قضايا

العراق.. نقد الواقع وتأسيس البدائل (4): الراديكالية الدينية السياسية

ميثم الجنابيلقد توصلت في المقالات السابقة إلى أن الراديكالية بشكل عام والسياسية بشكل خاص هي الجزء الحيوي والمهم من تاريخ الدولة والأمة والفكر. أما قيمتها الفعلية فتتوقف على كمية ونوعية تنشيطها لمختلف جوانب الحياة. ويتوقف مسار هذا التنشيط ونتائجه على مستوى تطور العقلانية السياسية وبنيتها التاريخية في مؤسسات الدولة والمجتمع والثقافة. بمعنى انه كلما كانت العقلانية السياسية واسعة الجذور وراسخة في بنية الدولة والمجتمع والفكر كلما كانت الراديكالية أكثر فاعلية وقيمة بالنسبة لشحذ الرؤية النقدية والوجدان الأخلاقي. وعلى العكس من ذلك، كلما كانت العقلانية السياسية ضعيفة الجذور في بنية الدولة والمجتمع والفكر كلما كانت الراديكالية اعنف تأثيرا وأكثر تخريبا بسبب تغليبها للرؤية الوجدانية وتدميرها للتراكم التاريخي في المؤسسات والفكر والتقاليد. وميزت هذه الحالة تاريخ العراق الحديث، التي جعلت من الراديكالية السياسية القوة الوحيدة الفاعلة في العقل والضمير والوعي الاجتماعي. مما أدى تدريجيا إلى تخريب التراكم التاريخي للعقلانية السياسية والفكرة الشرعية في بنية الدولة والمجتمع والثقافة. بحيث أدى إلى حالة أصبح من الممكن القول فيها، بأن الراديكالية السياسية بمختلف أطيافها كانت وما تزال تشكل التيار الساري في تاريخ العراق الحديث، والعنصر المكون لأغلب الرؤى السياسية «اليسارية» و«اليمينية»، «الدينية» و«الدنيوية» (العلمانية). مما جعل منها عاملا فاعلا ومؤثرا في نفسية وذهنية اغلب حركاته السياسية ومواقفها من النفس والآخرين.

لقد أدت ظاهرة انتشار وسيادة الراديكالية السياسية في العراق الحديث إلى جعلها إحدى اخطر الظواهر السياسية والثقافية بالنسبة لوجوده وآفاق تطور البدائل فيه. ولعل أهم نماذجها الحالية العنيفة هي الحركات الراديكالية الإسلامية المتطرفة (السلفية المتشددة). إذ لم تكن هذه الحركات سوى الاستظهار المقلوب لزمن الراديكالية القومية الدنيوية الفارغ، أي لزمن السيادة شبه المطلقة للراديكالية الدنيوية (العلمانية) البعثية. بمعنى إن الراديكالية التي استطاعت إفراغ التاريخ المعاصر للعراق من خلال تهشيم المشاريع الواقعية لبناء الدولة والمجتمع المدني والثقافة العقلانية أدت إلى إنتاج «بديلها» في الراديكالية الإسلامية. إذ تكشف التجارب التاريخية للعراق عن حقيقة تقول، بأنه كلما كانت الراديكالية المتسلطة همجية كلما أصبحت الراديكالية المناوئة لها اشد همجية منها.

ويقف العراق الآن أمام حالة نتوء لنماذج من الراديكالية لا تقل همجية من تلك التي أنتجتها. ويصعب توقع صيغة أخرى لهذه الحالة «الطبيعية» في ظروفه الحالية. بل يمكن القول، بأنها ظاهرة سوف تستفحل تدريجيا إلى أن تبلغ ذروة انحطاطها بعد خروجها العارم من سجن التوتاليتارية البعثية «العلمانية» والدكتاتورية الصدامية الطائفية. بعبارة أخرى، إن خروجها العارم هذا سوف يضفي على كل السلفيات الممكنة طابعا متطرفا ويجعلها اشد همجية في علمها وعملها. إلا أن مفارقة هذه الظاهرة المدمرة تقوم أيضا في أن استفحال الراديكالية المعاصرة في العراق سوف ينفي بصورة سريعة زمن الدكتاتورية والتوتاليتارية، ومن ثم الراديكالية الهمجية نفسها. وذلك لأنها تعمل بوعي وبدون وعي على استعادة تقاليد العنف الذي تدعي مواجهته والقضاء عليه. وهي حالة لها مقدماتها في توسع المدى المادي والمعنوي لنفسية وذهنية الحثالة الاجتماعية والفئات الرثة التي لازمت استحكام التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وهي حالة تكشف عنها نادرة واقعية في العراق تحكي عن أحد «ممثلي» الحثالة الاجتماعية عندا قال لشخص «مثقف» قبل أن يقتله «كيف تعتدي علي وأنا حوذي ابن حوذي ابن حوذي!» أي عندما تتحول الحثالة إلى قيمة «أرستقراطية» تستعلي على الجميع من حيث قدرتها على مواجهة الثقافة باعتبارها قيمة تافهة وضعيفة!

وإذا أخذنا بنظر الاعتبار إن العراق في ظرفه الحالي هو بلد الحثالة الاجتماعية، فيمكننا توقع أثر ذلك في نفسية وذهنية الراديكالية الممكنة فيه. وهي راديكالية لا يمكنها ألا تكون همجية تامة بسبب طبيعة ومستوى الخراب والتهميش العنيف لمختلف قواه ومكوناته الاجتماعية. بحيث يمكننا القول، بأن النتيجة التي ترتبت على زمن الاستفراد الدكتاتوري في العراق هو التهميش الكامل للمجتمع وتهشيم كينونته التاريخية. إذ لم يكن الخراب والتخريب الاجتماعي وطبيعة ومستوى التهميش والهامشية، نتاجا لأزمة اجتماعية اقتصادية قاهرة، بقدر ما كان نتاجا مباشرا وغير مباشرا لقهر الدكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية، أي لقهر مركب وشامل وبنيوي. الأمر الذي يفرض على الراديكاليات الممكنة نمطا من التفكير الأيديولوجي والنفسية الاجتماعية أقرب ما يكون إلى خليط من أيديولوجية الحثالة الاجتماعية والرثة السياسية. مما يضعها بالضرورة على خلاف حاد ومواجهة شاملة مع مشاريع البدائل العقلانية في العراق.

وسوف يضع هذا الخلاف والمواجهة بالضرورة هذه الراديكاليات الفاعلة والممكنة ضد المسار العام لمشروع بناء الدولة الشرعية والمجتمع المدني والثقافة العقلانية. غير أن هذه العملية المؤذية تحتوي على قدر من الفائدة السياسية لترسيخ قيم الواقعية والعقلانية. وذلك لأن استفحال المواجهة الهمجية من جانب الراديكاليات لمشاريع البدائل العقلانية في العراق سوف يؤدي بالضرورة إلى انحسارها السريع. وهو انحسار محكوم بخلخلة القاعدة الاجتماعية التي ترسبت في أعمق أعماقها كراهية شديدة للفكرة التوتاليتارية والدكتاتورية وممارساتها، أي للراديكالية الهمجية بحد ذاتها. وذلك لأن الراديكالية المعاصرة في العراق، وبالأخص في نماذجها الدينية والطائفية لا تعمل في الواقع إلا على استعادة العنف المنظم للسلطة بطريقة «اجتماعية». بمعنى محاولتها توسيع مدى العنف من خلال إشراك الفئات الاجتماعية المهمشة. وهي عملية متناقضة سوف تسهم بتسريع اغترابها الشامل عن المجتمع نفسه. وذلك لأنها لا تمتلك إمكانية التأثير المادي والمعنوي الذي تمتلكه الراديكالية المتسلطة. وفي مجرى هذه العملية المتناقضة تساهم الراديكالية الدينية والدنيوية والقومية (العرقية) في تأسيس الرؤية العقلانية والاعتدال عند مختلف الشرائح الاجتماعية. ويمكن تلمس هذه الظاهرة في نمط تفكير الناس العاديين «البسطاء» الذين تخلوا عباراتهم وتصوراتهم وأحكامهم وتقييمهم للأحداث والأشخاص من الدموية وشعور الانتقام والعنف والقسوة. بمعنى إننا نعثر فيها على أجنة الإدراك العادي لقيمة الاعتدال والديمومة العادية في وجود الأشياء.

إن تعمق وتوسع وترسخ الإدراك الضروري لقيم الاعتدال والعقلانية هو الاتجاه الواقعي والفعلي المضاد لمضمون الراديكالية نفسها التي تجعل من قطع العلاقة بالتاريخ والتقاليد عقيدة مقدسة. بينما يفترض المقدس تحقيق هوية الثبات. في حين تمارس الراديكالية «فروضها المقدسة» بحمية بالغة عبر مطابقتها مع التجريب الخشن المبني على احتقار الشكوك والاعتراض. كما أنها تطابق بين فكرة الثابت المقدس مع يقينها الخاص عن أن الفعل التجريبي هو المطلق الوحيد.

من هنا ارتفاع زئيفها وزعيقها ونعيقها وتناثر زبدها المتطاير من أفواه «الرعية» بكلمات لا تفقه حقيقة معناها. فالراديكالية بشكل عام لا تفقه المعنى في الكلمة والعبارة والحدث. والشيء الوحيد الذي تراه وتمارسه بحمية بالغة وحماسة منقطعة النظير هو جهلها المرفوع إلى مصاف «المقدس». من هنا اكتظاظ كلامها وشعرها وشعارها بكلمة «المقدس». حيث تصبح أتفه الأمور وأشدها ابتذالا «مقدسة»، ويصبح «الدفاع عن مقدساتنا» الأسلوب الهمجي لتبرير أفعالها في كل ما تجهله من مقدمات وتعتقده من غايات! ويعبّر هذا التناقض عن طبيعة الراديكالية نفسها التي لا تتقن غير فصل الكلمات عن العبارة، والمضمون عن المعنى، والواقع عن الحقيقة، والماضي عن الحاضر، والتاريخ عن الزمن، والمستقبل عن أفعالها! وهو واقع يجعلها أكثر القوى طغيانا في تغييب المجتمع والدولة والثقافة عن فكرة «المقدس». أما المقدس الوحيد فيصبح لهوها بالعبارة وإهمالها المريع للذاكرة التاريخية. وفي هذا بالذات تكمن خطورتها الفعلية بالنسبة لمصير الأمم والدولة والثقافة.

وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن النفسية والذهنية الراديكالية هي التمّثل النموذجي لمساعي «الحسم الشامل والجذري» في تغيير الواقع والمؤسسات والأفكار والقيم، حينذاك تتضح طبيعة أسلوبها في العلم والعمل. ويؤدي هذا الأسلوب في النهاية إلى تدمير تجارب الماضي وخزين الذاكرة التاريخية ومرتكزات التقاليد الكبرى والقيم والمؤسسات. بمعنى أنها لا تعمل في الواقع إلا على كسر ونثر حلقات السلسلة الفعلية للذاكرة التاريخية. مع ما يترتب على ذلك من تخريب التجارب الخاصة للأمم وتسخيف فكرة القانون والنظام. حينذاك تصبح قسوتها في «النظام» امتهانا لفكرة الحق والحقوق والشرعية، مع ما يترتب عليه من تحطيم لفكرة الدولة والقانون والأخلاق والمجتمع المدني. أما الحصيلة النهاية فهي تحول الراديكالية إلى قوة مدمرة لا تنتج غير الخراب والتوغل الدائم فيه. وفي هذا التناقض الدائم والمميز للراديكالية تكمن عوامل رؤيتها المأزومة، التي تحوّل العقل إلى هوى، والحدس إلى هراوة.

أما في الممارسة العملية فإن المصير المحتوم للرؤية المأزومة للراديكالية يقوم في جعل منطق السلاح سلاح المنطق الوحيد! مع ما يترتب عليه من استظهار واستبطان لنفسية القوة وتقاليد التجييش والتسليح الشامل. ويمكن ملاحظة ذلك على مثال ظاهرة الاهتمام المفرط بصنع «جيش المهدي» الشيعي وجيوش السنّة المتناثرة التي يحمل بعضها ألقاب الإسلام والبعض الآخر أسم الجهاد وثالثها اسم التوحيد ورابعها أسماء الصحابة وألقاب التابعين.

إن نفسية التجييش والولع بصنع «الجيوش» هو الوجه الآخر للنزعة الراديكالية المتخلفة، التي تعتقد بأن القوة والعنف هي الأداة الوحيدة لتحقيق المقدس! أما في الواقع فإن التجييش و«الجيوش» ما هي إلا الصيغة الأكثر ابتذالا ومراهقة للفعل السياسي الذي يستجيب إلى نفسية وذهنية الحثالة الاجتماعية، أي للقوى إلي كانت وما تزال الثمرة المرة لمغامرة التهميش المريع الذي سلكته الدكتاتورية الصدامية تجاه النفس الاجتماعية والتقاليد السياسية. وهي مغامرة شكلت البطانة الخفية لظاهرة التشرذم المتكتلة بتأثير وقوة التخلف المعنوي في «جيوش» الحثالة الرثة، التي كانت وما تزال الضحية الكبرى لزمن الراديكالية الفارغ. فقد أفرغت الراديكالية المجتمع والعقل والضمير والرؤية من أي مشروع عقلاني. وليس مصادفة أن تكون في أواخر حياتها الأكثر ولعا في افتعال زيف التقية ودعاية «الصحوة الإيمانية» من اجل تشكيل جيوشا إضافية «مقدسة» (من القدس) وفدائييها الذين مهروا في جعل العراق وما فيه مجرد كبش فداء لرذيلة السطوة والاستبداد.

إن هذا «التسلسل» المحتوم في تعميق وتوسيع نفسية وذهنية التجييش والتسلح يؤدي بالضرورة إلى تجذر نفسية وذهنية العنف والإرهاب المميز للراديكالية بشكل عام والإسلامية بشقيها الشيعي والسنّي بشكل خاص في ظروف العراق الحالية. حيث تجري استعادة العبارة «الثورية» عن العنف و«العنف الشرعي» وما شابه ذلك من اجل تبرير نفسية وذهنية العنف نفسها. وتشير هذه الظاهرة أولا وقبل كل شيء إلى ضعف فكرة المجتمع المدني والدولة الشرعية. وفيها ينعكس أيضا انعدام وعي الذات التاريخي في ميادين الثقافة السياسية والاجتماعية والحقوقية. بحيث يجري تحويل الفكرة المتسامية عن ضرورة القوة الداعية إلى «إرهاب أعداء الله» إلى جزء من «إرهاب عدوكم». وإذا كان العدو الدائم للراديكالية هو المؤسسات ووعي الذات التاريخي حينذاك يصبح الإرهاب الشامل ضدهما هو الأسلوب النموذجي لتخريب الحرية والنظام ووعي الذات (الثقافي). أما الحصيلة المترتبة على ذلك فهي خراب المجتمع والفضيلة. وكشف تاريخ العراق الحديث بصورة نموذجية عن هذه النتيجة بحيث يمكننا الحديث عن راديكالية عراقية هي بحد ذاتها نموذج كلاسيكي لما يمكن أن تؤدي إليه الراديكالية من طريق مسدود في ميدان بناء الدولة والمجتمع والثقافة.

وفيما لو حاولنا تكثيف الرؤية النقدية للظاهرة الراديكالية في العراق الحديث، فمن الممكن صياغتها بالشكل التالي: إن مقدسها الأوحد هو يقينها الخاص بما تعتقده. الأمر الذي يجعل من أفعالها تضحية دائمة لا غاية منها سوى «البرهنة» على «صحة» و«عظمة» عقائدها وشعاراتها المتعالية في سماء الأوهام. إلا أن الراديكالية لا تتحسس الآلام لأنها تجرّب كل نماذج الكسر العنيف على الآخرين، ولا تستمع لأي تأوه واعتراض ونقد لأنها تجد في الآهات نغم الوجود، وفي الاعتراض حجرة على قارعة الطريق، وفي النقد تشكيكا باليقين، ولا ترى الماضي لأنها تحتقر تجارب الأسلاف، كما أنها لا تشاهد الحاضر لأن عيونها شاخصة صوب مستقبلها فقط، ولا تشم نتانة الاستبداد المتصاعدة من استهتارها بالحق والحرية لأنها مصابة بزكام التأفف من الهواجس والخواطر والأفكار المخالفة لها، ولا تتذوق طعم الحياة لأن ما يثير غريزتها دماء «الأعداء». أما الحصيلة فتقوم في تحول العقل عندها إلى هوى، والحدس إلى هراوة

إن الحصيلة العامة التي يمكن التوصل إليها من خلال دراسة وتحليل مختلف جوانب الظاهرة الراديكالية بشكل عام والعراقية بشكل خاص، هو أن تاريخها يبرهن على أنها بلا تاريخ فعلي بمقاييس الدولة الحديثة والفكر النظري العلمي. وذلك لأن حياة الراديكالية وعلمها وعملها وحياتها ونشاطها ما هو إلا الإفراغ الدائم للحياة والعلم والعمل والنشاط من عناصر الوعي الذاتي. وهي نتيجة متنوعة المظاهر ومختلفة المقاييس بفعل تنوع القوى الراديكالية وتباين مقدمات ظهورها الملموس، إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة الظاهرة كما هي. ومن الممكن أن نتخذ من التيار الصدري الجديد وظاهرة الغلاة السلفيين الجدد نموذجاً «حيا» للظاهرة الراديكالية العراقية الجديدة.(يتبع....).

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم