قضايا

المجتمع التكويني في الواقع الجديد

صالح الرزوقلموضوع الدراسات البينية التي أشار لها الدكتور نصيف جاسم محمد (في جريدة العالم)* عدة جوانب هامة تشبه الطرق بالحديد على سطح ساخن. الجانب الأول في المجال التطبيقي. وتأتي أهميته من ضرورة تعاون عدة علوم لحل مشاكل عصرية وملحة. مثل الهندسة الوراثية. فمع أنها تدخل في نطاق البيولوجيا الكمية لكنها أيضا تحتاج لأجهزة  أهمها أشعة إكس لدراسة الطيف، وجهاز الطرد المركزي لعزل المورثات (البروتين النوعي)، والمجاهر عالية الدقة لغرض الدرسات المورفولوجية. وقد تطورت تلبية لهذه الحاجة أجهزة الأشعة فوق البنفسجية والرنين المعناطيسي والماسح الضوئي وغيرها. بمعنى أنه لا بد من رديف فيزيائي للبيولوجيا لتحقيق أي تقدم. وبالمثل يمكن سحب ذلك على هندسة البناء والعمران. فمن أولويات الحضارة الحديثة تحقيق صفة العزل الحراري باستخدام مواد رديئة الناقلية. ومن الشائع حاليا استخدام الخشب في البناء. وهذا يتطلب تحقيق اهتمام خاص بإنتاج مواد سريعة الاستبدال (بمعنى ذات فصل نمو قصير). وعليه انتقل الاهتمام من الأشجار (وموسم نموها وتطورها يبلغ عدة سنوات) إلى نباتات حولية (منها الكتان). وفي الوقت الراهن توجد مساحات واسعة لإنتاج الكتان متعدد الأغراض (الزيت والخشب الذي يتم تجهيزه بضغط على درجات مرتفعة بحيث يقدم في النهاية وحدات بناء قوية وعازلة وخفيفة). وحسب آخر الدراسات تبلغ كلفة متر مكعب من جدار خشبي  2.60 دولار بينما مثلها من الإسمنت يبلغ 5.63 دولار. أضف لذلك أن الخشب صديق للبيئة. عموما الاهتمام بالكتان في البناء أتى للرد على التوسع بالألياف الصناعية. فالكساد الذي ضرب كتان الألياف يمكن تعويضه بالطلب على كتان البناء. ويمكن النظر للموضوع أيضا من جانب جمالي ودون اي هدف أو وظيفة.

فالنواحي الجمالية في البناء  تستحوذ على اهتمام أوسع لسببين اثنين: 1- المتعة البصرية. 2- تخفيض الشدة النفسية والتوتر.  ولذلك بدأت   كليات  هندسة النسيج  بإقامة علاقة تعاون وشراكة مع كليات الفنون لتحقيق هذه  الغاية المرجوة. فالكساء يدخل في عداد علوم لغة الجسد. والأزياء تعتبر لغة للتواصل. وربما أول من تكلم عن الموضوع عالم اللغويات رولان بارت في كتابه “أساطير يومية”. فقد رأى أن الصابون ومواد الغسيل والعطور والثياب هي جزء من الخطاب الذي يتواصل به البشر مع بعضهم البعض. ويعتبر الأزياء لغة عالمية تحدد المهنة (ثياب العسكري والشرطي والعامل والطلبة) أو تحدد الهوية (الثوب الوطني). وبنى على ذلك أهمية عرقية وحضارية. ناهيك عن طريقة تفكير الإنسان. فلكل عقلية منطق خاص في اختيار الأزياء وفي التعامل معها. وغني عن الذكر أن بارت من المفكرين البنيويين الذين انتقلوا في مرحلة لاحقة إلى ما بعد البنيوية. وكتابه (لذة النص) يعزل أي كتابة إلى محورين.. عمودي يسميه القابل للكتابة، وهو ما فوق النص أو ما يفهمه كل قارئ على حدة. ومحور أفقي يسميه القابل للقراءة، وله علاقة بالمعنى الظاهر للكتابة. وأعتقد أن الدراسات الاستشراقية كلها تدخل في هذا الباب. فهي تعيد كتابة الشرق وفق مفاهيم وإسقاطات لا تدل على الجوهر الحقيقي للروح. وليس من غير المتوقع أن يقود إعادة انتاج الشرق لإعادة انتاج الغرب. ونشأ عن ذلك العقدة المعروفة  في السوسيولوجيا باسم “ صراع الحضارات”. لكن ما لا أفهمه لماذا يأخذ الصراع شكلا بيولوجيا حصرا. وبلغة أوضح: أسلوب التقابل بين المذكر والمؤنث. وإذا كانت (بيلا دونا) لروبرت هتشنز مثلا تختار لتمثيل مصر شخصية رجل شرقي أسمر تستلم له المهاجرة الإنكليزية، وترتمي بين ذراعيه المفتولين، فإن سهيل إدريس اختار لتمثيل فرنسا امرأة فاتنة تنقصها العفة. وأعتقد أن إسقاط رمز القضيب على الشرق مجرد اجتهاد غربي يختصر الحضارة الغريبة بأعضاء الذكورة. وهذا يعيدنا لنفس المشكلة.. أن الحكمة والتطور للغرب، والعنف والغرائز للشرق (ويكفي أن تضيف الكوزين الشرقي: البهارات والتوابل والألوان الحارة - وهو الموضوع الحالي الذي تعمل عليه وين جين أويان أستاذة الحضارة الإسلامية في جامعة لندن).

وفيما أرى لا تختلف هذه الرؤية بتحاملها عن فلسفة الصراع الطبقي الكلاسيكية. فهي تنظر للمجتمع على أنه إما إنسان رأسمالي واستغلالي ومصاص دماء، أو أنه مجرد ضحية مغدور بها.

ومثل هذه الرؤية لا تساعد الإنسان على أن ينتمي لإنسانيته، أو أن يلغي أسباب التناقض والاختلاف. بل إنه  يزيد من مرارة الطابع الدرامي لحياتنا،و يقود لعزل المجتمعات الدولية المعاصرة في غيتوات. ومع أن هذه الظاهرة ليست اختيارية، وهي تلبي عوامل  تاريخية في مقدمتها الاستعمار القديم، وقبله تجارة العبيد.

وزاد من مشكلة هذه الجيوب (مجتمعات صغيرة ضمن المجتمع الرسمي) تقدم الطب وانتشار ظاهرة الجنس الثالث، أو المتحول الجنسي. وقد أعادتنا هذه المشكلة إلى ديكارت وإلى ترتيب الأولويات: من المسؤول عن تحديد الفئة أو الشريحة، التفكير أم العلاقات المادية؟؟!!.

نحن الآن على أعتاب واقع جديد للحياة والمجتمع (بمعنى العلاقة بين الأفراد والجماعات وانعكاسها على أساليب الانتاج). وأدى ذلك فيما أدى له  لنشوء مجتمعات هجينة. وهي بالتعريف أي نظام تراكمي يتركب من مكونات مختلفة، على سبيل المثال الطبيعي والصناعي، ما نسميه “الهجين البيولوجي”، أو أنه يتركب من أفراد يتعاونون مع أو بواسطة الآلات والروبوتات وأدوات الذكاء الصناعي، وهو ما نقول عنه “التكنولوجيا الاجتماعية”** كما ورد في بحث هيكو هامان وفريقه - 2016) . ونجم عن مثل هذا  الواقع   مجتمع تكويني أو لغة تعبير فوق اجتماعية، وهو ما لا يمكن قراءته إلا بمنطق ما وراء الحداثة (ما بعد/ بعد الحداثة كما يسميها النقد الأكاديمي). وهي أساسا فلسفة لا تعترف بأطراف ومركز، وإنما بتعدد المراكز والأطراف وتداخلها في صيغ متدرجة. كما هو الحال في مفهوم الشريحة البينية (انظر جولي ماثيه ودراستها عن الأنوثة والثورة، ويانغشي شو في روايتها “النمر الليلي” وبالأخص مناقشتها لفضائل كونفوشيوس الخمس ودور الغرب المكمل فيما يتعلق بمعنى الطقوس والعبادات أو قانون النظام.

 

صالح الرزوق

..........................

* التصميم والدراسات البينية. العالم. عدد 2285.

** تعريف المجتمع الهجين تجده في دراسة هيكو هامان وفريق عمله (جامعة لوبيك، معهد هندسة الكومبيوتر، ألمانيا الاتحادية،  2016).

 

في المثقف اليوم