قضايا

اللاتنبؤية العلمية.. أينشتين في مواجهة هيزنبرج (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن اللاتنبؤية العلمية بين أينشتين هيزنبرج؛ حيث يمكن القول بأنه عندما شرع أينشتين يقدم مجموعة من الأدلة النظرية لنقد مبدأ اللايقين من خلال مناقشته نقده لميكانيكا الكم التي اتهمها بالذاتية والقصور، فقد أكد أن ميكانيكا الكم كأي جانب آخر من الفيزياء لا تتعلق إلا بالعلاقات بين موضوعات فيزيائية . وكافة قضاياها وتعبيراتها إنما تصاغ بدون أي إشارة إلي ملاحظ . والاضطراب الذي يحدثه الملاحظ.. مسألة فيزيائية بأكملها ولا تتضمن أي إشارة إلي تأثيرات صادرة من الكائنات الإنسانية من حيث إنهم ملاحظون. إن أداة القياس تحدث اضطرابا لا لأنها أداة يستعين بها ملاحظون من البشر، ولكن لأنها شئ فيزيائي ككل الأشياء الفيزيائية، فلقد رأينا عن طبيعة قياس موضع الإلكترون وسرعته، أنه لتحديد الموضع يستخدم شعاع ضوئي. ولكن هذا الشعاع نفسه مكون من فوتونات وبمقتضي الطول الموجي للشعاع تصطدم هذه الفوتونات بالإلكترونات وتغير من سرعته. كذلك الحال في حالة قياس السرعة . وعلي هذا فليست المسألة إذن تأثير ملاحظ أو ذات علي العمليات الفيزيائية. وليس استخلاص حكم بعدم يقين علمي، نتيجة لتدخل الذات . وإنما هو شكل من أشكال التحديد الموضوعي للتداخل بين ظواهر فيزيائية خالصة . وعدم اليقين هذا ليس إلا نتيجة للتداخل الضروري بين عوامل فيزيائية متعددة، فمبدأ عدم اليقين ينطبق علي الطبيعة سواء كنا ننظر إليها أم لا ننظر. ولهذا فهو مبدأ علمي فيزيائي خالص موضوعي وليس نتيجة لحدود المعرفة الإنسانية فهو ليس عجز إنسانيا وإنما هو قياس لصفة معينة للإلكترون . ومن ثم فهو قياس لصفة فيزيائية خالصة . هذا إلي جانب أنه لا يكشف عن نقص في الإعداد الفني لمقاييسنا العلمية ولا يحدد من دقة هذه المقاييس، بل هو نتيجة هذه المقاييس ودلالة علي هذه الدقة . لذا فإن الفهم الذاتي لمبدأ عدم اليقين وعدم التحديد فهم غير علمي كما رأينا . فعدم اليقين صفة كمية وتحديد فيزيائي خالص، لا يرتبط بالذات الدارسة ارتباط معلول بعلة . وليس نتيجة لعجز عن الكمال في المعرفة أو لنقص في مقاييسنا العلمية . وإنما هو مظهر للتداخل الموضوعي الخالص بين العمليات الفيزيائية . خلاصة القول فإن أينشتين واحد من العلماء الذين يتهمون فيزياء الكم بالذاتية والقصور ويجعلون منها مرحلة مؤقتة من مراحل المعرفة، لا يردون ذلك إلي مبدأ عدم اليقين وحده، وإنما إلي الأساس المنهجي الذي تقوم عليه الفيزياء، وهو حساب الاحتمالات باعتبار أن الاحتمال وصف غير كامل للظاهرة الفيزيائية.

ولذلك استبعد أينشتين المنهج الاحتمالي كأساس للفيزياء النظرية بوجه عام، نتيجة لربطه جوهر الفيزياء النظرية بالوصف الفردي الكامل، ففي خطاب وجهه إلي ماكس بورن في 30 ديسمبر سنة 1947 يقول :"أنني بالطبع أري أن التفسير الإحصائي يقوم علي جانب كبير من الصدق، ولكنني لا أستطيع أن أؤمن به إيمانا جديا . ذلك لأن النظرية غير متماسكة مع المبدأ القائل بأن الفيزياء ينبغي أن تمثل حقيقة واقعة في المكان والزمان بدون تأثيرات خيالية عبر المسافات ..ز إنني مقتنع اقتناعا مطلقا بأن المرء سوف يصل في نهاية الأمر إلي نظرية تكون فيها الموضوعات المرتبطة بقوانين ليست احتمالات وإنما وقائع متصورة ".

وهكذا استبعد أينشتين المنهج الاحتمالي كأساس للفيزياء النظرية بوجه عام، نتيجة لربطه جوهر الفيزياء . والحقيقة أن استبعاد أينشتين للمنهج الاحتمالي كان خاطئاً إلي حد ما، حيث إن القوانين الاحتمالية في فيزياء الكم والميكانيكا الموجية كما يؤكد بعض الباحثين، هي قوانين محققة تحقيقا تجريبيا، وتكشف كشفا صادقا عن طبيعة الظواهر التي تنطبق عليها . إن دخول المنهج الإحصائي ليس معناه إدخال الشك والعوامل الذاتية في مجال ينبغي أن يكون موضوعيا بشكل حاسم، وإنما يدل علي سقوط التصور الزائف المحدود للموضوعية في مفهومها التقليدي، فتحديد الموضوعية بحدود موضع الجزيء الفرد وسرعته، تحديد جامد . إذ أن الموضوعية ليست صفة التفرد، وإنما صفة الترابط والتداخل، والتعدد والتشابك . ولهذا تميزت الفيزياء الحديثة بوجه عام، بموضوعيتها لاحتفاظ موضوعات بحثها ونتائجها بهذه الصفات . والاحتمال هو التعبير الدقيق الكامل عن هذه الصفات من ترابط وتداخل وتعدد وقابلية للتغير واستقلال . وهي الصفات التي واجهتنا في حركة الغازات واتجاه المحدود entropy وحركة الإلكترون وموضع الجسيم في موجة الاحتمال . هي صفات فيزيائية أصيلة، يعبر عنها حساب الاحتمالات تعبيرا دقيقا . والقياس الاحتمالي بشكل عام ليس تحديدا متعسفا للموضوعات المدروسة وإنما استيعاب لها وامتلاء بحقيقتها وطواعية لإمكانياتها .

وإذا كان التحديد الفردي في نظر أينشتين يعد في نظره جوهر الموضوعية، إلا أنه نسي أن " كل مادة إنما تتحرك في وسط نشيط لا في فراغ ميتافيزيائي .. لأن الطبيعة في الحقيقة لا تعرف الفراغ المطلق، فحركة الإلكترون ليست حركة منفردة في منطقة معزولة عن كل شئ، بل هي وسط عدد هائل من الفوتونات، ومرتبطة بلا انقطاع بعمليات تبادلية من الإشعاع والامتصاص . والخطأ التصوري الذي يقع فيه كثير من العلماء والمفكرين في فهم الدلالة الاحتمالية للفيزياء الحديثة وللقيمة الموضوعية للاحتمال، يبرز في محاولتهم تحديد منهج تناول هذه الظواهر الجديدة في هذه الحدود : تحديد أي نقطة يوجد فيها الجزئ في لحظة معينة ثم حساب القيمة الدقيقة لطاقته وكمية حركته . علي أن الميكانيكا الموجية تجيب علي هذه الحدود بأنه لا توجد نقطة وإنما يوجد امتداد، لا توجد لحظة مطلقة وإنما مدة، لا توجد قيمة ثابتة لكمية الحركة في المكان الذري، وإنما توجد فحسب تنوعات من هذه المقادير . فضلا عن أن هذه التنوعات، مرتبطة بالامتداد والمدة . إن هذه التنوعات لكميات الحركة وللطاقة هي النسيج الموضوعي للواقع . وهذه الحركة الذاتية من الامتصاص والإشعاع وتبادل الطاقة وكميات الحركة هي العملية الفيزيائية الواقعية، وهي لا تجد التعبير الدقيق عنها إلا في الصياغة الاحتمالية، ولهذا اعتبرت فكرة الاحتمال الأساس النهائي للفيزياء كافة .

ومن جهة أخري عارض هيزنبرج وبقوة دعوة أينشتين وغيره من الفيزيائيين، في أن مبدأ اللايقين ناتج عن عمليات موضوعية خالصة . فأداة القياس أداة فيزيائية مركبة من عناصر فيزيائية تقوم بينها وبين الوقائع الفيزيائية ظواهر موضوعية دقيقة غاية الدقة هي التي يحددها تحديدا دقيقا مبدأ اللايقين أو عدم التحديد ؛ فنجد هيزنبرج يعقد فصلاً في كتابه " الفيزياء والفلسفة "، بعنوان " نقد تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم – والاقتراحات المضادة له"، حيث ذكر أن النقد الذي ظهر في العديد من أبحاث أينشتين (وغيره) يركز علي قضية ما إذا كان تفسير كوبنهاجن يسمح بوصف متفرد موضوعي للحقائق الفيزيائية . يمكن أن نعرض حججهم الجوهرية فيما يلي : إن البرنامج الرياضي للنظرية الكم يبدو وصفاً كاملاً كافياً لإحصائيات الظواهر الذرية . لكن حتي لو كانت تقاريره أن احتمالات الوقائع الذرية صحيحة تماما، فإن هذا التفسير لا يصف ما يحدث واقعيا وصفاً مستقلاً عن الملاحظات أو بين الملاحظات . لكن شيئاً ما   لابد أن يحدث، هذا أمر لا يمكن الشك فيه . وهذا الشئ لا يلزم أن يوصف بصيغة الالكترونات أو الموجات أو كمات الضوء . ومهمة الفيزياء لا تتم دون أن نصفه بشكل أو بأخر . لا يمكن أن نقر بأنه يشير إلي فعل الملاحظة وحده . لا بد للفيزيائي أن يسلم أنه في علمه إنما يدرس عالماً لم يصنعه هو، عالماً سيوجد دون تغير يذكر في غير وجوده . وعلي هذا فإن تفسير كوبنهاجن لا يقدم أي تفهم حقيقي للظواهر الذرية يسهل مرة أخري أن نري أن ما يتطلبه هذا النقد هو الانطولوجيا المادية القديمة . ولكن، ما ستكون الإجابة من وجهة نظر تفسير كوبنهاجن ؟

ويستطرد " هيزنبرج "، :" يمكن القول إن الفيزياء جزء من العلم، ومن ثم فإنها تهدف إلي وصف وتفهم الطبيعة . وأي صورة للتفهم – علمية كانت أو غير علمية إنها تعتمد علي لغتنا، علي تبادل الأفكار . إن كل وصف للظواهر، للتجارب ونتائجها يرتكز علي اللغة كسبيل أو حد للاتصال . وكلمات هذه اللغة تمثل مفاهيم الحياة اليومية، وهي مفاهيم هذبت في اللغة العلمية للفيزياء إلي صورة مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية . هذه المفاهيم هي الأدوات الوحيد لاتصال لا يشوبه غموض حول الوقائع , حول إقامة التجارب وحول نتائجها . وعلي هذا فإذا ما سئل الفيزيائي أن يقدم وصفا لما يحدث واقعيا في تجاربه , فإن كلمات "وصفا" و"يحدث" و"واقعيا" لا تشير إلا إلي مفاهيم الحياة اليومية أو الفيزياء الكلاسيكية . فإذا ما تخلي الفيزيائي عن هذا الأساس، فقد وسيلة الاتصال غير الغامض فلا يستطع المضي في عمله . وعلي هذا فإن أي تقرير عما قد "حدث واقعيا" هو تقرير صيغ في لغة المفاهيم الكلاسيكية وهو بطبيعته ناقص بالنسبة لتفاصيل الوقائع الذرية – بسبب الثروموديناميكية والعلاقات اللامحققية . إن سؤالنا " إن نصف ما يحدث " ( في عملية الكم النظرية) بين ملاحظتين متعاقبتين هو –بصفته – تناقض، لأن كلمة الوصف إنما تعني استخدام المفاهيم الكلاسيكية، بينما لا يمكن تطبيق هذه المفاهيم علي الفضاء بين الملاحظات، هي لا تطبق إلا عند مواقع الملاحظة.

وفي فقرة أخري يؤكد هيزنبرج قائلاً :" تظهر في نظرية الكم أعقد مشاكل استخدام اللغة . لم يكن لدينا في البدء أي دليل بسيط نربط به الرموز الرياضية بمفاهيم اللغة الاعتيادية . كان كل ما نعرفه في البداية هو حقيقة أن مفاهيمنا الشائعة لا يمكن أن تطبق علي بنية الذرة . مرة أخري بدت نقطة البداية الواضحة للتفسير الفيزيقي للصورية هي اقتراب البرنامج الرياضي لميكانيكا الكم من برنامج الميكانيكا الكلاسيكية . وذلك في الأبعاد الأكبر كثيرا من حجم الذرات، وحتي هذا لا نستطيع أن نقوله دون بعض التحفظات . فسنجد حتي تحت الأبعاد الكبيرة العديد من الحلول للمعادلات الكماتية النظرية، والتي لا نظير لها في الفيزياء الكلاسيكية، تظهر في هذه الحلول ظاهرة " تداخل الاحتمالات" . وهذه ظاهرة لا توجد في الفيزياء الكلاسيكية . وعلي هذا، فلن يكون تافها علي الإطلاق – حتي داخل حدود الأبعاد الضخمة – ذلك الارتباط بين الرموز الرياضية والقياسات والمفاهيم المألوفة، ولكي نصل إلي مثل هذا الارتباط غير الملتبس علينا أن ندخل في اعتبارنا ملمحا آخر من ملامح المشكلة علينا أن نلاحظ أن النمط الذي نعالجه مناهج ميكانيكا الكم هو في الحقيقة جزء من نظام أكبر (حدوده العالم بأسره)، أنها تتفاعل مع هذا النظام الأكبر، ولا بد أن نضيف أن الخصائص الميكروسكوبية للنظام الأكبر مجهولة – إلى حد كبير على الأقل . لاشك أن هذا وصف صحيح للوضع الواقعى . ولاستحالة أن يكون هذا النظام موضوع قياس وتفحصات نظرية، فإنه لن ينتمى إلى عالم الظواهر مالم يكن يتفاعل مع مثل هذا النظام الأرحب، الذى يمثل المراحب جزءا منه. والتفاعل مع النظام الأكبر هذا بخصائصه الميكروسكوبية غير المحددة يقدم إذن إلى وصف النظام (الكماتى- النظر لا والكلاسيكى ) عاملا إحصائيا جديدا . وفى الحالة الحدية للابتعاد الكبيرة يحطم هذا العامل الاحصائى آثار و" تدخل الاحتمالات " حتى ليقترب البرنامج " الكماتى – الميكانيكى " الآن من البرنامج الكلاسيكى فى الوضع الحدى . وعلى هذا يصبح الارتباط عند هذه النقطة بين رموز نظرية الكم ومفاهيم اللغة الاعتيادية غير مبهم، ويصبح هذا الارتباط كافيا لتفسير التجارب .

والملاحظ أن هذا الذي سار فيه هيزنبرج هو نفس الأتجاه الذي طوره بريدجمان في كتاب " منطق الفيزياء الحديث " (1927) وهو أيضاً الذي سار فيه أصحاب مدرسة كوبنهاجن (بور – ديتوش) عندما ركزوا علي أن معني قضية ما مرتبط بطرق تحقيقها وملاحظتها .وأن الظواهر لا تملك أي واقع فيزيائي موضعي قائم بذاته وباستقلال عن طرق تحقيقها وملاحظتها والقياس عليها، أي أنها لا توجد إلا بالنسبة لذات تختبرها وتجرب عليها " ويترتب عن وجهة النظر هذه أن القضايا العلمية تشير إلي طرائقنا التجريبية وليست الأشياء ذاتها التي هي موضوع التجربة " . وهذا هو السبب الذي من أجله قلنا أن مدرسة كوبنهاجن تمثل لونا وضعيا جديدا يحاول انطلاقا من الإشكالية الجديدة التي طرحتها الفيزياء الكوانطية أن يعيد تمييزا تصوره ماخ بين المعرفة الحسية، أي معرفة الطبيعة مثلما تمدنا بها حواسنا . وبهذا المعني لن يكون للظواهر وجود موضوعي مستقل عن من يدركها ولن تكون سوي مركبات ذهنية من الإحساسات . معرفة الشئ في ذاته التي هي مستحيلة لا سيما وأن الوجود إدراك إذ أن ما نلاحظه ليس الطبيعة في ذاتها، بل الطبيعة في ارتباطها بطرائقنا ومناهجنا، أي في ارتباط بما يسمونه ( الذات).

ومن هنا نجد هيزنبرج يعترف أن :" تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم ليس علي الإطلاق وضعيا . فبينما تركز الوضعية علي أن عناصر الواقع هي الإدراكات الحسية للمراقب، فإن تفسير كوبنهاجن يعتبر الأشياء والعمليات التي يمكن وصفها بلغة المفاهيم الكلاسيكية , نعني الواقعية، أساسا لأي تفسير فيزيائي .

ولم يكتف هيزنبرج بذلك، بل نراه يصب جام غضبه علي الوضعية المنطقية قائلا :" أما المشكلة الأساسية فقد أقرت بها الوضعية الحديثة فى وضوح . يعبر هذا الخط من التفكير عن انتقاد للاستخدام الساذج لمصطلحات معينة مثل" الشئ " و "الإدراك الحسى" و"الوجود " وذلك بالمسلمة العامة بأن مسألة ما إذا كان لجملة ما أى معنى على الإطلاق، هى أمر لابد أن يخضع لفحص دقيق نقذى . والموقف من خلفها – مشتقان من المنطق الرياضي . ويصور منهج العلوم الطبيعية كوصلة من الرموز ملحقة بالظواهر . من الممكن أن تجمع الرموز – كما فى الرياضيات – حسب قوانين معينة، وبهذه الطريقة يمكن أن تمثل التقارير عن الظواهر بمجاميع من الرموز . فإذا ما كان ثمة مجموعة من الرموز لا تطيع القوانين، فهى ليست خاطئة، إنما هى فقط لا تنقل أى معنى . والمشكلة الواضحة فى هذه الحجة هى افتقارنا إلي أى معيار نحكم به عما إذا كانت الجملة بلا معنى . فنحن لن نصل إلى حكم حاسم إلا إذا كانت الجملة تنتمى إلى نظام مغلق من المفاهيم والبديهيات، وهذا أمر يعتبر فى تطوير العلوم الطبيعية الاستثناء لا القاعدة . يقول التاريخ إن التخمين بأن جملة معينة لا معنى لها قد قاد فى بعض الحالات إلى تقدم كبير، إذ فتح الباب لتوطيد علاقات جديدة كانت مستحيلة لو كان للجملة معنى . ولقد ناقشنا فى نظرية الكم مثالا هو الجملة : " فى أي مدار يتحرك الإلكترون حول النواة ؟" . لكن المخطط الوضعي المستمد من المنطق الرياضي هو على العموم نطاق ضيق للغاية في وصف الطبيعة يستخدم بالضرورة كلمات ومفاهيم يصعب تعريفها إلا في صورة مبهمة. ولقد قادت القضية القائلة إن كل المعرفة تتركز في نهاية المطاف في الخبرة قادت إلي مسلمة تتعلق بالتفسير المنطقي لأي تقرير عن الطبيعة . ربما كان هناك ما يبرر مثل هذه المسلمة في مرحلة الفيزياء الكلاسيكية، لكن قد عرفنا منذ ظهرت نظرية الكم أنها لا يمكن أن تحقق إن موقع وسرعة الإلكترون كلمتان يبدو أنهما محددتان من ناحية المعني والارتباطات المحتملة، والحق أنهما كانتا مفهومين واضحي التحديد داخل الإطار الرياضي لميكانيكا نيوتن، لكن الواقع أنهما ليستا كذلك، تخبرنا بذلك العلاقات اللامحققية . فلقد نقول إن الموقع في ميكانيكا نيوتن كان محددا تماما، لكن العلاقة بالطبيعة لم تكن كذلك . وهذا يبين أننا أبدا لن نستطيع أن نعرف مقدما أية قيود قد تكتنف قابلية تطبيق مفاهيم معينة عندما نمد موقفنا إلي مناطق من الطبيعة بعيدة لا يمكننا اختراقها إلا باستخدام أعقد الأدوات . علينا إذن في عملية الاختراق أن نستخدم مفاهيمنا أحيانا بطريقة لا تبرر ولا تحمل أي معني . والإصرار علي مسلمة التفسير المنطقي الكامل سيجعل العلم مستحيلا، وسيذكرنا علم الفيزياء الحديث هنا بالحكمة القديمة القائلة علي كل من يريد ألا يتفوه بخطأ أن يصمت.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

 

 

في المثقف اليوم