى "سلة المهملات" وأما إلى سجون الفضيحة. وهي حالة "برهن" عليها الزمن التوتاليتاري للدكتاتورية الصدامية بصورة نموذجية لم يعرفها تاريخ العراق منذ أن هج جلجامش باحثا عن الخلود في براريه وأهواره. وهو بحث يرمز إلى أن حقيقة الخلود في العراق ينبغي البحث عنها في براريه وأهواره وليس في ردمها وتجفيفها. وهو أمر يفترض كحد أدنى الارتقاء إلى مصاف الاندماج الوجداني بالخالد فيه، أي المجرد عن كل ما يمكن ابتذاله في الأقوال والأعمال.

وتجربة ما بعد الدكتاتورية، تكشف عن أن العراق لم يحل هذه المشكلة بعد. وان المؤقت والقوى العابرة مازالت تتحكم في مساره بوصفه صرفا لزمن عابر. بمعنى إننا لم نضع بعد أسس التاريخ الفعلي للمستقبل. الأمر الذي يشير إلى فقدان البوصلة السليمة عند النخب السياسية، وضعف الوعي الاجتماعي الفعال والبديل عند المجتمع. وهذا بدوره نتاج مرحلة سابقة لانحطاط وتخريب هائل. إلا أن الأحداث الأخيرة العفوية للاحتجاج الاجتماعي ومسارها اخذ للمرة الأولى يدفع أولوية وفاعلية الرد الاجتماعي المنظم أما لتحطيم أسس النظام السياسي البائد (للدكتاتورية) وأسس نظام "المحاصصة الديمقراطي"، أو لإصلاحهما عبر تنظيم للبدائل الاجتماعية السياسية التي تنفي فاعلية واثر النخبة السياسية الحالية، والقوى "الميتة" القديمة التي وجدت متنفسا لها مما يسمى بالعلمانية والليبرالية وما شابه ذلك.

إن البديل الفعلي والضروري بهذا الصدد يكمن في قوة الحراك الاجتماعي المستقل، أي القادر على تذليل النخب المتطفلة والمترهلة بقوة الاحتلال والفساد الناتج عنه.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم