قضايا

مقالة العقل في الإسلام (1)

مجدي ابراهيملم تكن دعوى عريضة لا يقوم عليها دليل حين نقول: ليس العقل في القرآن هو العقل الفلسفي كما عناه أرسطو أو كما عناه ابن رشد، ولكنه عندنا عقلٌ مُرّوضٌ بمقياس الشرع، يرمي إلى اعتقاد القول بفصل الاتصال بين الدين والفلسفة لا فصل المقال كما يسميه ابن رشد. ولم يكن "الحارث بن أسد المحاسبي" الصوفي الأول الذي أفرد للعقل رسالة خاصّة، وذلك في كتابه "العقل وفهم القرآن" بالذي يجعل العقل في الإسلام كالعقل كما عناه أرسطو أو كما عناه ابن رشد.

بين العقل في الإسلام، والعقل في الفلسفة النظرية، فروقٌ تجعل الأول مختلفاً عن الثاني في كثير مما يذهب إليه. وفي مجال التفرقة بين العقل الفلسفي الذي يجعل النظر العقلي غايةً أساسية له لا يعرف لها سقفاً، وإنما يمضي مع البحث العقلي إلى درجة لا يقف عندها، ولا يعرفُ للطموح حَدَّاً حين يتعلق الأمر بالمعرفة العقلية التي تستند إلى العقل النظري المجرد، وبين العقل في الإسلام، وهو - كما قلنا - عقلٌ مُرَوَّضٌ يمضي بالمعرفة إلى أقصى ما يستطيع ثم يتوقف إذا هو عجز عن إدراك ما لا يمكن إدراكه من غيبيات، ثم يحيل إلى ما بعده، وهو مؤمن بقدراته المحدودة في هذا الميدان، والتي أصبح بها عقلاً مُرَوَّضَاً على الإحالة بعد البحث والتحقيق، وهو خليقٌ من بعدُ أن يقف عند حدوده، ويكف عن طموحاته في المعرفة وكشف المغيبات، فإذا أحالَ إلى ما فوقه يحيل وهو راضٍ وقنوع فيوفر لصاحبه جهد البحث فيما لا طائل تحته.

أقول؛ بين هذا وذاك فروقٌ فارقة تجعل العقل الفلسفي غير العقل في الإسلام؛ فمن خصائص هذا العقل الأخير أنه مبطنٌ بالشرعية مُرَوَّضٌ على الإحالة. وما كان العقل الشرعي مروضاً على الإحالة إلا لكونه عقلاً عملياً يسلك من يهتدي به سبيلاً مختلفاً عن السبيل الذي يسلكه صاحب العقل المفرط في البحث النظري الخالص، فهو يحث على المعرفة الجامعة بين العلم والعمل، أو بين النظر والتطبيق، أو بين الحياة الفكرية والحياة المُعاشة فعلاً في الواقع العملي.

هو عقل يحث على العبادة التي توصله إلى الله تعالى، ولا تجعله خاضعاً لشروط وخصائص من شأنها إذا ألتزم بمواقفها أن تخرجه عن هذا النطاق الفعال.

جاء القرآن بعقل أراد منه أن يكون هداية إلى سواء السبيل، ولم يأتْ بعقل يخالف سبيله ويزج بمن يسلك طريقه في متاهات الضلال؛ فمعظم الآيات التي وردت في معنى العقل في الكتاب الكريم إنما تؤكد العقل على هذا المعنى ولا تزيد. لم تنجرف به في سراديب ميتافيزيقية قاحلة لا يدرك فيها سوى الأوهام. جاء العقل في الكتاب؛ لفهم آيات الله في الكون وفي الحياة وفي القرآن نفسه .. لماذا؟ ليكون عبرةً لهداية الإنسانية إلى طريق الله، ولم يأتْ ليكون ضلالاً لها عن هذا الطريق.

ومهما كان من تطلعات العقل الطامحة إلى مزيد من الوعي والاستنارة للمعارف والعلوم، فلن يؤجر المرء على الحقيقة حتى يعمل بما يعلم، ويطبق على حياته ما قد عرف في السابق، كما جاء في حديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه:" تَعَلَّمُوا ما شئتم أن تعلموا، ولكنكم لن تؤجروا حتى تعملوا". وقد صدق سيد الخلق صلوات الله عليه؛ لأنه وهو الذي لا ينطق عن هوى، أدرك أن مجال التطبيق بعد المعرفة هو الذي يقدّم الأمة، في حين يؤخرها كل التأخر تعلقها الواهم بالكلمة حين تكون ثرثرة فارغة من مضمون عملي؛ فالعقل في الإسلام مصبوغُ بالصبغة العمليّة، ومصحوب بالواقع التجريبي: يغيّره ويعدّل من وجوده ويجعله صالحاً للحياة الكاملة، وإذا هو ارتفع ارتفعت به هذه النزعة العملية والسلوكية، وإذا انتكس وانحدر انتكست وقائع الحياة التجريبية وانحدرت إلى حضيض التسفل والانحطاط.

ومن ها هنا، تختلف الفلسفة عن الدين، فمنهجُ الفلسفة منهج نظري عقلي برهاني لا يسعى إلى عمل ولا يتركن في الغالب إلى تطبيق، وإنما سعيه الدؤوب يتّجه نحو الرأي والتنظير ولا يتجه نحو العمل والتسليك. منهج الفلسفة في المسائل الغيبية المفارقة أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، وبينما المنهج هكذا في الفلسفة، يجئ المنهج في الدين: تجربة عملية وسلوكية، والعقل فيه إنْ لم يؤدْ إلى العمل والتطبيق، فهو خرافة واهية وترّهات عجائز.

أمضي إنْ شئت بالعقل إلى حيث تستطيع أن تمضي؛ فإن أوصلك بعد هذا المضي إلى معرفة ما، أو إلى علم بعينه، فما أنت بمستطيع أن تقول عنه إنه عقل إسلامي إذا لم تطبق هذه المعرفة على حياتك الواقعية. ولن تقدر على أن تصفه بالصفة الدينية كما جاء في الدين الإسلامي على التخصيص إذا لم يكن هذا العلم الذي كنت قد توصلت إليه بعقلك حين أمضيته فيما تشاء خادمك في مجال العمل؛ لأن العمل هو عنوان الأجر يوم تعقد للخلائق موازين الحساب، بل هو عنوان التقدّم في الحياتين الدنيوية والأخروية.

فالعقل في مجال الدين غير العقل في مجال الفلسفة، فبينما العقل في الإسلام سلوك ونظام نحو معرفة السلوك الذي يليق بمسلم يشهد الوحدانية عقيدةً له، يكون العقل في الفلسفة كلاماً خاوياً من مضمون عملي. صحيح أن الفلسفة تعلمنا كيف نفكر، وأن المنطقية فيها منهج التحقيق والسلامة لتقويم الذهن، وأن كلمة العقل فيها منهج يفرز الفكرة على النحو الذي ييسرها أن تكون واضحة بذاتها، فيوفر لها الاستقلال والتمييز، وأن الأنظمة الفكرية - ومنطقها الاستاتيكي الجامد - التي شهدناها من لدن طاليس اليوناني إلى آخر فليسوف في الفكر المعاصر-  إنْ كان في الفكر المعاصر فلاسفة على الحقيقة - إنْ هى إلا محاولات مخلصة يمليها منطق العقل الصارم نحو وضوح الرؤية.. لكن هل هذه المحاولات أيا كانت درجة إخلاصها يمكن أن تخضع للسلوك والتطبيق؟! وهل منطق العقل الصارم الذي تعملنا الفلسفة إيّاه يجوز تطبيقه على حياتنا المعاشة بحيث يهدي العقل، مع التطبيق، ظمأ القلب إلى الإيمان، ويشفي من ثمّ غلة الوجدان؟!

والإجابة على ذلك غالباً ما تكون بالنفي؛ فليس هذا من اختصاص العقل الفلسفي، ولا هو من فرائضه الفكرية، وإنما هو شيء مختلف الخصوصية، مكانه الأوحد في العقل العملي الذي من شأنه أن يطفئ غُلة الوجدان الديني ويمضي به إلى طريق الهداية والتبصرة والقدرة على الاتصال بالله وكشف حقيقة البذرة الإلهية في الإنسان، اتصالاً يجئ فيه الأمر موكولاً إلى السريرة الإنسانية، وإلى الضمير النشط الفعال ينحو بالفكرة  منحى التطبيق ويخرج منها نماذج حية وصالحة لحياة الأحياء.

ولننظر الآن في بعض الآيات القرآنية التي تُضفي على العقل في الإسلام طابعه العملي، ولا تتجاوز هذا الطابع في كثير مما أشارت إليه الآيات التي ورد ذكرها في أكثر من ثمانية وأربعين موضعاً، ونحن لا نريد أن نأتي بها على كثرتها هنا مع علمنا بضرورة وضعها في هذا الموضع، ولكن المجال لا يتسع إلا لنموذج أو نموذجين لكفاية الدلالة على أن العقل في الإسلام عقل عملي ومختلف عن العقل في الفلسفة العقلية النظرية.

إذا نحن قلنا إنّ العقل في الإسلام عقل عملي، فإنما نريد بهذا أنه عقل شرعي مروض، وإذا قلنا إنه شرعيٌ، فإنما أردنا له أن يكون إلهياً يجعل الله أمامه فيهتدي بهدي الله لا بهدي نفسه، وليعلم أن كلام الله من الله لا من أحدٍ سواه، فلو كان عقلاً إلهياً حقاً لعقله، ولعقل من معناه ما يدفعه دفعاً في طريق الله إلى العمل الإيجابي، كما في قوله تعالى في سورة "العنكبوت": " وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون". وقوله تعالى في سورة "البقرة":" أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض، قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليُحَاجُّوكم به عند ربِّكم، أفلا تعقلون".

لاحظ كلمة العقل في الآيات كيف تساق، وكيف يصيغها الكلام الإلهي كيما يتذوقها القارئ في إطار مقصود هادف يحكم الفكرة في مقاصده. وعليه؛ فمن معاني العقل على الشرعة الإلهية أنه يجئ في القرآن هدايةً وعبرةً، فإذا تجمَّعت الفكرة حول العبرة في المعنى المقصود من النّص القرآني، كانت الهداية أصلاً صريحاً من أصول الاعتقاد مقرونة بالفهم عن الله جرياً على تركيز الفكرة في المعنى، ثم لا يزال قاصراً ما لم ينزل صاحبه منازل العمل والتطبيق.

خُذ مثالاً على ذلك: هناك من الخلق الكثير ممن كان ضالاً فلم يهتدي، فلماذا لا نعقل نحن حال هؤلاء الذين حكموا على أنفسهم بالضلال؟ أنكون من قلة العقل بحيث نمكث في الضلال والإضلال كما مكثوا؟ وإذن، فإمّا الهداية وإمّا العاقبة التي تنتظر الضالين. إمّا العقل الذي يقود إلى الصراط المستقيم، وإمّا السّفَه الذي يؤدي إلى الكفر بعد الغفلة عن طريق العقل الذي هو طريق الهداية إلى طريق الله. فإذا اتصف أحدُ باللاعقل، فلأنه لم يستخدم عقله في الهداية إلى الطريق أو أنه قد استخدمه في غير ما هو أهلٌ له من مدركات العبرة والهداية ثم الإرشاد إلى العمل النافع والسلوك الصالح:" ولقد أضلَّ منكم جِبلاً كثيراً، أفلم تكونوا تعقلون. هذه جهنم التي كنتم توعدون. أصلوها اليوم بما كنتم تكفرون"..

لقد أغوى منكم الشيطان خلقاً كثيراً، فأهلك من قبلكم أناساً بالغواية والإضلال، أفلا كنتم تعقلون؟ أفلا كنتم أهلاً لاستخدام العقل فيما جعله الله هداية وتبصرة لقوم ينظرون فيتعظون؟ أفلا كنتم بعقولكم هذه تفرقون بين الغواية التي يوقعكم بها الشيطان في براثن الكفر والضلالة، وبين ما يمكن أن تكونوا فيه قوماً عاقلين على الحقيقة يهديكم منار العقل إلى صراط الله المستقيم. أفلم تسيروا في الأرض فتكون لكم من القلوب الفاهمة عن الله ما تعقلون بها أو من الآذان السامعة لكلمة الحق ما تسمعون بها؟! فإنها حقاً:" لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور "..

لماذا يغركم بالله الغرور؟! و:" هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثمّ يخْرجُكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدَّكم ثم لتكونوا شيوخاً، ومنكم من يتوفى من قبل، ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون".

لماذا يغركم بالله الغَرور؟ ولقد اتخذتم إلهاكم هوى فأنتم تعبدون أهواءكم ولا تعبدون الله:" أرأيت من اتخذ إلاهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، إنْ هم إلا كالأنعام بل هُم أضلَّ سبيلاً".

قلة العقل أو عدمه اختباط وضلالة. وما دام الحال على هذا النحو من السّفه والضلالة وقلة العقل، فهذه إذن جهنم التي كان رسلكم وشياطينكم يعدونكم بها. فادخلوها اليوم بسبب ما كنتم تكفرون بنعمة العقل، وتؤمنون برسلكم وشياطينكم لما أنكم خضتم وراء كل رسول يدعو إلى الكفر وشيطان يحث على العصيان. وليس كل رسول تتخذونه ولياً لكم يدعو إلى مرضاتي, بل رسلكم هذه ليست مني ولكن هى من عند أنفسكم. ومن شأن رسل الغواية والانحراف عن قانون الفطرة الذي هو كذلك قانون العقل الغريزي أن تشجب عن العاقل عقله، فلا يهتدي إلى ما يقوله الرسل الحقيقيون ...:" يا قوم لا أسألكم عليه أجراً، إنْ أجري إلا على الذي فطرني، أفلا تعقلون".

وإنكم لو عبدتموني حق العبادة؛ لتخليتم عن رسلكم، ولكانت عبادتكم طاعة لي بالعقل وهداية تؤدي بالضرورة إلى صراط مستقيم: "ذلكم وصَّاكم به لعلكم تعقلون".

ولكنكم - ويا للأسف-  اتبعتم شياطينكم التي تحث على الكفر، فلم تحذروا عدوكم الذي أضلَّ منكم أجيالاً كثيرة .."أفلم تكونوا تعقلون؟!".

وفي نهاية هذا الموقف العصيب المهين يُعلن الجزاء الأليم، في تهكم وتأنيب، وهو مشهد من المشاهد العجيبة التي يسوقها القرآن:" هذه جهنم التي كنتم توعدون. أصلوها اليوم بما كنتم تكفرون".

ولا يقف المشهد عند هذا الموقف المؤذي ويطويه، بل يستطرد فإذا مشهد جديد عجيب:" اليوم نختم على أفواههم، وتكلمنا أيديهم، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون". وهكذا يخجل بعضهم بعضاً  وتشهد عليهم جوارحهم، وتتفكك شخصيتهم مزقاً وأحاداً يكذب بعضهم بعضاً. وتعود كل جارحة إلى ربها مفردة، ويئوب كل عضو إلى بارئه مستسلماً. وإذا قيل في وصف هذا المشهد:" إنه مشهدٌ عجيب تذهل من تصوره القلوب"؛ فنحن نقول: إنّ هذا المشهد العجيب والرهيب الذي تذهل من تصوره القلوب هو نفسه المشهد الذي يتخلى فيه العبد عن مزيّة العقل عن الله، ليتحلى برزيّة الغفلة والسّفه والجهالة. وإنه لو تحلى بمزية العقل؛ لصار العقل بهذه المثابة ضرورة عاصمة عن الغفلة والنكاية، عاقلة عن ربها مطالب الصدق والهداية: أوامره ونواهيه ومحاذيره. لا جَرَمَ أنها الضرورة الباقية في نشاط الإنسان الروحاني، ضرورة تدفعه إلى العمل والسلوك بعد الإيمان والاعتقاد إذا هو عرف على الحقيقة معنى الإيمان ومرمى الاعتقاد هدايةً من عند الله إلى صراط المستقيم.

*    *     *

هذا، ولا نعدم وجود بعض الأحاديث النبوية التي تشير إلى العقل الشرعي على صفته العمليّة، فمما رواه أبو نعيم الأصفهاني (ت430 هـ) في "الحلية" بسنده أنه قال:" أنّ أبا بكر الصديق رضى الله عنه خرج ذات يوم فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بم بعثت يا رسول الله؟

قال:" بالعقل"! قال: فكيف لنا بالعقل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنّ العقل لا غاية له، ولكن من أحلّ حلال الله وحرّم حرامه، سمى عاقلاً، فإن اجتهد بعد ذلك سمى عابداً، فإن اجتهد بعد ذلك سمى جواداً. فمن اجتهد في العبادة وسمح في نوائب المعروف بلا حَظ من عقل يدله على إتباع أمر الله عز وجل واجتناب ما نهى الله عنه، فأولئك هم الأخسرون أعمالاً الذين ضَلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً". وروى بسنده أيضاً عن أبي سعيد الخدري أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" قسّم الله عز وجل العقل ثلاثة أجزاء، فمن كن فيه كمل عقله، ومن لم يكن فيه فلا عقل له: حُسن المعرفة بالله عز وجل، وحُسن الطاعة لله عز وجل، وحسن الصبر على ما أمر الله عز وجل".

ومن هذه الأحاديث ما ينسب إلى الرسول أنه يقول: بأن أفضل الناس في الدنيا والآخرة من كان أكملهم عقلاً، وإن لم يكن أكملهم عبادة. كما أنه يوجد في هذه الأحاديث - إنْ كانت صحيحة - هذا الحديث: إنّ الرجل ليكون من أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الحج وأهل الجهاد فما يجزي يوم القيامة إلا بقدر عقله".

ولعلَّ أول من جمع الأحاديث التي ورد فيها ذكر العقل في كتب خاصة، هو "داود بن المحبر"، ذلك أنه قد عُنى في فترة مبكرة من تاريخ الإسلام بالتأليف في "العقل".

ولقد شكك "ابن تيمية" في الأحاديث الواردة عن "داود بن المحبر" فقال إنها ضعيفة، بل وموضوعة، ومنها حديث العقل المشهور وهو:" أوّلُ ما خَلَقَ الله العقل، فقال له أقبل فأقبل، ثمَّ قال له أدبر فأدبر، فقال فوعزَّتي ما خلقت خلقاً أكرم عليَّ منك، فبك أخذ، وبك أعطي، وبك الثواب والعقاب". وما كان مثل هذا التشكيك إلا لأن "داوود بن المحبر" ما زال معروفاً بالحديث، ثم تركه وصحب قوماً من المعتزلة فأفسدوه. ويُقال إنّ كتاب "العقل" الذي ألفه داود هو مجموعة من الأحاديث تشيد بالعقل وفضله في المعرفة. وإنْ كانت هذه الأحاديث بصفة عامة ليس منها شيء صحيح موثوق بصحته، كما يؤكد نقده الرجال والأسانيد.

*    *     *

وإذا كانت الأحاديث بها ضعف، فبعرضها على القرآن من حيث معناها ومرماها تتخذ سنداً لقوتها؛ فالحديث الذي يخالف آية، هو موضوع لا شك فيه، والحديث الذي يتفق معناه ومرماه مع القرآن فماذا يقال فيه غير القبول تدعمه الآية الكريمة التي يسعى في مجراها.

ونحن لا يعنينا من هذا كله إلا ما يعني الباحث من أمر التفرقة الواضحة بين منهجين: منهجٍ عقلي للفلسفة له خصائصه وسماته وموقفه المحدد، ومنهج عقلي للدين له خصائص وسمات وموقف واضح ومحدد كذلك. ولكنه مع ذلك مختلفُ جدّ الاختلاف عن قرينه، وإنْ كان يقاربه في الرؤية والوضوح، ويشاركه في التطلع  إلى المعرفة التي يتوخّاها النظر وينشدها الذهن.

ولسنا نقصد بهذا إلغاء قدرة الفلسفة على وضوح الرؤية في منهجها، فنستبدل بها رؤية الدين .. لا .. وألف لا .. وإنما أردنا عدم الخلط بين منهجين إذا جاء الخلط بينهما صعب تحديد خصائص كل منهج منهما تحديداً يرفع التناقض والخطأ والالتباس.

ولقائل أن يقول: فما بالُ العقل؟ جاء الحثُّ على استخدامه في كثير من آيات القرآن وأحاديث النبي عليه السلام، فهلا كان ذلك مدعاةً لنا على التوفيق بين ما هو دين وما هو فلسفة، باعتبار أن الدليل العقلي جزءُ من الفلسفة لا يتجزأ عنها، وأن الفلسفة برهان العقل؟!

قلنا إنْ العقل كما ورد في القرآن والحديث ليس هو العقل في جهود الفلسفة النظرية، لا لشيء إلا لاختلاف النقطة التي تنطلق منها الفلسفة عن النقطة التي ينطلق منها العقل كما جاء وروده في القرآن والحديث.

نقطة الانطلاق في الحالة الأولى هى التأمل في الواقع الخارجي، والبدء بالحس انتهاء إلى العقل. والعقل هنا هو العقل الطليق الذي لا يعرف حدوداً يقف عندها وهو أعظم المخلوقات بعد الله. نقطة الانطلاق: من الظاهر دخولاً في ما ورائه، ومن التدرُّج الطبيعي والمنطقي من العالم المحسوس إلى العالم المعقول. فالنقطة الأولى إنْ جاز هذا التعبير "تحتية" بكل ما يحتمله معنى كلمة "التحتانية" من مدلول واقعي ومشاهدة ظاهرية، ينطلق منها الفيلسوف أو يفترض لنفسه مسلمات أولية يستمد منها مبدأه الذي يرتضيه لنفسه، ويستخلص منه النتائج التي بمقتضاها تكون الصحة المزعومة لهذا المبدأ أو يكون الخطأ المحتوم، قياساً على قلة مواقفة النتائج للمقدمات التي سنّها وافترضها مبدأً في عالم التجريد. فالنقطة في هذه الحالة إمّا أن تبدأ بمسلمة واقعية "تحتية" فيتدرج منها إلى ما بعدها وصولاً إلى ما يريد الوصول إليه. وإمّا أن تبدأ بفرضية ذهنية في مبدأ مجرد فيهبط منه إلى ما تحته ويدلل على صحة ما يراه خليقاً بإقامة التدليل.

فبينما الأمر هكذا في الحالة الأولى، إذْ تكون نقطة الانطلاق عند الفيلسوف هى "التأمل"، يجئ الأمر مختلفاً في الحالة الثانية، إذ نرى نقطة الانطلاق "فوقية" بكل ما تحمله معنى كلمة "الفوقانية" من دلالة على العلو والارتفاع، أو من دلالة على كل ما يحيط بضمير الإنسان من علو في النفس وارتفاع في التهذيب والإدراك - إنْ صح ها هنا استخدام لفظة "الفوقانية" على هذا المدلول تجاوزاً. وتحت كلمة "فوقانية" أدرج كل ما جاء به "الوحي" غيباً من عند الله، فإنك إنْ فعلت، رأيت نقطة الانطلاق هنا غير نقطة الانطلاق هناك في الفلسفة .. فكيف يجوز التوفيق بين نقطتين انطلاقها مختلف، وهو مما يحتم اختلاف الغاية والتوجُّه وصحة التحقيق؟!!

(وللحديث بقيَّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم