قضايا

العراق - نقد الواقع وتأسيس البدائل (6)

ميثم الجنابيالظاهرة الصدرية.. الراديكالية الشيعية المعاصرة (2-2)

يمكننا في الإطار العام القول، بأن «التيار الصدري» بوصفه ظاهرة راديكالية يبرهن من جديد على أن الحثالة الاجتماعية ليست مستعدة على بلورة رؤية سياسية أخلاقية قادرة على تجاوز مفاهيم الحثالة وتصوراتها وأحكامها لما جرى ويجري. ومن ثم فإن ممارساتها ككل لا تفعل إلا على إعادة إنتاج مختلف مظاهر الإفساد والانحطاط والتخلف والاستبداد. وهو أمر يشير بدوره إلى طبيعة الضعف التاريخي والثقافي للظاهرة الراديكالية في العراق. ومن الممكن رسم الملامح العملية لهذا الضعف وأثره اللاحق على مجرى العملية السياسية في الموقف من قضيتين، شكلتا بعد سقوط السلطة الصدامية عام 2003 «مفاصلا» يمكن من خلالها إدراك حدود الظاهرة الصدرية، والمقصود بذلك ما يسمى «بمعركة النجف» و«مفتاح الصحن العلوي»، اللتين لعبتا دورا كبيرا في تاريخ التيار الصدري من حيث كونه ظاهرة راديكالية.

فقد كانت «معركة النجف» الميدان الذي جرى فيه للمرة الأولى اختبار القوى السياسية العراقية بشكل عام والراديكالية منها بشكل خاص. إذ كشفت من حيث مقدماتها ونتائجها عن طبيعة وحجم القوى السياسية المشتركة فيها، وكذلك بنية وغاية كل منها. كما أنها أظهرت حجم ودور الراديكالية السياسية في ظروف العراق الحالية والمستقبلية. وهي معادلة كشف الزمن اللاحق، وخصوصا قبل وبعد الاستفتاء على مشروع الدستور الدائم (نهاية 2005) عن أثرها ومحتواها الفعلي.

فمن المعلوم، إن قيمة الأحداث التاريخية تدرك بمستوى وكيفية حسمها للإشكاليات الكبرى التي تواجهها الدولة والأمة. وبغض النظر عن المجرى السريع لحسم «معركة النجف» التي دارت رحاها في أيام معدودة بين رجال مهلهلي الثياب بأسلحتهم الخفيفة وقوة تكنولوجية عسكرية هائلة مدعومة بقوات حكومية وتأييد سياسي رسمي ومجافاة شعبية لا تخلو من استياء وشماتة من «السوقية»، أي حثالة المدن والأرياف العراقية. لكنه حسم كان يحتوي في أعماقه على أبعاد لا علاقة لها بالصراع الدامي بين قوات «عقلانية» وأخرى محكومة بتقاليد الاستعداد المتحمس «للمهدي». وحالما التقت الجيوش الأمريكية وجيش المهدي في الأزقة الخربة، فإن عجاجها وضجيجها أنتج تلك «الصحوة» المفاجئة بالخروج من مدينة لم تحاصر إلا بقوة التوتر وثقل المرجعيات الواقعية والوهمية لرجال الدين والدنيا. وعندما نترك هذه المقارنة للزمن لكي يكشف عن أبعادها التاريخية الفعلية، فإن مما لا شك فيه هو أثرها الكبير والمهم بالنسبة لآفاق وإمكانية الراديكالية السياسية العراقية الجديدة كما مثلها التيار الصدري. وذلك لما في مقدماتها ونتائجها التي جرت عام 2004 من أهمية بالنسبة لجميع القوى التي كانت وما تزال تمثل الطيف العام للصراع السياسي في العراق.

فقد كانت «معركة النجف» من حيث مقدماتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بصراع القوى الاجتماعية والسياسية العراقية من اجل «حسم» موقعها في السلطة الجديدة. كما أنها كانت المعركة التاريخية الأولية الكبرى للراديكالية العراقية التي نشأت من تراكم الأحداث الداخلية. فهي القوة السياسية العراقية الكبرى، وقد تكون الوحيدة، التي نشأت من تلقائية التراكم الذاتي السياسي والاجتماعي والاقتصادي العراقي. مما أعطى لها زخما راديكاليا كبيرا أيضا من حيث تمثلها وتمثيلها لآمال وأماني وأحاسيس الشرائح الاجتماعية العريضة والمهمشة، أي الأغلبية العراقية التي أخذت تعي نفسها بنفسها بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية، وتطالب بحقوقها وشرعية تمثيلها للمصالح الوطنية.

فالوطن العراقي الفعلي كان (وما يزال لحد ما) كمية من الشرائح الاجتماعية المنهكة في حروب الصدامية واضطهادها الرهيب للفرد والجماعة والمجتمع، وانتهاكها المريع لكينونة العراق والعراقيين. ووراء هذا الواقع كانت تختفي مغامرات القوى السياسية العراقية «الخارجية»، التي كان دخولها للعراق اقرب ما يكون إلى هجوم من اجل الاستيلاء عليه. وشأن كل قوى سياسية مغتربة ومتغربة لفترة طويلة لم تكن راغبة تماما به، حالما تبين لها بأن الوطن الذي تواجهه ليس الذي كانت تصبو إليه، وإن الوطن هو ليس عراق الماضي والأحلام، بل عراق السخام والأسقام، أي كل هذا الكم الهائل من الشرائح الرثة. مما جعلها تتراوح بين الامتعاض والانزواء. وفي كلتا الحالتين كانت السلطة فقط (مجلس الحكم الانتقالي) ميدان سباقها المحموم بما في ذلك في تمرير السياسية المغامرة من اجل حسم المعارك الجديدة. وبهذا المعنى كانت معركة النجف من حيث مقدماتها وغاياتها الفعلية معركة بين القوى السياسية «الخارجية» و«الداخلية»، أكثر مما هي معركة بين القوى الوطنية العراقية والأمريكية الغازية. فقد استدرجت قوات «الخارج» (المعارضة السابقة) قوات الداخل (التيار الصدري) إلى معركة خاسرة. وجرت من جانب «القوى الخارجية» بحكم موقعها المناوئ للسلطة الصدامية وضعف قدرتها الذاتية على إدارة الصراع السياسي والاجتماعي، بينما جرت من جانب «القوى الداخلية» بفعل سكرتها الشديدة من نبيذ الراديكالية الرخيص. أما النتيجة فهي «كسر أنف» التيار الصدري. إلا أن مفارقة هذه الظاهرة تقوم في كونها المعركة التي جعلت من التيار الصدري ملاكما جيدا بعد أن فقد شموخ الأنف العظمي ليكسب مرونة المعارك اللاحقة. تماما بالقدر الذي أدت إلى جعله قادرا على تمثل بعض مكونات وعناصر الضمير الوطني العراقي المنافي والمتعالي عن نزوع الطائفية السياسية التي أصبحت البضاعة الأكثر رواجا لقوات الخارج «الديمقراطية»!!

ذلك يعني انه إذا كان من الممكن الحديث عن فضيلة وفائدة تخدم مشروع إعادة بناء الهوية الوطنية العراقية في مجرى الأحداث الدامية لمعركة النجف وبعدها، فإنها تقوم في مساهمتها الموضوعية على تذليل تقاليد الراديكالية السياسية والتوتاليتارية في العراق. فقد قيل قديما بأن الآلهة قد تخطأ، لكنها لا تظلم. وهي معادلة كانت وستبقى حية أثناء الحرب والسلام والفشل والنجاح في حال النظر إليها، باعتبارها مرجعية مجردة في سموها الأخلاقي. ويمكن وضع هذه الفكرة بعبارة اقرب إلى فهم الذهنية المعاصرة، والقائلة بأن المساعي الأخلاقية والروحية الكبرى قد تتعرض إلى فشل ومآس، إلا أنها لا تفعل في نهاية المطاف إلا على شحذ ذهنية الأفراد والجماعات والأمم بالشكل الذي يجعلها قادرة على مواجهة ذاتها بمعايير الحق والحقيقة.

فقد كانت مختلف مظاهر «معركة النجف» مجرد أشكالا متنوعة لما يمكن دعوته بمعركة النجف الكبرى، أي معركة الرجوع إلى حقيقة الهوية الوطنية العراقية التي لعبت النجف دورا تاريخيا هائلا في بلورة وصياغة عناصرها الثقافية الكبرى. ذلك يعني أنها إحدى الظواهر والمراحل التي لابد منها من اجل شحذ ذهنية ونفسية الأفراد والجماعات العراقية من اجل تكاملهم لاحقا في هوية واحدة تعي ذاتها بمعايير الحق والحقيقة. فقد كان آنذاك من السهل النظر إليها بمعايير الطائفية والجهوية والحزبية الضيقة وما شابه ذلك، لكن حقيقة مداها ومدارها أوسع من جميع الأحكام الجزئية المذكورة. والقضية هنا ليست في أن النجف «مدينة مقدسة»، بل على العكس تماما! إذ لا قدسية في المدن والأماكن والتواريخ والأحداث. وذلك لأن حقيقة المقدس تقوم في ما لا يمكن ابتذاله، أي انه شيء لا كالأشياء، مثل الحقيقة والجميل. ومن ثم لم تكن «معركة النجف» سوى إعادة إجلاء جديدة لحقيقتها التاريخية باعتبارها مركزا من مراكز صيرورة الوعي القومي والوطني والثقافي العربي والإسلامي.

طبعا ليس في هذا الحكم من جبرية ترتقي إلى مصاف الإقرار بالقضاء والقدر، إلا أن مما لا شك فيه أن «معركة النجف» التي هزت الضمير العراقي آنذاك كانت تشير إلى طبيعة وحجم الخلل الكبير الكامن في بنية الدولة العراقية الحالية والسلطة والمجتمع والوعي السياسي للأحزاب والحركات. والمقصود بذلك ضعف القوى الاجتماعية والسياسية جميعا وانتشار وسيادة ما يمكن دعوته بنفسية المؤامرة فيها. فهي النفسية التي كانت تتركز فيها ومن خلالها أحزمة الخلل المشار إليه أعلاه.

فمن الناحية الظاهرية يمكن النظر الآن إلى «معركة النجف» على أنها خاطئة من حيث قواها ووسائلها ونيتها وغايتها. لكنه نظر لا معنى له بمعايير الرؤية التاريخية الدقيقة. وذلك لأنها جزء من مستقبل مجهول، أو ما كانت تطلق عليه تقاليد الفلسفة الإسلامية مصطلح «سر الغيب». وهو الغيب الذي بدأت ملامحه تتضح الآن بغض النظر عن مآسيها آنذاك. فالمآسي عرضة للزوال والنسيان، و"معركة النجف" باقية من حيث كونها مرجعية اجتماعية سياسية، أي تجربة ومدرسة كبرى بالنسبة للوعي السياسي، وليس لمرجعية البنية التقليدية التي لا يضفي عليها الزمن شيئا غير غبار التبجيل المتطاير من أنفاس العوام المتعبة وذهنيتهم المتهيبة من كل ما هو عتيق! بعبارة أخرى، إن "معركة النجف" ومآسيها المباشرة لم تظلم العراق من حيث محتواها الباطني! وذلك بفعل "دورها" التاريخي في تذليل النقص الجوهري الذي لازم وما يزال يلازم بناء الهوية الوطنية العراقية والإشكاليات التي تواجهها. والشيء نفسه يمكن قوله عن قضية ما يسمى بمفتاح المرقد العلوي، التي كانت في مظهرها الصيغة الرمزية لمعركة النجف، أو مفتاحها الأول والأخير! فقد كشفت هذه القضية برمزيتها السياسية عن المصير التاريخي للراديكالية الجديدة كما مثلها التيار الصدري.

إن الأمم تصنع في مجرى تاريخها رموزها الخاصة، بوصفها الصيغة الأكثر كثافة لتجاربها المتنوعة في مختلف ميادين الحياة. وعلى قدر وعمق تجاربها تتراكم وتنفعل رموزها التاريخية في سبيكة وعيها الاجتماعي. من هنا فاعلية الرمز التاريخي في الرؤية الوجدانية والسلوك العملي خصوصا في مراحل الانعطافات الحادة والدامية. فالأفراد والجماعات والأمم لا تستطيع العيش والتأمل والالتفات إلى الماضي وتأمل المستقبل دون رموز تعطي لها حق الصراخ والصمت، والحزن والفرح، والعصيان والاطمئنان، والسكينة والهيجان. إذ تعطي الرموز للمرء والجماعات والأمم حق الالتفات إلى الماضي والنظر بعيونهم الباكية فرحا أو حزنا إلى ما ينبغي القيام به من اجل السير نحو مستقبل مجهول بوجدان يقترن بيقين الماضي. فقد أطلقت الثقافة الإسلامية على هذه الحالة عبارة "عالم الغيب والشهادة"، أي الاقتران المحير والمدهش للعقل والضمير في تأمل المشهود والغائب في الكون والوجود والأنا. وهي حالة وقف أمامها العراق المعاصر متحيرا ومذهولا، عندما تحوّل مرقد الإمام علي و«مفاتيح» الدخول إليه إلى إحدى قضاياه السياسية الكبرى والدامية في الوقت نفسه.

فمن الناحية التاريخية ليست هناك من شخصية كبرى في تاريخ الإسلام استطاعت أن تستثير خفايا الوعي والضمير وتضارب المشارب والتقييمات كشخصية الإمام علي بن أبي طالب. ففي مجمل كيانه الواقعي يبدو لغزاً، وفي مجمل صورته التاريخية كياناً من الصعب احتوائه. فهو من الشخصيات، التي لا يلزم بالضرورة التعامل معها في مقولات الأحكام المجردة ومنطق السياسة المعاصرة وهمّ المصالح العابرة. فالتاريخ في شخصياته النبيلة أوسع وأعمق من أن يخضع لميزان تناقضاته المباشرة. واستطاع الإمام علي أن يجسد في ذاته أحد مبادئ الوجود الكبرى القائمة في فكرة الحق والعدل الإنساني. مما جعل منه أحد الرموز الكبرى التي لا يعقل ولا يقبل تاريخ العراق بدونها. فهو الرمز الذي يقبع عميقا في صراخ العراقيين وصمتهم وأفراحهم وأحزانهم وعصيانهم واطمئنانهم وسكينتهم وهيجانهم. وفيه يمكن تفهم سرّ «الصراع» من اجل الاستحواذ على «مفاتيح» الدخول إليه، وهو الذي كانت أبوابه مشرعة على الدوام للجميع!

فمن الناحية «المادية» ليست مفاتيح الصحن العلوي أكثر من مفتاح عادي لفتح أبوابه، وبمعناها «الاقتصادي» هي وسيلة الدخول على الهدايا المقدمة إليه أو سرقتها! ولعل المفارقة الروحية القائمة وراء اعتبارات «المادة» و«الاقتصاد» تقوم في تحول الإمام علي نفسه إلى ميدان للحراسة والسرقة المحتملة من جانب أولئك الذين يدعون الانتماء إليه وتمثيل ما كان يسعى إليه. وتعبّر هذه الحالة عن مستوى الانحطاط الفعلي في العراق بشكل عام، وفي الحركة الشيعية العراقية بشكل خاص. إذ تشير هذه الحالة في الواقع إلى مستوى تهشم القيم الأخلاقية والمعنوية للتيار الراديكالي الذي جسّده «التيار الصدري». مع انه كان يحتوي في أعمق أعماقه على تمثل «الحق العلوي» الداعي للعدالة من خلال مصادرة ما تمتعت به العائلات «العلوية» الارستقراطية على امتداد قرون من الاستحواذ شبه التام على الثروات المتكدسة من عرق ودماء الجماهير الشيعية. وهي ظاهرة يمكن رؤيتها بالعين المجردة في تناقض بيوتهم وبيوت المحلات النجفية، أو قذارة المدينة ونمطها المتهرئ على خلفية الصحن العلوي المليء بالذهب والمجوهرات، أو بين ما تمتلكه هذه العائلات «العلوية» الارستقراطية من ثروة وثراء فاحش وافتقار المدينة لأبسط مقومات الحياة المدنية المعاصرة. وليس مصادفة أن يجعل التيار الصدري من نفسه «مسئولا» عن المرقد العلوي والصحن الشريف بعد أن «صادره» بطريقة مميزة لنفسية وذهنية الحثالة الاجتماعية. إذ وجد في «المفتاح» الأسلوب السحري للاستحواذ على القوة الروحية للمرقد. لكنها لم تكن في الواقع أكثر من «مصادرة ثورية» أو سرقة عادية. ومن ثم لم تكن حماقات التيار الصدري في السرقة سوى الوجه الآخر، أو المعارض لرزانة الارستقراطية التقليدية في السرقة.

والقضية هنا ليست فقط في أنها فسحت المجال أمام الحثالة الاجتماعية «للسيطرة» على «ثروات» هائلة، بل وفي انتهاكها لتقاليد «الأمانة» التاريخية المتعلقة بنقل المفاتيح بوصفها الصيغة الرمزية للأمانة المعنوية المتنقلة في الأجيال. لاسيما وانه الأسلوب الضروري لتراكم الثقة وتقاليدها الرمزية التي تفقد الثروة المادية بدونه قيمتها الروحية والمعنوية. إذ ليس المرقد العلوي في الواقع سوى توليف نموذجي لوحدة المادي والروحي المتراكمة في مجرى معاناة العراقيين من اجل تحقيق المبادئ المتسامية التي مثّل الإمام علي في كينونته الكلية أحد نماذجها الرفيعة. الأمر الذي كان يجعل من فتح أبوابه والدخول عليه والمثول بين يديه أحد الرموز الأكثر أهمية بالنسبة للوعي العراقي في الاقتراب من المنهل المتسامي لتمثيل ما يسعون إليه. وهو فعل لا غرابة فيه بالنسبة للأفراد والجماعات والأمم جميعا.

فالجميع تبحث عن «مفتاح» لحل مشاكلها! وليس مصادفة ألا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون «مفتاح» بوصفه الجزء العضوي لعيشه المدني. كما انه ليس غريبا أن يرتقي المفتاح إلى مستوى الماوراطبيعي، بحيث جرى ربط «مفاتيح الأمور» بيد الله، أو أن يتحول الله نفسه إلى حامل مفاتيح الغيب والمجهول. وكان يمكن ملاحظة اغلب أبعاد هذه الصيغة النفسية في الصراع الذي كان يدور في الخفاء والعلن بين مختلف تيارات الشيعة من اجل الإقرار «بمرجعية» مقبولة وشرعية لمسك مفاتيح المرقد العلوي. ويعبّر هذا الصراع "الطبيعي" عن ظاهرة هبوط المقدس إلى مصاف الحياة الواقعية. كما انه صراع يكشف مرة أخرى عن أن المصالح الواقعية هي المصدر الحاسم في تغير مضمون المقدس، خصوصا حالما يصبح ممكنا وزن أي شيء بميزان المصالح العابرة. وهي الصيغة الأقرب والأكثر التحاما بجسد الراديكاليات السياسية وأرواحها. وقد قدم "التيار الصدري" في صراعه المرير ضد "المرجعية الشيعية" من اجل أبعادها عن «الصحن الشريف» عبر الاستيلاء على مفاتيحه نموذجا «حيا» عن النفسية الراديكالية وذهنيتها السياسية. إذ لم يكن الدفاع عن «قدسية» الصحن الشريف والمرقد العلوي و"حرمة الإسلام" و"المبادئ" سوى الأسلوب الدعائي لمصادرة الموارد التقليدية التي يجتذبها "المكان المقدس". فقد غاب "المفتاح" بعد مقتل حامله الرفيعي ليظهر مع ظهور أفواج "جيش المهدي" فيه! وهي حالة فجة للغيبة والظهور، كما بلور تاريخ التشيع صيغتها المجردة في مجرى معاناته الفكرية والروحية والوجدانية والسياسية على امتداد قرون. فعوضا عن غيبة الإمام وظهوره من اجل إحقاق العدل بعد أن ملئت الدنيا ظلما وجورا، والتي سعت المرجعية التقليدية لتمثلها وتمثيلها دينيا ودنيويا، نرى غياب المفتاح وظهوره بأيدي «جيش المهدي» الممتلئ بحثالة المدن والأرياف. وتحول الدفاع عن المقدس إلى أسلوب لسرقة قدرته على اجتذاب أضحية الناس المادية!

وترمز هذه الحالة إلى واقع الانحطاط الشامل للراديكالية السياسية الشيعية، التي لم تتعظ بعد من تجارب العراق المعاصر، بحيث نراها تعيد وتستعيد بحمية مفرطة كل أخطاء الراديكاليات السياسية. ومن الممكن البحث عن سببها غير المباشر في طبيعة الخراب الشامل الذي أحدثته التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية من جهة، وفي تاريخ المرجعية «الرسمية» التقليدية من جهة أخرى. إلا أن ذلك لا يغير من واقع استخفاف "التيار الصدري" من قيمة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. وهو استخفاف ناتج من خفة "التيار الصدري" وطبيعة مكوناته الاجتماعية ومستوى التأهيل المعرفي والمهني الذي لا يصعب قياسه بأي ميزان مهما كان ضعيفا ومتخلفا من مقاييس المعاصرة والحداثة. وهو السبب القائم وراء جهله التام بقيمة العمل السياسي والديمقراطي والحقوقي. بحيث تحول منطق السلاح إلى سلاح المنطق الوحيد في التعامل مع النفس والآخرين. وهو سلاح خشبي سرعان ما تكسر في أول مواجهة جدية. وبغض النظر عن الآلية التي جرى بمساعدتها جر "التيار الصدري" إلى معركة خاسرة منذ البدء، فإن طبيعة التيار نفسها كانت تجبره في الواقع على خوض غمارها باعتباره امتحانه الأول. وهو امتحان كانت النخب السياسية العراقية المغامرة، التي ملئت آنذاك (مجلس الحكم الانتقالي) تهدف من خلالها إلى رميه في الهاوية. وحالما وقع فيها أدرك بصورة أولية الحقيقة القائلة، بأن مفتاح الأمور الكبرى لا ينبغي سرقته من اجل الاستحواذ على "المقدس"، بل ينبغي صنع نموذجه العقلاني من اجل الدخول إلى عالم العراق المعاصر ومواجهة إشكالاته الواقعية.

وهو درس لم يتعلمه "التيار الصدري" آنذاك بصورة جيدة. لقد اعتقد بأن الخروج الذي يمكنه أن يحفظ ماء الوجه يقوم في إرجاع المفتاح إلى "المرجعية الموقرة". بينما كان ذلك مجرد خروجا فرديا يرمز إلى حقيقة تقول، بأن المرجعية الشيعية «الرسمية» قادرة على أن تكون صمام الأمان المقبول في مواجهة الإشكاليات التي تثيرها زوبعة الراديكالية السياسية. بمعنى تحولها إلى الكيان الذي يتحمل أخطاء الرعونة الراديكالية من خلال رمزية حمايتها للمرقد العلوي، الذي مازالت آمال العراقيين ترقد فيه بسكينة تنتظر «مهديا» جديدا بلا «جيش» من حثالة المدن والأرياف! أما الدرس السياسي الأكبر الذي كان ينبغي أن يتعلمه "التيار الصدري" والحركات الراديكالية الموجودة والقابلة للنشوء في ظروف العراق الحالية فيقوم في ضرورة إرجاع مفاتيح الأمور المادية والمعنوية إلى مرجعية الرؤية العقلانية والواقعية الهادفة إلى بناء الهوية الوطنية العراقية على أسس جديدة تتجاوز تقاليد وميراث الراديكالية السياسية. ولا يعني ذلك في ظروف العراق الحالية والمستقبلية سوى ضرورة إرجاع مفاتيح الأمور والمستقبل إلى المؤسسة الشرعية، أي إلى الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي السياسي والمجتمع المدني. (يتبع....)

***

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم