قضايا

التفسير السوسيولوجي لحروب الجيل الرابع (3)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الثالث عن بزوغ حروب الجيل الرابع؛ حيث يكون حديثنا منصبا في هذا المقال حول مفهوم حروب الجيل الرابع، وفي هذا يمكن القول: حروب الجيل الرابع أو الحروب بالوكالة، أو الحروب اللامتكافئة أو اللامتناظرة أو حروب ما بعد الحداثة أو حروب اللاعنف ..هي بعض المفردات التي راج تداولها منذ " ثورات الربيع العربي" في 2011، فهي ليست حروباً بين جيشين لدولتين تتواجهان في حيز جغرافي واضح المعالم، وإنما هي "حروب تتميز بتعدد الجبهات وسيولتها وهلاميتها، كما تتميز بتعدد أطرافها، وبأن أطرافاً أساسية فيها ليست حتي من الدول، وبأن أدواتها ليست عسكرية من الأساس، إذ يتداخل فيها الحيز العسكري مع الأمني، والاستخباري مع الجماهيري، والسياسي مع الإعلامي، ويتداخل فيها الحيز الحقيقي مع الافتراضي، والحيز المحلي مع الإقليمي والدولي، لتتمخض كل هذه التداخلات عن لوحة سريالية من الفوضى والتوحش والدمار المنظم كأنها شكلت بريشة فنان عبقري مجنون سُرقت أصابعُه علي غفلة من الزمن، مفاتيح الوجود والعدم".

نتعامل إذن مع ظاهرة جديدة، فهي حرب تخاض بأدوات واستراتيجيات غير تقليدية، ولو أن حواياها تشتمل علي عناصر مألوفة من حروب سلفت .فالقتل هو القتل، ولطالما تداخلت مع العوامل غير العسكرية منذ الميدان الأول، فهل جديدها ليس إلا مزيجا محدثا من عناصرها القديمة؟ أو أن تطور تكنولوجيا الاتصالات والتكنولوجيا العسكرية هو ما يُلبس "مارس "إله الحرب، درعا جديدا فوق لحمه وعظمه التليد؟ أم أن في النمط الجديد ما يكفي من العناصر الجديدة لكي تُصنف في فئة مختلفة نوعيا عما سبقها من حروب.

إن الفكرة الأساسية التي تحوم حولها حروب الجيل الرابع كما لاحظناه في دول الربيع العربي، هي تحويل نقطة قوة المقاومة وحركات التحرر الوطني إلي نقطة ضعف، أو الاستيلاء علي هذا السلاح وتوجيهه ضد المقاومة، وبما أن "السلاح الاستراتيجي للمقاومة هو الجماهير واستعمالها في تخريب أوطانها"، فعوضاً عن تحمل التكاليف الباهظة للحرب من دماء وضحايا وملايين، أو تريليونات الدولارات وترسانات الأسلحة، تقوم الإمبريالية بتحريك الشارع وتوجيهه في إطار صراع تناحري وعملية تآكل ذاتي، "فيصبح الدم المهرق عربيا 100 %، والأرض المحترقة عربية 100 % والمصاريف المنفقة عربية 100 %. وبدا ذلك فعلاً في مخابرة وكالة المخابرات الأمريكية، وتجند لأجل ذلك عدد من الباحثين والاستراتيجيين، وخلصوا إلي فكرة مفادها إعادة تقسيم الوطن العربي علي أسس عرقية وطائفية وإدخاله في حالة من الفوضى والدموية" .

وبالتالي تستنزف موارد العالم العربي وطاقاته وثرواته أيضاً، وتفني نسبة كبيرة من شبابه بسلاح النسبة الأخرى حتي ينتهي الأمر إلي شرق أوسط جديد ضعيف ومتهالك، دون أية قدرة في الحاضرـ أو أمل في المستقبل، وهكذا لا يتبقى في الشرق الأوسط سوي قوة واحدة انشغلت القوي العربية كلها بصراعاتها عنها- إسرائيل.. وعندما تسود إسرائيل في النهاية، ويكون لديها وحدها مفتاح إعادة تنظيم الفوضى التي أحدثتها ونمتها وغذتها الإدارة الأمريكية- ترتاح أمريكا؛ لأن هذا بالفعل ما يخدم مصالحها، ويضمن استمرارها علي عرش العالم لأطول فترة ممكنة .

كما تعد حروب الجيل الرابع بشهادة البعض أكبر نقلة نوعية في تاريخ التخطيط العسكري منذ "معاهدة وستفاليا" عام 1648؛ حيث أن هذا الجيل من الحروب ينهي نسبيًا احتكار الدولة القومية لشن الحروب، إذ أصبحت التنظيمات والميليشيات والجماعات تشن حروباً ضد دول، فالمقصود من هذه الحروب هو وصول الدولة للحالة التي تفقد فيها احتكارها للعنف والسيادة والقوة المركزية الموجهة، والعودة إلى نماذج صراع كانت سائدة قبل الدولة المعاصرة ؛ حيث تشير الأدبيات السياسية والعسكرية إلى أن مصطلح الجيل الرابع من الحروب ظهر للمرة الأولى في دائرة النقاشات داخل الولايات المتحدة عام 1980، ثم تكرس تدريجياً بعد سنوات عبر مقالة نشرها بعض ضباط الجيش الأمريكي بعنوان: "الوجه المتغير للحرب: إلى الجيل الرابع"، وبدا الأمر في ذلك الوقت وكأنه تفكير خارج السرب أو أقرب إلى التصورات منه إلى الحقائق. حيث كان يشير إلى كسر احتكار الجيوش للحروب والعودة إلى ما قبل الحروب الحديثة من حيث نظريات القتال وأوضاع الصراع .

وترتبط نظرية حروب الجيل الرابع أساساً بالفكر السياسي الذي ساد العالم منذ نهاية الثمانينيات وتفكك الاتحاد السوفيتي، وتوغل العولمة وسيطرتها على مجالات الحياة كافة، ومن ثم شيوع فكرة "النمذجة" أو "القولبة" في مختلف مجالات الحياة العالمية، والمجال الثقافي في القلب من ذلك على وجه التحديد. ثم جاء انتشار الإرهاب والحروب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، ليؤكد طبيعة حروب الجيل الرابع واختلافها عن أجواء الصراع السابقة برغم وجود أوجه تشابه عديدة بين طبيعة الصراع في العراق، وظروف أخرى مثل الحرب الأمريكية في فيتنام، وأفغانستان، والحرب السوفيتية في أفغانستان في مرحلة الثمانينيات وغير ذلك .

كما يؤكد الخبراء أن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) قد اكتشفت عقب الهزيمة في "فيتنام"، وأفغانستان والعراق، بأن نموذج حرب الناتو "Nato -model" المبنى على القطاعات الضخمة المزودة بالآليات، غير فاعل إلى درجة كبيرة أمام قوات العصابات المدعومة من قبل الأهالي، وهذا جعل الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن نموذج آخر مؤسس على عدم توريط الجيوش الأمريكية في اشتباكات عسكرية مباشرة، وبالتالي أهمية الاعتماد على قيمة ومنطقية القوات الخفيفة (Lighter Forces) التي كانت منبوذة في السابق من قبل ألوية الجيوش التي تزحف عبر الأنهار والوديان على سكان القرى، وبالتالي التخلص من "الفشل العسكري" وتقليل المخاطر البشرية والاقتصادية لأي تدخل من قبل الجيوش الكبرى .

من هنا وجدنا الولايات المتحدة الأمريكية قد استغلت أحداث 11 سبتمبر 2001 ؛ حيث بدأت من خلال هذا الحدث عمليات الإرهاب وبداية فكرة تقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة، والأداة التي كانت تتم بها تقسيم الشرق الأوسط كله تنبع من الداخل واستراتيجيات الهدم بدأت من الداخل، وكل هذه الأمور تقع تحت مظلة كبيرة تسمى حروب الجيل الرابع، وهي لا تعتمد على المباغتة أو على الزمن القصير، مثل الحروب المتعارف عليها في الجيلين الثاني والثالث، وإنما هي حروب طويلة الأمد تستغرق وقتاً طويلاً وتعتمد على التآكل البطيء للدولة وبأيدي أبنائها أنفسهم بدون تكلفة أو مجهود وأسلحة ومعدات، حتى أن تصبح الدولة ميتة، فهي عملية وليس مجرد حدث واضح وجلي وصريح، مثل الحروب السابقة، وتعد "حروب الجيل الرابع المثلى هي التي لا يشعر بها أحد على الإطلاق، وإذا فعلت هذا بطريقة جيدة ولمدة كافية وببطء مدروس يستيقظ عدوك ميتاً؛ أي تسرق من الشعب دولته وكيانها علماً أنها غير نمطية، تعتمد على التقدم التكنولوجي لا تستخدم فيها الطرق التقليدية بشكل واضح، فضلًا عن اتسامها بعدم وضوح الخطوط الفاصلة بين الحرب والسياسة، وبين العسكريين والمدنيين لذلك تسعى العناصر المخربة باستخدام الجيش، والشرطة، والقطاع المدني" .

لذلك تقوم حروب الجيل الرابع علي افتراض وجود خطر داهم يتهدد الأمن القومي الأمريكي في كل لحظة، وقد يكون هذا التهديد ليس حاصلاً بالضرورة بالفعل من دولة أو منظمة إرهابية لكي "تخاض ضده الحرب الوقائية، وإنما يكفي أن يتم تصوره من جانب مراكز التخطيط الاستراتيجي في البيت الأبيض والبنتاجون للمبادرة إلي تلك الحرب، ولكي تأخذ هذه الاستراتيجية مسارها التطبيقي، عكف الكثير من منظري ومفكري المحافظين الجدد علي وضع فلسفة متكاملة لتبرير الحروب" .

ولعل نظرية " الفوضى الخلاقة"، التي شكلت أهم وأبرز منجزات هؤلاء، وإنما تعني في حقيقتها السعي الاستباقى نحو تفكيك كل المواقع والجغرافيات، المفترض أنها "تشكل مصادر تهديد لأمن ومصالح أمريكا في العالم . ولئن كانت نظرية الفوضى الخلاقة تتأسس نظريا علي ثنائية التفكيك والتركيب، فذلك يعني أن الفكر الاستراتيجي الأمريكي بصيغته الراهنة لم يعد لديه اليقين إلا بعالم تكون الفوضى فيه سبيلا لإعادة تشكيلة وفق مهمة أمريكا في بناء العالم الجديد" .

وفى أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي وبداية ظهور الثورات الملونة في أوربا الشرقية، شاعت بشكل واسع نظرية الجيل الرابع من الحروب، حين بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها في تحقيق مخططها لبناء الشرق الأوسط الجديد من خلال إثارة الفتن وتقليب الشعوب ضد مؤسسات الدول المستهدفة و إثارة حالة من الفوضى العارمة، بحيث "تدمر الدولة نفسها بنفسها، من خلال إنهاك مؤسساتها وإرباكها والسعي لتحطيم اقتصادها، مستغلين بذلك الانفلات الأمني الحادث، ثم سقوطها لإعادة البناء بما يلائم المصالح الأمريكية والغربية" .

وتستعين أمريكا بأعوان لها من الداخل علي مقدرة عالية لاستقطاب أكبر عدد من التابعين الذين تستقطبهم من خلال "سيطرة العمليات السيكولوجية علي العقول وتأثيراتها، فتكون بمثابة قنابل تغزو العقول لاجتذاب أكبر عدد ممكن من المتبنين لهذا الفكر المدمر وهذا ما يعرف بالأسلحة الذكية، وتعد وسائل الإعلام المأجورة والعميلة أهم آليات التنفيذ" .

والنواة الصلبة في حروب الجيل الرابع تتمثل في أن الفاعل الرئيسي في هذه الحروب ليس الدولة، بل التنظيمات والجماعات والأفراد، وهو ما يمثل الوجه العسكري للنظام العالمي الجديد في مظهره السياسي القائم على الفرد، وما يعرف بالفرد المعولم بدلاً من الدولة القومية، وهي " فكرة فلسفية كان من الصعب فهمها من قبل كثيرين في بدايات ظهورها، ولكنها وجدت طريقها إلى ميادين الحياة الواقعية، وبات العنصر الفردي يحرك الكثير من الأحداث فعلياً في مناطق شتى من العالم عبر توظيف منظمات المجتمع المدني، والضغوط الدولية، والجمعيات الأهلية، ومؤسسات النظام العالمي الجديد، التي ربطت نفسها بقوة بمجالات إنسانية مثل حقوق الإنسان والحريات العامة وغير ذلك من مفاهيم وفرت بدورها مساحات شاسعة للأفراد كي يمثلوا عنصراً فاعلاً جديداً في حياة الدول وتحديد مصير العالم خلال القرن الحادي والعشرين" .

وقد اتفق الخبراء العسكريون بأن حرب الجيل الرابع هي حرب أمريكية صرفة طُورت من قبل الجيش الأمريكي حين أُغرقت مركبين تابعتين لفيتنام الشمالية القطع البحرية الأمريكية المتواجدة في خليج تونكين في أغسطس من عام 1964، ليتخذ "ليندون جونسون Lyndon Baines Johnson " قراره بقصف الشمال بالطائرات الأمريكية ؛ وقد أسفرت النتائج في هذه الحرب بالفشل الذريع الذي منيت به الولايات المتحدة الأمريكية، ومن قبلها فرنسا، في تحقيق الأهداف السياسية المنشودة من الحرب. وفي الجهة المقابلة، "شكّلت هذه الحرب نموذجاً حياً لحرب العصابات، ودرساً ناجحاً لخصمٍ ضعيفٍ يواجه جبروت إمبراطورية عظمى ويخرج منتصراً " ؛ وقد استمرت الحرب على مدى أكثر من عشرة آلاف يوم، نالت فيتنام بعدها حريتها من الاستعمار الفرنسي، وأعادت توحيد طرفيها في دولة واحدة، مُسقِطَةً بذلك المشروع الأمريكي؛ الذي "هدف إلى الإبقاء على فيتنام الجنوبية دولة تابعة وقابلة للحياة في قلب الهند الصينية"، وقد أسفرت الحرب عن "مقتل أكثر من ثمانية وخمسين ألف جندي أمريكي وما بين ثلاثة إلى أربعة ملايين فيتنامي " .

وكان للتجربة الأمريكية في فيتنام أثرٌ عميقٌ على النهج الأمريكي في الحرب، وعلى ثقة النفس الأمريكية في فعاليتها وقدرتها على استخدام قوتها العسكرية لتحقيق أهداف سياسية وفرض نتائج سياسية تناسبها، كما "أصبحت التجربة الأمريكية في فيتنام متلازمة نفسية (Vietnam Syndrome)، ما تزال حتى اليوم تؤرق صانع القرار الأمريكي، وتؤثر في منحى القرارات المتعلقة بدخول حروب جديدة أو الامتناع عنها " .

وهنا برز لأول مرة مصطلح حروب الجيل الرابع في أواخر ثمانينيات القرن الفائت، في إطار تفكير معاهد الأبحاث الأمريكية " المحافظة" في أنسب الطرق لمواجهة الجماعات المقاتلة غير النظامية ( مثل حزب الله وحماس)، وذلك بعد التجارب شبه الفاشلة للعسكرية الأمريكية في كل من فيتنام، وشبه الجزيرة الكورية. وكان أول ظهور للمفهوم في مقالة لكل من "وليم ليند"، و"جون شميث"، و"جوزيف سارتون، و"جاري ويلسون"، في عام 1989 بعنوان" الوجه المتغير للحرب: إلى الجيل الرابع"، The Changing Face of War: Into the Fourth Generation، وقد استشرف هؤلاء في هذه المقالة حدوث تغيير جذري في نمط الحرب وكيفية إدارتها، والتي رأوا أنها ستكون الشكل الغالب في حروب القرن الحادي والعشرين. أطلق هؤلاء علي هذا النمط اسم " الجيل الرابع من الحروب The Fourth Generation Warfare .

وفي نظر هؤلاء فإن حروب ما بعد النهضة الصناعية عرفت ثلاثة تطورات أساسية. ففي الجيل الأول من هذه الحروب اعتمدت الحرب علي كثرة الجنود الذين كانوا يأخذون أشكال صفوف ويتسلحون ببنادق بدائية. أما في الجيل الثاني الذي ظهر في الفترة ما بين الحرب الأهلية الأمريكية ( 1861-1865) والحرب العالمية الأولي، فقد اعتمدت الحرب علي استنزاف اقتصاد العدو والنيل من أكبر عدد من جيوشه باستغلال كثافة إطلاق النيران المتمثل في البنادق ثم البنادق الآلية فيما بعد. فيما تمثل الجيل الثالث من الحروب في تغيير تكتيكي شامل برع فيه الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الثانية، وهو "تكتيك يتمثل في الالتفاف علي العدو باستعماله تشكيلة من الدبابات والطائرات، ومهاجمة مؤخرته عوض الاصطدام مع مقدمته كما كان الحال في حرب الخنادق في الحرب العالمية الأولي" ...... وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم