قضايا

اللاتنبؤية العلمية.. أينشتين في مواجهة هيزنبرج (1)

محمود محمد علياستطاعت مدرسة كوبنهاجن، بزعامة "بوهر" و"هيزنبرج" و"ديتوش"، أن تروج لتفسير مفاده استحالة معالجة الظواهر الذرية بواسطة مفهوم الحتمية نظرا لعلاقات الارتياب واستحالة الاستمرار في الاعتقاد في الوجود المادي الواقعي والموضوعي للجسيمات الذرية، وبهذا المعني يغدو من الصعب، في نظرها، الحديث عن (واقع) لأن هذا الأخير في ميدان الذرة يختلف اختلافا أساسيا عن الواقع في الميدان الماكروسكوبي، أي في مستوي الظواهر التي نتعامل معها في حياتنا اليومية الاعتيادية . وانطلاقا من نفس الاعتبارات، نفوا أن تكون نتائج قياساتنا وتجاربنا في المستوي الذري نتائج موضوعية، نتيجة ما يؤدي إليه تدخل آلات القياس من تأثير علي الظاهرة الملاحظة نفسها تأثيرا بارزا، حيث لا يكون للظاهرة الفيزيائية الملاحظة واقع فيزيائي إلا بالنسبة للآلة، أو لوسيلة إدراكه وقياسه .

لقد قوبلت هذه الآراء بالترحاب الكبير من طرف كبار العلماء، بل كان لها تأثير فلسفي قوي عليهم . فلوي دي بروي انساق تحت تأثيرهم، منذ تاريخ انعقاد سولفي الخامس (1927) بباريس حتي سنة 1951 في تفسير احتمالي محض للميكانيكا الكوانطية ونتائجها والتزم حرفيا بآراء آراء بوهر وهيزنبرج وما جعله يتخلي عن آرائه الأولي المناصرة للحتمية الكلاسيكية ، ويعتنق آراء مدرسة كوبنهاجن هي حذاقة حجج بوهر ودقة تحليلات براهينه ، وجاء الحاضرين في المؤتمر انساقوا وراءه هو وهيزنبرج ما عدا أينشتين الذي  أعلن عن عدم رضاه عن الاتجاه الاحتمالي ؛ مؤكدا أنه يوجد عالم واقعي وموضوعي خارجا عن الذات وباستقلال عنها، كما أن معرفتنا به معرفة موضوعية لا تتطلب إدراكه في الإحساس والخبرة فقط، بل بالأساس إنشاءه عقليا وإعادة بناؤه ؛ ففي خطاب وجهه أينشتين إلي ماكس بورن في 30 ديسمبر سنة 1947 يقول:" لقد أدي بنا تطور العلم إلي أن أصبح كل منا علي طرف نقيض من الآخر . أنت تؤمن بإله يلعب بالنرد، أما أنا فأؤمن بوجود قواعد دقيقة وقوانين يخضع لها الكون خضوعا موضوعيا...) . فالاحتمال الذي تتضمنه الفيزياء الكوانطية الإحصائية لا ينبغي أن ينسينا أ، العلم لا يمكنه التخلي عن فكرة خضوع الظواهر للقانون . فالإحصاء ليس يمثل حلا نهائيا لمشكل تحديد حركة الجسيمات الدقيقة . يقول أينشتين :" لا يمكنني أن آخذ بالنظرية الإحصائية بصورة جدية، لأنها تتعارض مع المهمة الأساسية للفيزياء، أي وصف الواقع في المكان والزمان (...) وإني مقتنع تمام الاقتناع بأننا سننتهي بنظرية تكون الروابط  والعلاقات فيها حقائق لا احتمالات ". فالصفة الإحصائية للنظرية الكوانتية الراهنة، ناتجة بالضرورة عن عدم كمال وصفنا للمنظومات الملاحظة، فلا مبرر يدعونا إلي الاعتقاد بأن أساس الفيزياء سيبقي مستقبلا هو الاحتمال .وإن هيزنبرج وديتوش وغيرهما باعتقادهم أن فكرة اللاحتمية في الفيزياء الكوانطية هي لا حتمية صميمة، يغفلون مسألة أساسية وهي أن النظرية الكوانطية القائمة، لا تمثل سوي مرحلة انتقالية من تطور العلم، ولا يمكن التشبث بها كمنطق أكيد ونهائي لتطور الفيزياء اللاحق . فالاحتمال لا يمكن أن يكون أساساً لتطور الفيزياء . وتبقي دائما هناك إمكانية التوصل مستقبلا إلي نظرية نستطيع بواسطتها الإفصاح عن حركة الجسيمات الدقيقة منفردة بواسطة دالة متصلة زمانياً ومكانياً .

وانطلاقاً من هذا المنظور، حارب أينشتين تفسير كوبنها جن لميكانيكا الكم الذي يناصره هايزنبرج  والذي يوقعنا في رفض الواقع الموضوعى لعالم الكم ؛ بمعني أن أينشتين يرفض مثلاً أن يكون للإلكترون موقع محدد تماماً وكمية حركة محددة تماماً فى غياب ملاحظة فعلية لموقعة أو لحركة (ولا يمكن أن يكون لكليهما سويا فى نفس الوقت قيم قاطعة ) . وعلى هذا فلا يمكن أن نعتبر الإلكترون أو الذرة شيئاً صغيراً بالمعنى الذى تكون فيه كرة البلياردو شيئاً . إن كلامنا يكون بلا معنى إذا نحن تحدثنا عما يفعله إلكترون بين ملاحظتين، لأن الملاحظة وحدها هى التى تخلق واقع الإلكترون . وعلى هذا فإن قياس موقع إلكترون ما يخلق  "الكترونا - له - موقع "، وقياس كمية حركته يخلق " إلكترونا – له – ذا - حركة " لكنا لا نستطيع أن نعتبر هذا الكيان أو ذاك موجودا بالفعل قبل أن نجري القياس .

وفي مقابل ذلك نجد أن صورة العالم الكلاسيكي التى يعتنقها أينشتين فى حماس هى صورة تنسجم جيداً مع العقل العام بتأكيدها الواقع الموضوعي للعالم الخارجي . وهى تسلم بأن ملاحظاتنا بالضرورة تقتحم ذلك العالم وتقلقه، لكن هذا الإقلاق ليس سوى اتفاق عرضي يمكن التحكم فيه وتقليله . ثم أن هذه النظرة تعتبر العالم الصغير مختلفاً فى المدى، لا في مرتبة الوجود، عن عالم الشهادة الكبير . فالإلكترون صورة مصغرة من كرة بلياردو عادية، ويشترك مع هذه الأخيرة في مجموعة كاملة من الخصائص الدينامية، مثل صفة الوجود فى مكان ما (نعنى أن لها موقعا) والحركة فى مسار معين (نعنى أن لها كمية حركة) . فملاحظاتنا فى العالم الكلاسيكي لا تخلق الواقع وإنما تكشفه . وعلى هذا تظل الذرات والجسيمات موجودة تحمل صفات محددة تماما حتى لو لم نكن نلحظها .

ومن هذا المنطلق شرع أينشتين يدعو إلي استبعاد المنهج الاحتمالي كأساس للفيزياء النظرية بوجه عام، نتيجة لربطه جوهر الفيزياء النظرية بالوصف الفردي الكامل . ولهذا كان علي الفيزياء أن تبحث لها عن أساس جديد . إن أينشتين يتحرك كما يري بعض الباحثين في إطار عقيدي خالص . فهو يدرك ويسلم بأن قانونية الطبيعة مركبة بحيث يمكن لقوانينها أن تصاغ صياغة كاملة وملائمة في إطار وصفنا غير الكامل أو يسلم بأن الوصف الإحصائي للظواهر إنما هو وصف كامل لها، وهذا يعني أن هذه الظواهر إحصائية في جوهر تركيبها .. إن أينشتين يسلم بهذه الوجهة من النظر، ولكنه يعتقد أن من الضروري البحث عن منهج آخر غير إحصائي، منهج يمكن به وصف الأنظمة الفردية وصفاً كاملاً . فأينشتين يري أن معرفة الحركة الفردية هي أساس للعلم النظري، معرفتها لا في علاقتها بالأفراد الآخرين . وإنما من حيث إنها عالم مستقل كامل . ولما كانت هذه المعرفة غير قائمة في الفيزياء الحديثة، رفض هذه الفيزياء، واعتبرها مرحلة موقوتة بل لعبة من ألعاب زهرة النرد " لا يمكنه أن يقتنع بها " .

وهنا نلاحظ أن أينشتين قد راعته فكرة اللاتنبؤية المتأصلة فى العالم الفيزيقي ليرفضها فى غير تحفظ بمقولته الشهيرة " أن الإله لا يلعب النرد مع الكون " كان يرى أن ميكانيكا الكم قد تكون صحيحة فى حدودها، لكنها بالرغم من ذلك ناقصة ولابد من وجود ثمة مستوى أعمق من متغيرات دينامية مخبوءة تؤثر فى النظام وتضفى عليه لا حتمية ولا تنبوءية، فى الظاهر لا أكثر . لقد أمل أينشتين  أن توجد تحت فوضى الكم صيغة غاية فى الدقة من عالم مـألوف حسن السلوك من الديناميكا الحتمانية . عارض هايزنبرج ونيلزبوهر، وبقوة، محاولة أينشتين للتشبث بهذه النظرة الكلاسيكية للعالم . امتد الجدل الذي بدأ فى أوائل ثلاثينات هذا القرن لسنين طويلة، كان أينشتين أثناءها يهذب من اعتراضاته ويعيد صياغته . كان أكثر هذه  الاعتراضات ثباتا هو ما اقترحه مع بوريس بودولكسى وناثان روزين عام 1935، وهو ما يطلق عليه عادة اسم " أب ر"( والواقع أنه ليس ثمة مفارقة حقيقية ). تتعلق هذه المفارقة بخصائص نظام  من جسيمين يتفاعلان ثم يفترقان وينطلقان بعيدا عن بعضها مسافة  طويلة . تقول ميكانيكا الكم أن النظام يبقى كلا لا يتجزأ بالرغم من انفصال الجسيمين فى الفضاء، والمتوقع أن تبين القياسات المتزامنة التى تجرى على الجسيمين تلازمان تدل على أن كل جسيم يحمل (بمعنى يمكن تحديده تحديدا رياضيا جيدا) أثراً  لنشاطات الأخر .يحدث هذا التعاضد بالرغم من قيود نظرية النسبية الخاصة لاينشتين نفسه والتى ترفض أى اتصال فورى مادى بين الجسيمين . كان أينشتين يري أن نظام الجسمين يوضح القصور في ميكانيكا الكم، ذلك أن المجرب عندما يجري القياسات علي الجسيم الثاني وحده (وهو ما يعني في الواقع استخدام هذا الجسيم بالإبانة كوسيلة للحصول علي بيانات عن الجسيم الأول) فقد يستنبط حسب هواه موقع الجسيم الأول في تلك اللحظة أو كمية حركته . يقول أينشتين إن هذا بالتأكيد يعني ضرورة إضفاء قدر من الواقع في تلك اللحظة علي الجسمين كليهما، لأن الباحث يستطيع أن يدنو من أي منهما (لا كلاهما) مستخدما ً نظام قياس لا يمكن أن يقلق الجسيم موضع الاهتمام (بسبب قيد سرعة الضوء) .

ومن جهة أخري رفض أينشتين اتخاذ مبدأ عدم اليقين في فيزياء الكم مثالا نمطيا لتداخل الذات الملاحظة في الموضوع " الملاحظ "، ودليلاً علي أن فيزياء الكم لا تصف حالة موضوعية في عالم مستقل، وإنما تصف مظهر هذا العالم كما عرفناه خلال وجهة نظر ذاتية معينة أو بواسطة وسائل تجريبية معينة ؛ فخلافا لمدرسة كوبنهاجن، لم يذهب أينشتين إلي التشكيك في الواقع الموضوعي، كما لم يربطه بالذات الملاحظة وبأدوات القياس، لقد كان علي أتم اقتناع بحتمية الظواهر الكونية كبيرها وصغيرها، وبأن الاحتمال لا يعكس خاصية صميمة لمجال الظواهر اللامتناهية في الصغر، بل يعكس جهلنا أمامها وبإمكان تحديد الظاهر تحديدا حتميا في المكان والزمان .

ويذكر عالم الفيزياء " جورج جاموف " أن أينشتين كان  ضمن المجموعة التي انتقدت مبدأ اللايقين، إذ لم تسمح فلسفته ( التي تركزت في تحديد الأشياء ) بالسمو بعدم التثبت إلي مرتبة المبادئ، وكما كان حساده يحاولون إيجاد متناقضات في نظريته الخاصة بالنسبية، حاول أينشتين اكتشاف المتناقضات في مبدأ عدم التثبت الخاص بفيزياء الكم .  ومهما يكن من شئ فقد أدت مجهوداته هذه إلي تقوية مبدأ عدم التثبت . ومن الأمثلة الرائعة التي حدثت مصادفة وكانت تدل علي ذلك، ما حدث في المؤتمر الدولي السادس للفيزياء الذي انعقد في بروكسل عام 1930. فقد أجري أينشتين – في أثناء نقاش كان يحضره بور – " تجربة ذهنية" تبين أن الزمن إحداث رابع للمكان – الزمني، وأن الطاقة مركبة رابعة لكمية التحرك (كتلة في السرعة)، فقال إن معادلة عدم التثبت لهيزنبرج تتطلب أن يتوقف عدم التثبت في الزمن علي عدم التثبت في الطاقة، وأن حاصل ضرب الكميتين يساوي علي ألأقل ثابت بلانك هـ. وراح أينشتين يحاول إثبات خطأ ذلك، وأن الزمن والطاقة يمكن تحديدهما من غير عدم التثبت بتاتا . فقال : خذ مثلا صندوقا مثاليا تبطنه من الداخل مرايا مثالية بحيث يستطيع الإبقاء علي طاقة الإشعاع إلي ما لا نهاية من الوقت . عين وزن الصندوق . وبعد فترة تبدأ ساعة ميكانيكية سبق ضبطها كما تضبط القنبلة الذرية – لعمل علي فتح بوابة مثالية لينطلق منها بعض الضوء. وبعد ذلك عين وزن الصندوق مرة أخري . وبطبيعة الحال يكون التغير في الكتلة دليلا علي طاقة الضوء التي تم إشعاعها وانبعاثها . وقب أينشتين أنه يمكن بهذه الوسيلة قياس الطاقة المنبثقة والزمن الذي يتم فيه ذلك إلي أي درجة نريدها من الدقة، مما لا يتفق مع مبدأ التثبت . وفي صباح اليوم التالي، بعد قضاء ليلة ساهرة أذاع بور كلمة هادمة لبرهان أينشتين العكسي، وتقدم بتجربة فكرية مضادة استخدم فيها جهازاً مثالياً خاصاً به وقد بناه لتفنيد تجربة أينشتين .

وبصرف النظر من نجاح تجربة أينشتين الذهنية من عدم نجاحها، إلا أنها لم تغير من رأيه في مبدأ اللايقين  بأنه ناتج عن " عمليات موضوعية خالصة، وأن أداة القياس أداة فيزيائية مركبة من عناصر فيزيائية تقوم بينها وبين الوقائع الفيزيائية ظواهر موضوعية دقيقة غاية الدقة هي التي يحددها تحديدا دقيقا مبدأ اللايقين أو عدم التحدي".

وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

 

في المثقف اليوم